أحمد سعد الدين

نظرة تاريخية على التحولات البنيوية في الاقتصاد السوري منذ الاستقلال


د. أحمد سعد الدين

منذ أن استقلت سورية في عام 1946 تعرض اقتصادها إلى تغيرات هيكلية عميقة خلال مراحل زمنية مختلفة. لحظة الاستقلال كانت سورية جمهوريةً برلمانيةً تنتهج مبادئ الليبرالية السياسية والاقتصادية. وقد تقدمت ضمن هذا الإطار بخطوات وطيدة على الصعيد الاقتصادي، خاصة في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعات النسـيجية، وقد ساعد على ذلك احتياجات قوات الحلفاء في فترة الحرب العالمية الثانية التي خلقت أسواقاً كبيرة لهذه المنتجات. وحفزّت أجواء المنافسة الاقتصادية الرأسمالية آنذاك نمو الصناعات النسيجية وعدد من الصناعات المحلية الأخرى، حتى أن سورية امتلكت آنذاك أكبر الشركات النسيجية في الشرق الأوسط (الشركة الخماسية) وقد بشر هذا بنهضة صناعية وطنية تقوم على اقتصاد السوق وآليات الربح. وكان للزراعة الدور الأكبر في التحكم بعملية النمو الصناعي، حيث شكلت المصدر الأساس للمواد الخام اللازمة للتصنيع كما رفدت القطاع الصناعي الناشئ بقوة العمل اللازمة ذات المنشأ الريفي.
وتعتبر سورية من البلدان التي امتلكت أساساً اقتصادياً متطوراً نسبياً، وقد بدأت عملية النهوض الاقتصادي في ثلاثينيات القرن الماضي (تحت الاحتلال الفرنسي)، وتسارعت في الأربعينيات (تحت ضغط الحرب العالمية الثانية)، واستمرت بخطى وطيدة حتى نهاية الخمسينيات. وقام النمو أساساً في تلك الفترة على التوسع الأفقي في الزراعة من خلال فتح أراضٍ جديدة للعملية الإنتاجية، واستخدام الري والميكنة ما أمكن. وكان التوسع يعتمد بشكل أساسي على زيادة المساحات المزروعة بالقمح والقطن والشعير، ممولاً من قبل تجار المدن الأغنياء الذين كانوا يمتلكون الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية.
إلا أن هذا التوسع الأفقي قد تباطأ أو توقف في نهاية الخمسينيات، ويعود ذلك إلى أن الأراضي الزراعية التي يمكن إدخالها بسهولة في الإنتاج كان قد تم استثمارها. وقد كان نمط العلاقات الزراعية السائدة آنذاك حتى عام 1958 لا يحفز التكثيف العمودي في الإنتاج، فالأسر الإقطاعية التي كانت تعيش غالباً في المدن الرئيسية كانت تمتلك الغالبية العظمى من الأراضي الزراعية الخصبة، وكانت تلك الأراضي تدار بشكل مباشر من قبل أسر الفلاحين الذين كانوا يتعرضون لاستغلال فاحش، وكان نمط العقود الزراعية السائد هو ما يسمى بالمرابعة حيث بموجب هذه العقود كانت أسر الفلاحين تحصل على نسبة ضئيلة من الإنتاج مقابل عملها على مدار العام.
ومن الجدير بالذكر هنا التنويه إلى الخلفية الإقطاعية للفئات البرجوازية السورية، إذ أن معظم صناعيي وتجار سورية كانوا ينتمون إلى الأسر الإقطاعية نفسها، الأمر الذي جعل مصالح البرجوازية السورية متناقضة مع مصالح الفلاحين، على عكس ما حدث في المجتمعات الأوروبية في بداية النهضة الصناعية. فقد جاءت عملية الإصلاح الزراعي في أوروبا نتيجة طبيعية لتفكك الإقطاع وتحالف الفلاحين مع الفئات البرجوازية خدمت بذلك عملية التراكم الرأسمالي. لكن الخلفية الإقطاعية للبرجوازية السورية قد جعلها تميل إلى المحافظة والتمسك وراء مصالحها الضيقة، فلم تستطع أن تطرح مشكلة الفلاح كمشكلة اقتصادية-اجتماعية يجب أن تحل حتى تنتج توازناً واستقراراً سياسياً-اجتماعياً يمكن أن يشكل قاعدةً لاستمرار النمو الصناعي وقطع الطريق على الاستبداد السياسي الذي جاء رافعا شعار الاشتراكية .
