الدولة الكردية.. بين الوهم والحقيقة
الراية القطرية – 5 تشرين الثاني 2014
تجتاح صور القائد الكردي عبد الله أوجلان شوارع عين المريسة، المنطقة الراقية من بيروت، لم تعد عين العرب (كوباني) بعيدة عن لبنان، التعاطف موجود، مئات الأكراد يهتفون في الشارع ضد رجب الطيّب أردوغان، والسياسة التركيّة المتبعة، وليس هذا بتفصيل ثانوي، إنه نبض في صلب الصحوة الكرديّة التي تجتاح دول المنطقة.
إسرائيل قالت كلمتها، تريد دولة كردية ما بين إيران والعراق وتركيا وسوريا، ترفض أن تبقى الدولة العنصريّة الوحيدة في المنطقة، وهدفها استحداث قضيّة جديدة كي ينسى العالم قضيّة فلسطين، ويتسنّى لها الوقت والظرف لتهويد القدس، وتوسيع دائرة الاستيطان.
الأكراد بأطيافهم وأحزابهم وتنوعاتهم متضامنون مع هذه الفكرة، لكنّهم متفاهمون على إبعاد الشبهات، لأنهم يعرفون الثمن، إنها حروب إبادة جماعيّة إذا ما خرجوا يومًا بشعار الدولة إلى العلن في ظلّ الزلزال العنيف الذي يضرب الشرق الأوسط. يعرفون أن ما يفرّق بين تركيا وسوريا، وتركيا والعراق وإيران، أكثر مما يجمع، لكنهم يعرفون أيضًا أن المطالبة العلنيّة بالدولة الكرديّة، ستدفع بالأربعة إلى تناسي الخلافات، والتضامن لمواجهة هذا المشروع. حتى ولو سقطت كوباني في قبضة “داعش”، فإنها ستبقى بالنسبة للأكراد “أرض ميعاد!”.
احتلّت كوباني مساحات واسعة في الإعلام. مطولات عن سير المعارك، والتحالفات، والتدخلات، إلاّ أن الحقائق الأربعة ضاعت بين التفاصيل. الحقيقة الأولى أن الأمريكي فرض على زعيم حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري صالح مسلم أن يقبل بقوات دعم من جيش البشمركة. في كوباني تمكّن الأمريكي من تدشين أول تجربة قتالية ميدانيّة ما بين أكراد سوريا، وأكراد العراق رغم الفوارق السياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة الكبيرة.
الحقيقة الثانية أن الأمريكي أرغم الإيراني على إمداد إقليم كردستان بالأسلحة. نماذج من الأسلحة الإيرانيّة عبرت الأراضي التركيّة مع قوات البشمركة إلى كوباني تحت نظر الرئيس رجب الطيّب أردوغان، وعلى مسمع من الرئيس بشّار الأسد. الرسالة واضحة، وبرسم الجارين اللدودين معًا، سلاح إيراني على الحدود التركيّة، وسلاح إيراني في سوريا خارج قبضة النظام!.
الحقيقة الثالثة أن كوباني خرجت من جلدها، لم تعد ساحة محليّة لصراع تقليدي حيث يريد “داعش” السيطرة والتمدّد، فيما يريد الأكراد الصمود، وتسطير الملحمات والبطولات. كوباني اليوم على خريطة التحالف الدولي، هي المكان والزمان والساحة والنموذج لقياس التحالفات، وسبر أغوار الغرف السوداء المحليّة والإقليميّة لفضح كلّ مستور حول ما يخطط في الكواليس، تحت شعار المشاركة في التحالف لضرب الإرهاب.
