علي المبروك

القرآن والتاريخية


د. علي مبروك

الأهرام المصرية – 18 ديسمبر 2014

تثور بين وقتٍ وآخر مسألة «القرآن والتاريخية» بين من يُقال إنهم يسعون إلى تبخيس القرآن باختزالهم له فى كونه محض نص تاريخي، وبين من يتصورون – فى المقابل – أن الموقف الواجب منه هو تقديسه عبر التعالى به فوق أى تاريخ. ولسوء الحظ، فإن هذا التباين إنما ينبنى على نوعٍ من الفهم المشوَّش وغير المنضبط لمفهوم التاريخية؛
وعلى النحو الذى يجعل منه ساحةً للتناحر والتنابذ. وضمن هذا السياق، فإنه يبدو أن المفاهيم تتخلى عن دورها كفضاءات للتحاور والتواصل، وتتحول إلى ساحات تناحر وتقاتل، حين تصبح مجرد أدواتٍ تحسم بها الايديولوجيا معاركها القاتلة. ومن هنا وجوب أن يكون ضبط مفهوم «التاريخية» عبر تحريره من حمولته الايديولوجية الثقيلة وإعادته إلى مجاله المعرفي، هو نقطة البدء فى أى سعيٍ يقصد إلى ترتيب العلاقة بينه وبين القرآن.
فقد اتسعت «التاريخية» على النحو الذى لم تعد معه مسكونةً بالدلالة الوضعية التى وصمها بها القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها فى النظرية التى تجعل من الأبنية الفكرية والمعنوية مجرد انعكاسات لحركة التاريخ المادي. وهكذا فإنها قد تحولت- وفى سياق التطورات المعرفية التى عرفها القرن الماضي – إلى الإطار الشفاف الذى تتخلَّق داخله القابلية للفهم وإنتاج المعني؛ وبما يعنيه ذلك من أنها قد تحولت إلى بحثٍ فى «الفهم»، بعد أن كانت بحثاً فى النشأة والأصل. وضمن هذا السياق، فإن القول عن تاريخية أى شيء لم تعد تتعلق بالسؤال عن «أصله» بقدر ما تتعلق بالسؤال عن إمكان «فهمه»؛ وعلى النحو الذى يئول إلى أن التاريخية لا تعنى ما هو أكثر من جملة الشروط التى تجعل الفهم حدثاً ممكناً.
وحين يدرك المرء، أن القرآن نفسه يشير، وعلى نحوٍ صريح، إلى وجوب توافر الشروط التى تجعل الفهم ممكناً لبعض ما ورد فيه، فإن ذلك يعنى إقراراً منه بجوهرية التاريخية له هو نفسه؛ وذلك بما هى جملة الشروط التى تجعل فهم ما ورد فيه ممكناً. ولعل ذلك ما تنطق به – بكل القطع واليقين – قصة موسى والعبد الصالح التى أوردها القرآن فى سورة الكهف. فإذ يتابع موسى العبد الصالح- الذى تقول التفاسير القديمة أنه الخِضر- فإنه يشهد قيامه ببعض الأفعال التى لا تكون مفهومة له؛ من قبيل خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار، ولهذا فإنه ينكرها ويعاتب الخِضر على إتيانها. والملاحظ أنها لا تكون مفهومة له، لأنها تكون معزولةً عن الإطار الحاوى للشروط التى تجعلها قابلة للفهم، ولهذا فإنه ما إن يدرك هذه الشروط إلا ويتغير حكمه على هذه الأفعال؛ فيقبلها ويعتذر عن تسرُّعه فى الحكم عليها.
وهكذا فإنه يبدو أن القرآن إنما يستهدف بطريقته فى إيراد هذه القصة إبراز مدى الأهمية القصوى للإطار الحاوى للشروط التى تجعل الحدث – أى حدث – قابلاً للفهم. فإذ يقوم أولاً بإيراد أفعال العبد الصالح معزولة عن الإطار الذى يجعلها قابلة للفهم؛ عارضاً لما يتبع ذلك من الأحكام المتسرِّعة التى يصدرها موسى عليها بالإنكار بسبب ما يخفى عنه مما يحيط بها ويفسرها، ثم ما يقوم به أخيراً من ربط هذه الأفعال المُنكرة بالإطار الذى يجعلها قابلة للفهم؛ وبما يترتب على ذلك من قبول موسى لها، وتغيير حكمه عليها، فإنما ليبين أن الفعل لا معنى له معزولاً عما يحيط به من دائرة أوسع من الأحداث التى يكون هو مجرد جزءٍ منها، ولا معنى له فى ذاته. ولعله يمكن القول بأن القرآن هنا يقدم نوعاً من المعنى العميق للتاريخية الذى تتبدى فيه بوصفها جملة الترابطات التى يكتسب الحدث الجزئى معناه داخل تشابكاتها.
وقد انعكست التاريخية، بحسب هذا المعني، على الطريقة التى تعامل بها الجيل الأول من المسلمين مع القرآن؛ وإلى الحد الذى يبدو فيه أنهم قد تصوروه على نحو تاريخي. فإنه لو أن صحابياً، مثل عمر بن الخطاب، قد تعامل مع القرآن على أنه «مقدسٌ» لا صلة له بالتاريخية لما كان له أن يفعل ما فعله فى مسألتى «المؤلفة قلوبهم» و«توزيع الغنائم» مثلاً. فإنه لم يتعامل مع ما ورد بخصوصهما فى القرآن على أنها أقوالٌ «مقدسةٌ» معزولة عن غيرها مما يحيط بها ويفسرها، بل تعامل معها فى إطار تشابكاتها الأوسع؛ وبما أتاح له إمكان الانتقال عن الأحكام الواردة بخصوصها فى القرآن. ولعل هذا الذى فعله بن الخطاب يحيل إلى أن هذه التشابكات الأوسع ليست مجرد إطارٍ خارجى محايد يوجد فيه القرآن لكى يفعل فيه ويغيِّره، بل إنه يبدو أن هذا الإطار الواسع من التشابكات يكون بدوره فاعلاً فى القرآن؛ وإلى حد ما يقوم به من تغيير أحكامه. وإذ يفعل ذلك الإطار الواسع من التشابكات فى القرآن، فإن ذلك يعنى أنها تدخل فى تركيبه؛ وبما يقطع به ذلك من وجوب القول بتاريخيته.
وفى الختام، فإنه يلزم القول بأن شيئا، ولو كان منزَّلاً من الله، لابد أن يصبح تاريخياً فى ذات اللحظة التى يلامس فيها عالم البشر؛ وهى اللحظة التى لا يقدر البشر على الحديث عن القرآن إلا ضمن حدودها. وإذا كان المسلمون قد راحوا يستوعبون القرآن ضمن حدود تجربتهم حين راحوا يلتمسون أسباباً لنزوله، فإنه لا معنى لما فعلوه إلا أنهم كانوا يخلعون عليه التاريخية…فهل يفهم المتنطعون؟!!!

50 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>