البيت شهقة الحرية الأولى للبشرية
خاص بموقع حزب الجمهورية
أربعة جدران وسقف وباب ونافذة. هذا كل ما يمكن أن يحتاجه الإنسان لبناء بيت. يبدو هذا الاختراع سهلاً بسيطاً، وقد تجد اليوم، بيوتاً مسبقة الصنع. لكن بناء البيوت بالنسبة للإنسان الأول لم يكن أمراً متاحاً. بقي يعيش آلاف السنين، وبشكل جماعي، في الكهوف والمغاور، خوفاً من الوحوش الجائعة. وقد بقي على هذه الحالة قروناً كثيرة، لم يفكر خلالها بمغادرة القطيع، ومواجهة هذه المخاطر المحدقة به، بمفرده. ولم يكن يملك أصلاً المعرفة ولا المواد ولا الأدوات اللازمة لذلك. فكانت المغارة هي الرحم الثاني الذي لجأ إليه من أجل الحفاظ على وجوده.
إن توق الفرد للتحرر من القطيع، دفعه لخوض مغامرة العيش في الهواء الطلق، فوق سطح الأرض، وتحدي المخاطر وعاديات الطبيعية التي يمكن أن يواجهها، والتي لم يكن قد فهم قوانينها أو سيطر عليها بعد. لكن تطوره البيولوجي وامتلاكه لقشرة مخ متطورة جداً وانتصاب قامته وتحرر يديه وأصابعه وقدراته على اكتساب المزيد من الخبرة والمهارات والمعارف والخيال، مكنته بالتدريج من السيطرة المضطردة على قوى الطبيعة ووحوشها، وامتلك الشجاعة على الخروج من الكهف ومواجهة العالم. فعاش في العراء واقتات على النباتات والجذور، بالإضافة إلى الصيد، حتى امتلك المهارة اللازمة لبناء البيت الذي يشعره بالأمان والدفء والحرية.
ويُعتبر البيت، أو حتى المغارة، صلة الوصل بين الإنسان والأرض التي بنى عليها بيته أو مغارته. وربما نشأت هذه الصلة قبل أن تكتشف المرأة الزراعة، وقبل أن تتحول الجماعة البشرية من عصر الرعي إلى عصر التحضر والاستقرار وبناء المدينة. إنها المحاولة الأولى في تاريخ البشرية لاستعمار واستثمار الأرض التي ستصبح وطناً، أو محمية، والتي سيلتصق الإنسان بها ويدافع عنها بكل ما يملك من وسائل. فدفاعه عن تلك الأرض يعني دفاعه عن بيته وأسرته. وخسارته لبيته تعني خسارته لتلك الأرض.!
ويُقال إن الإنسان البدائي أنشأ، في البداية، جداراً واحداً ليصدّ عنه الريح والبرد من جهة واحدة، ثم بنى بعد ذلك بقية الجدران، من كل الجهات، وجعل لها أخيراً، سقفاً من جذوع الأشجار والأعشاب، يقيه من الثلج والمطر وأشعة الشمس. وقد ترك في أحد الجدران ممراً لدخوله وخروجه، أصبح فيما بعد باباً بطول قامته. كما ترك كوة صغيرة تحولت جيلاً بعد جيل إلى نافذة واسعة. ولا أحد يدري كم مضى على هذا التطور من القرون حتى أصبح البيت، كما نراه اليوم، مكوناً من عدة طوابق وغرف ذات خدمات مختلفة: غرفة نوم وصالون ومطبخ وحمام وحديقة، وغيره من الخدمات التي تلبي حاجات الإنسان، غير المحدودة..
لقد كان بناء البيت هو أول لبنة في بناء الحضارة الإنسانية. فمع انتقال المجتمعات البشرية من عصر المشاعة البدائية وسيادة الأنثى الأم، إلى عصر المُلكية الخاصة وسيادة الذكر الأب، بدأت تتكون الأسر والقبائل. فاتسعت البيوت وكثرت العائلات وبدأت تتشكل الأحياء والقرى ثم المدن والممالك والإمبراطوريات المختلفة..
البيت إذاً هو المدينة الكبيرة. واختراعه يُعد نقلة نوعية في حياة البشرية وتلبية حاجاتها المادية الأساسية. لكن الإنسان لم يكتفِ يوماً بتلبية حاجاته المادية فقط. فمع تطوره الذهني والمعرفي، بات بحاجة ماسة لتلبية حاجاته الوجدانية أيضاً: الروحية والأخلاقية والجمالية. ولم يعد البيت هو مجرد كومة من الحجارة يلجأ إليها أو مجرد مكان آمن ومستقر لتربية أطفاله، أو مجرد ملكية خاصة يحميها ويدافع عنها.. بل أصبح يشكل مخزناً لذاكرته ومرجعاً لحياته ومستقبل أولاده. فالإنسان، مع أنه يعتبر البيت: شقى العمر، كما يقال، غير أنه يشكل في الواقع البيئة الحاضنة للفرد وعادات المجتمع وتقاليده وقيمه ولغته الخاصة وثقافته. إنه صندوق الذكريات وملعب الطفولة، والمدرسة التربوية الأولى، الأكثر تأثيراً في حياة الفرد من الناحية المعرفية والنفسية والاجتماعية. وهو مسقط رأسه ومرتع نموه وصيرورته. والإنسان لا يرتاح إلا فيه، لأنه مكان عيشه ومخبأ أسراره وساتر عيوبه ومأواه عند العجز. وهو المكان الأول في هذا العالم، الذي تراه عيناه وتكتشفه حواسه ويدركه عقله. إنه مهد الطفولة والفتوة والشباب. بيت الجد والأب والأم والأخوة والأقارب والجيران. تشدك إليه، طوال العمر، أواصر الذكريات المشتركة والحنين الأول والتجارب الإنسانية البكر كالحب والزواج والمرض والولادة والموت، كما يشدك حبل السرّة إلى جدار الرحم.