لقد أخطأ رجب الطيب أردوغان مرتين، الأولى: عندما خرج بشروط أربعة للمشاركة في التحالف الدولي. التركي يريد الاشتراط على الرئيس باراك أوباما، والولايات المتحدة، وأوروبا، للمشاركة في ضرب الإرهاب، وهذه عنجهيّة لم يستخدمها الرئيس الروسي بوتين في أوكرانيا لمواجهة التحالف الأمريكي – الأوروبي الداعم للحكومة المركزيّة!. والثانية: عندما أرسل جيشه إلى الحدود للتفرّج على ما يجري داخل كوباني، وكأن في الأمر نزوة “إمبرطوريّة”، فإن انتصر “داعش”، فمربط خيله في أنقرة، وتعرف كيف تدجّن غروره، وإن انتصر الأكراد، فإن هامش المناورة يبقى عريضًا لامتصاص نقمة أكراد الداخل التركي!”، إلاّ أن الولايات المتحدة أبلغت الرسالة من خلال دعمها غير المباشر للحراك الكردي داخل تركيا!.
الحقيقة الرابعة أن كوباني فرضت متغيرات في الحسابات التركيّة، والسوريّة، والعراقيّة، والإيرانيّة. في دمشق فرض صالح مسلم خصوصيّة جديدة، لم يعد أكراد سوريا جالية ملحقة بالنظام، أو فصيلاً ملحقًا بالمعارضة، هناك استقلالية في القرار والخيار، وإن كانت الكفّة تميل نحو التعاون مع النظام لضرب “داعش” الذي يستهدف الجميع. في بغداد لم يتغيّر المشهد مع حيدر العبادي عمّا كان عليه في زمن نوري المالكي، الإقليم الكردي يزداد نفوذًا واستقلاليّة، وإذا بقي ضمن الفيدرالية العراقية، فوفق شروطه وحساباته، وليس وفق شروط وحسابات الطيف الشيعي في العراق.
في إيران هناك تعديل واضح في سلّم الأولويات، التوصل إلى تفاهم حول البرنامج النووي أمر مهم، لكن رفع العقوبات الدوليّة دونه حسابات أخرى، وبقدر ما تتكيف طهران مع الأجندة الأمريكيّة في المنطقة، بقدر ما تشهد العلاقات انفراجًا، وأيضًا العقوبات!. في أنقرة، آن لأردوغان أن يعيد النظر في شروطه، فلا المنطقة العازلة ممكنة في الوقت الراهن، ولا إسقاط بشّار الأسد أولوية أمريكيّة، بل على العكس، هناك تبادل لرسائل الغزل، والرسالة الأخيرة أن واشنطن لا تريد إسقاط الأسد بل تقوية المعارضة المعتدلة لحمله على العودة إلى جنيف!.
انقضى شهران وأكثر على الحصار، ولم يعد السؤال متى تسقط كوباني، بل متى تسقط منظومة الأمن الداخلي لكل دولة من الدول المتورطة بشكل أو بآخر. سوريا عندها ما يكفيها، وأيضًا العراق. تبقى الأعين شاخصة باتجاه تركيا، حزب العمّال الكردستاني إرهابي بنظر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، وزير الخارجيّة مولود جاويش أوغلو ينتقد علنًا “المزاجيّة والشخصانيّة” في سياسة الدولة الخارجيّة، في البداية كان هناك رفض “أردوغانيّ” مطلق لعبور البشمركة نحو كوباني، وفجأة تغيّر الموقف، وما كان مرفوضًا أصبح مقبولًا، تصرّف قد يليق بدولة هامشيّة، ولكنه لا يليق بدولة من وزن تركيا.
بريت ماكيرك نائب المبعوث الذي كلّفه الرئيس أوباما بناء الائتلاف الدولي ضد “داعش”، لا يرى “أننا وصلنا إلى المرحلة التي يسمح فيها بتوزيع الأوسمة على المنتصرين. إننا ما زلنا في البداية، والمعركة ضدّ الإرهاب طويلة، وهي لا تعتمد على القوّة العسكرية فقط، بل على الدبلوماسيّة أيضًا، وما قد تفرضه من متغيرات في التحالفات، وفي حدود الدول والمصالح!”. وبعد… من يستطيع أن يجزم بأن افتعال القضيّة الكرديّة، لطمس القضيّة الفلسطينية، ليست هدفًا أمريكيًّا – إسرائيليًّا مشروعًا!.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...