إن تخلف البنية التحتية الاقتصادية من طرق وشبكات الاتصالات والطاقة الكهربائية، والحاجة لتوسيع رقعة الأرض المزروعة أو الصالحة للزراعة، إضافة إلى عدم قدرة القطاع الخاص (على الأقل في تلك الفترة) على الاستثمار والتوظيف فيها، قد فتح الطريق واسعا أمام الاستثمار الحكومي في كل منها، نظرا لتكاليفها المرتفعة ولصعوبة إدارتها بشكل مجزٍ اقتصادياً من وجهة النظر الخاصة الأمر الذي يؤدي إلى إحجام القطاع الخاص عن الاستثمار فيها. وقد ترافقت هذه الأوضاع الاقتصادية في سورية مع اضطرابات سياسية سارت معها جنباً إلى جنب، وأفضت إلى الوحدة مع مصر التي كانت قد حسمت خياراتها في اعتماد التخطيط المركزي، الذي تقوم من خلاله الدولة بالدور الأساسي في البناء الاقتصادي، وفي هذا المناخ صدر قانونا الإصلاح الزراعي والعلاقات الزراعية، وبدأت عمليات تخطيط وتنفيذ مـشروعات حكومية كبيرة في مجالات الري والصرف والكهرباء وغيرها من البنى التحتية.
وقد تبع ذلك قرارات التأميم التي صدرت في تموز 1961، وتم بموجبها سيطرة الدولة على كامل العملية الإنتاجية في قطاعات الصناعة والتجارة والمصارف، فأُمِّمت جميع المعامل والمصارف، واحتكرت الدولة التجارة الخارجية. وقد لعبت هذه القرارات دوراً أساسياً في حرف الاقتصاد السوري عن مسار تطوره الرأسمالي الطبيعي، وكانت عاملاً هاماً في زيادة ثقل أعداء الوحدة حين انضم إلى التيار السياسي المعارض لها صناعيو وتجار المدن الكبرى، بعد أن تم تجريدهم من كامل قوتهم الاقتصادية عبر قوانين التأميم السالفة الذكر.
بوقوع الانفصال عادت الحال كما كانت عليه قبل الوحدة، ولم تتعلم الفئات البرجوازية المدينية الدرس، فلم تكتف بإلغاء قرارات التأميم، بل ألغت أيضاً مفاعيل قانوني الإصلاح الزراعي والعلاقات الزراعية، وعادت بذلك أوضاع الفلاحين إلى ما كانت عليه ودخلت البلاد في سلسلة من الانقلابات العسكرية نتيجة الفوضى السياسية والاجتماعية التي خلفها الانفصال، وقد مهد ذلك لانقلاب الثامن من آذار 1963 الذي فتح صفحة جديدة في تاريخ سورية الحديث.
لقد عانى حزب البعث منذ أيام حكمه الأولى من أزمة الشرعية، وقد كان لهذه الأزمة أسباب عديدة، لعل أهمها فقدانهم للعمق المجتمعي إثر الانفصال نتيجة مواقف بعض قادته التي وافقت عليه، ولم يكن عدد أعضاء حزب البعث يتجاوز البضع مئات في ذلك الحين، يضاف إلى ذلك أن مفاصل اقتصاد البلد كانت خارج سيطرته، الأمر الذي شكل تحدياً لاستمرار حكمه. وهذا ما دفع البعثيين في ذلك الوقت إلى إعادة العمل بالقوانين التي حملت صفة الاشتراكية، والتي سنت في عهد الوحدة، فأعادوا تطبيق قانوني الإصلاح الزراعي والعلاقات الزراعية، موجهين بذلك ضربةً قاصمة إلى الإقطاع في ظل ظروف دولية ومحلية مواتية، كسبوا عبرها ولاء كتل كبيرة من أهالي الريف، كما تم تأميم المصانع والمصارف، فأنهوا بذلك ما تبقى للبرجوازية المدينية من قوة اقتصادية.
لقد كان العامل الأساسي الذي وجه سلوك البعثيين آنذاك هو الحفاظ على السلطة بأي ثمن، إذ إن تلك القوانين التي أعادت هيكلة الاقتصاد السوري لم توضع (كما كان الحال جزئياً على الأقل في عهد الوحدة) في إطار رؤية متكاملة (وإن كانت غير صحيحة) لعملية النمو الاقتصادي، بل كانت وسائل لكسب ود بعض الفئات الاجتماعية ووسيلة لضرب قوة الفئات المناوئة، فكان التركيز على الشعارات دون اعتبار أثر تلك التغيرات على عملية النمو الاقتصادي واستدامته. ومع تغييب المحاسبة والصحافة الحرة انتشر الفساد بشكل واسع في القطاع العام نتيجة الاستزلام وشراء النفوس والضمائر وغياب المحاسبة والشـفافية في الإدارة، فلا عجب إذ تحولت في غضون سنوات قليلة معظم شركات القطاع العام إلى شركات خاسرة، أو طفيلية تقوم أرباحها على حساب المستهلك في بيئة تغيب فيها أي منافسة حقيقية.
