دعونا نراهق
الثورة مراهقة الأوطان، وكما يعيد المراهق اكتشاف ذاته، وتكوين شخصيته كذلك هو الوطن، وكما تبرز أزمة الهوية لدى الفرد في مرحلة المراهقة، كذلك تكون أزمة الهوية الوطنية في أعلى أطوارها في المراحل الثورية من التاريخ، وكما أن الفرد لا يستقر إلا في حال تحقيق هويته الذاتية، كذلك علينا الإدراك أن وطننا لن يستقر إلا بتحقيق هويته .
يبدأ أي تقارب للقوى، أو الجماعات، أو الأفراد، على السواء، عند وجود الهوية الجامعة العليا. وهي المنطلق الأساسي، الذي يجب العمل عليه في المرحلة القادمة على سورية. بل هي المنطلق الذي تأخرنا كثيرا في العمل عليه في السنوات الماضية، حتى وصلنا إلى حالة يرثى لها من تشتت الهوية الفردية، والمجتمعية، والوطنية، وقد يكون لهذا التشتت، الدور الأكبر في فشل محاولات الترقيع، والوصل التي انتشرت في الأعوام السابقة من عمر الثورة، لجمع شتات المعارضة السورية، ويتجلى ذلك في العلاقة بين القوى العربية، والكوردية. كما يتجلى في العلاقات بين القوى العربية الإسلامية، و اليسارية، فضلا عن التشتت والمناحرات الطائفية التي بدأت تنذر بانهيار كامل للمجتمع السوري، وضياع سورية، وفشل في بنائها كدولة ذات كينونة، وهوية جامعة موحدة.
قبل الغوص في أي بحث عن الهوية – الفردية أو الوطنية – لا بد من طرح سؤال جوهري، هو “هل الهوية اختيار فردي، أم أنها معطى يكتسبه الإنسان لحظة ولادته، وتلازمه إلى الأبد؟” .
يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات، بحسب كارل ماركس بالقدرة على التجريد، والإبداع، فأي عمل لا ينبثق عنهما نستطيع القول، ودون تردد، بأنه فعل ما قبل إنساني، لا يختلف عن آليات النحل في بناء خليته، أو الدجاجة في بناء العش الذي تبيض فيه، وتعتبر الحرية بمعناها العام، والواسع، الشرط الأساس لقدرة الإنسان على الإبداع. وبالعودة إلى مفهوم الهوية، لا يمكن أن نعتبر هوية الفرد، التي تتحدد بمعطيات مسبقة، هوية حقيقية، ما لم يقم الفرد بالتجرد منها، واختيارها، أو اختيار بعضها، وإعادة صياغتها، وفهمها من جديد، على أساس حر، وبعد تفكير و نقد و اقتناع بها. وبما أن الفكر الحر، فكر نقدي يعيد قراءاته باستمرار، فالهوية كائن حي، دائم التطور، وتشكيل الهوية عملية مستمرة تتطور مع تطور الإنسان، و المجتمع وليست معطى نهائيا جامداً منجزاً تشكل في لحظة ما مرة وإلى الأبد.
يسود خلط كبير لدى الكثيرين، ما بين الهوية ومحدداتها أو بين الهوية، وأحد الانتماءات، فغالباً ما يتم اختزال هوية الفرد بإحدى المحددات، فنرى مثلاً من يتخذ لنفسه هوية دينية، أو هوية قومية، أو طبقية، أو ما إلى هنالك من محددات لا متناهية للهوية، و هذا إن دلّ على شيء، فهو يدل على مرض الاختزال، الذي يجتاح مجتمعنا في جميع مستوياته. فالهوية مركب هائل التعقيد، ويتحدد بمحددات لا يسهل حصرها، بعضها موضوعي، ومعطى، وناجز وبعضها اختياري، باختيار الفرد لانتماءاته، وحتى تلك المحددات الموضوعية، فهي ليست ثابتة، أو نهائية “أن تكون ذكراً أو أنثى هو محدد موضوعي لكن كيفية التعامل والنظر للذكورة والأنوثة و فهمهما، يختلفان ما بين زمن وآخر، كما بين مجتمع و آخر” وهذه المحددات ليست متساوية في تأثيرها على تشكيل هوية الفرد، فقد يكون أحدها ضامراً في لحظة ما، وثانوياً بينما يتضخم ويصبح المحدد الرئيس في لحظة أخرى، ويتعلق هذا التضخم، بمستوى التهديد الذي يطال ذلك المحدد، فليس من الصعب أن نلاحظ كيف يرتفع حضور المحدد الديني للهوية، في أوقات الحروب الدينية، أو الطائفية، بينما يصبح المحدد القومي هو الأكثر ظهوراً، و الدافع الأكبر للانتماء للجماعة القومية، في حال تهديد قومية ما، بينما ينحسر العامل الديني ليكون علاقة شخصية بين الفرد و خالقه، في الدول الحديثة ذات الطابع الوطني، حيث يكون الفرد محترماً، و تكفل الدولة حقه بالانتماء الديني، وقد يكون ذلك أحد أسباب التعصب الطائفي، أو القومي أو المبالغة في إظهار هذه المحددات، لدى الأقليات التي تشعر أنها مهددة بشكل دائم، في البلدان التي لم تصل إلى حالة الدولة الوطنية الحديثة بعد.
هل سيفهم أهلنا في التيارات السياسية، اليوم على الساحة السورية، مراهقة ثورتنا؟ و يدعون لبلادنا فسحة من الراحة، تنضج خلالها بهدوء، وتختار هويتها، أم أنهم سينقلون أمراض كهولتهم إليها، فتنشأ مختلة، وقد لا تشفى إلى حين ؟؟
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...