إنه الانتماء الأول للزمان / الذاكرة، والمكان / الوطن.
والإنسان الذي لا بيت له لا تاريخ له ولا جغرافيا ولا انتماء ولا هوية. ولذلك استخدم الطغاة عبر التاريخ، تدمير البيوت وحرقها ونهبها وتشريد سكانها أو نفيهم، كواحدة من أشد العقوبات التي يستخدمونها لردع خصومهم ومعارضيهم السياسيين.
وكما أن الأسرة في المجتمعات الحديثة، تعتبر لبنة أساسية في بناء المجتمع، يعتبر البيت شرطاً لازماً لتشكل هذه الأسرة ووحدتها ونموها الطبيعي ونجاحها. ولذلك نشأ هذا التلازم بين رابطة الدم التي تربط بين الأبناء والآباء، والبيت الذي ينشأ فيه المرء مع أسرته. حتى باتت العائلات تُعرف وتلقب ببيوتها..
كما أن البيت، الذي يُعتبر حاجة أساسية من حاجات الناس، وحقاً طبيعياً من حقوقهم الأساسية، تحول إلى رمز للمُلكية الشخصية والمكانة الاجتماعية والاقتصادية، التي تتباهى بها العائلات الغنية. فنراها، وخاصة في عصر الإقطاع، تتسابق لبناء العقارات الكبيرة والفيلات الأنيقة والقصور الفخمة التي تقام في مراكز المدن، وتميّز طبقتها النبيلة عن بقية طبقات الشعب، وتفيض عن حاجتها على حساب الآخرين.. بينما تكتفي العائلات الفقيرة من الفلاحين والعمال الزراعيين، ببناء أكواخ صغيرة، من الطين والقش أو الخشب أو الصفيح، أو الحجارة، حسب البيئة التي تعيش فيها تلك العائلات. وغالباً ما تتجمع على أطراف المدن والقرى، وتكتظ بأفرادها، لكنها في المقابل تحميهم من التشرد والضياع..
وما زال هذا التمايز موجوداً، رغم أن البيوت في العصر الحديث، تحولت بسبب النمو السكاني، وحاجات المدن الكبرى، إلى شقق سكنية في مجمّعات ضخمة، تحتوي على عدد من البنايات العالية، التي تتألف عادة، من طوابق عدة وتحتوي على عدد كبير من الوحدات السكنية التي تقطنها الأسر العاملة المتنوعة، من حيث المنشأ والمهنة والثقافة، لكنها تنتمي جميعها إلى طبقة واحدة هي الطبقة الفقيرة، ذات الدخل المحدود، كما يقال عندنا في سورية، والتي تعيش على كفاف يومها. مع العلم أن الحصول على شقة سكنية، يُعتبر بالنسبة لهذه الطبقة، حلماً صعب المنال، قد يستغرق تحقيقه عمراً كاملاً، أو أكثر.. وتشكل هذه الطبقة الاجتماعية في سورية الغالبية العظمى من شعبها. وخاصة بعد أن قام نظام الفساد والاستبداد بتحطيم الطبقة الوسطى وزيادة الفارق بين الأغنياء الفاسدين المحميين من السلطة، والفقراء المعدمين المرهقين بالضرائب والأقساط الشهرية التي يضطرون لدفعها للدولة أو للشركات الخاصة، لقاء الحصول على شقة أو أثاث منزلي..
إن تدمير أو حرق أو ضياع البيت لا يعني فقط خسارة الفرد لرزقه وجنى عمره، بل يعني أيضاً تشرد الأسرة بكاملها، وتمزق وحدتها وفقدان ذاكرتها وتاريخها وأمنها واستقرارها، وضياع ماضيها وحاضرها ومستقبل أبنائها.. وعندما يتم ذلك بشكل جماعي، أي تدمير المدن، كما يحدث في سورية منذ أربع سنوات، يصبح التدمير دماراً شامل للمجتمع وتهجيراً منهجياً لشعب بكامله، يتحول فجأة إلى شعب مشرد يعيش في مخيمات غريبة.
ولا يفهم قسوة هذه الحالة ومآسيها إلا من عاشها وجربها..
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...