التقاعد والتواضع
مع الثورة السورية، جاءت كتل بشرية وشخصيات عديدة إلى حقل السياسة، لكنها في الحقيقة لم تمارس السياسة بل هواية تقديم الذات وتسويقها إلى الجمهور والعالم، ومن خلال ذلك، قامت بكل شيء إلا العمل السياسي.
حاولت المعارضة الأيديولوجية، بوعي أو من دونه، التهام الثورة في البدايات، لكن بالطبع كان من المتوقع أن تفشل. هنا مارست هذه المعارضة هواية اجترار شعاراتها وأيديولوجياتها، ولم تمارس السياسة، لتنتقل فيما بعد إلى ممارسة عاداتها القديمة في احتقار البشر والتعالي عليهم.
وخلقت الثورة فرصة لسياسيين كانوا قد تقاعدوا منذ زمن بعيد، ثم عادوا يحملون أوهامهم الماضية، وعندما اندرجوا في المعارضة الأيديولوجية التي تركوها منذ عقود زادوا تشوهاتها تشويهاً جديداً، فجميعهم مستغرقون في ذكرياتهم التي تخثروا عندها، وما زالوا سكارى بمحمولاتهم الموروثة في الرأس، ويحضر في أحاديثهم كل شيء إلا الواقع.
وأتاحت الثورة المجال أيضاً لمجموعة من الديناصورات، عمرياً وعقلياً، التي عادت إلى ممارسة مراهقة سياسية، حرمت منها على ما يبدو في الماضي. كما مهدت الثورة الطريق لجميع الحاملين لمظالمهم القديمة، كي يمارسوا السياسة بوصفها انتقاماً وردات فعل موتورة لا علاقة لها بالممارسة الموضوعية للسياسة.
ودخل على الخط مجموعة من الأميين في الثقافة والسياسة على السواء، وبعض هؤلاء تعلموا شيئاً في السياسة خلال السنوات الأربع الماضية بطريقة التجربة والخطأ، وهذا كان له نتائجه المرة على صعيد أرواح البشر ومصائرهم. بعضهم الآخر لم يتعلم، ولن يتعلم حتى لو دخل آلاف التجارب، فهو مفطور على الخطأ. كما لا يمكن تجاهل اندراج بعض الفاسدين في واجهة العمل السياسي المعارض، جنباً إلى جنب مع بعض الانتهازيين الذين ينتقلون من جانب إلى آخر استناداً إلى ميلان الريح، ورجحان كفة مصالحهم الشخصية.
وخلقت الثورة أحلاماً مشروعة لشباب كثيرين، لكنهم استعجلوا النمو قبل الأوان، وأصيب بعضهم بأدواء الكبار ذاتها، فقد أرادوا إثبات ذواتهم بسرعة، بلا أي تعب، ومن دون محاولة الاستفادة من أخطاء وتجارب السابقين، ومن دون الانتباه إلى أن السياسة علم ينبغي إتقان أساسياته في الحد الأدنى، ولا سبيل إلى ذلك من دون القراءة والتدرب على الحوار وهضم تجارب أصحاب الخبرة والاطلاع على تجارب الأمم.
هذا كله طبيعي في أثناء الثورات والمراحل الانتقالية في حياة الشعوب، لكن بعد أربع سنوات، وفي ظل الكارثة المتفاقمة يومياً، أصبح من المهم أن نقتنع بأهمية فكرة التقاعد السياسي من جهة، وفكرة التواضع من جهة ثانية. التقاعد ضروري كي لا يظل الأموات والفاشلون يتحكمون بمصائر البشر، والتواضع ضروري كي تقتنع الأجيال الجديدة بأهمية الاعتراف بعدم معرفتها أولاً، وبضرورة التعلم، وبذل الجهد على الذات ثانياً، كي تدخل إلى حقل الممارسة السياسية وهي مسلحة بقدرات تعفيها من تكرار أخطاء الماضي وكوارثه.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...