وإذا كان قانون الإصلاح الزراعي قد ساهم في الفترة الأولى في زيادة إنتاجية الأرض والعمل، إلا أن مشكلات حقوق الملكية التي أفرزها قانون الإصلاح الزراعي نفسه والذي يسمح للحائز بتوريث الأرض دون أن يسمح له ببيعها أو تأجيرها، إضافة إلى ضعف التمويل والاستثمار الرأسمالي في القطاع الزراعي عموماً، قد أدى مع مرور الزمن إلى انخفاض نمو هذا القطاع وتفتت الحيازات وتدهور الأراضي في كثير من المناطق في البلاد.
بعد انقلاب 16 تشرين الثاني 1970 دخلت سورية مرحلة جديدة، تمكن النظام الذي صنعها لا أن يعيد هيكلة الاقتصاد بما ينسجم مع استمرار سلطته فقط، بل وعمل بالتوازي مع ذلك على إعادة هيكلة المجتمع السوري (إن صح التعبير) عبر محاولة إلحاق جميع الحركات والقوى السياسية بالنظام وتصفية الرافضين لذلك. لقد شغًّل النظام كل الأساليب التي أُتيحت له لتحقيق هذا الهدف، وكان للعامل الاقتصادي الدور البارز، ففي بداية السبعينيات وبعد خروج سورية من عزلتها العربية والدولية، تدفقت عليها الأموال من مصادر عديدة واستطاعت السلطة بناء وتشييد الكثير من المشاريع الاقتصادية بدعم من دول “المنظومة الاشتراكية” آنذاك مثل سد الفرات والكثير من قنوات الري والمعامل الضخمة ومصافي البترول واستكمل مشرع تجفيف الغاب وغيرها.
لقد حقق الاقتصاد السـوري في تلك الفترة معدلات نمو مرتفعة نسبياً (ربما هي الأعلى في نصف القرن المنصرم)، وقد دعم هذا النمو ارتفاع قيمة الصادرات الناتج عن ارتفاع أسعار النفط وتدفق الأموال على سورية من المواطنين المغتربين في دول الخليج، الأمر الذي مكن الحكومة آنذاك من تمويل عجوزات الموازنة التي نتجت عن ارتفاع معدلات الاستثمار والاستهلاك في ذلك الوقت، وقد دعم هذا النمو المساعدات العربية والأجنبية خاصة من دول الخليج العربي ودول أوربة الشرقية، ونتيجة لذلك تحول الاقتصاد السوري باتجاه الاعتماد المتزايد على القطاعات التجارية والصناعية والخدمية بعد أن كان اقتصاداً زراعياً بالأساس.
لكن هيمنة الدولة على القرار الاقتصادي، والاعتماد على المركزية الشديدة في التخطيط، والتهميش شبه الكلي لآليات السوق قد أدى إلى فك الارتباط والتكامل الذي كان قد نشأ في الأربعينيات والخمسينيات بين القطاعات الرئيسية: الزراعية والصناعية والتجارية، والتي نشأ عبر تكاملها النظام المصرفي الحر، فقد أنشئت الكثير من المصانع تحت شعار استبدال الواردات، إلا أن جميع السلع التي أصبحت تنتج محليا كانت ذات طابع استهلاكي، وظلت تلك المعامل تعتمد اعتماداً كلياً على السوق العالمي من أجل قطع التبديل وتجديد خطوط الإنتاج وغيرها من مستلزمات العملية الإنتاجية، فلم تستطع هذه السياسة الصناعية أن تؤسس لنهضة صناعية تبيِّيء التكنولوجيا الحديثة في البلاد كما حدث في كثير من الدول الاشتراكية، إضافة لذلك لم تستطع هذه السياسة حتى أن تسد حاجة السوق من المواد والسلع الاستهلاكية التي كانت تنتجها، فالجميع يتذكر الضائقة الاقتصادية التي عانى منها الشعب السوري في أواسط الثمانينيات وفقدان مواد الاستهلاك الأساسية والأسواق السوداء التي ظهرت على هامش نظام الترشيد الاستهلاكي (البونات).
هذه الأزمات التي ترافقت مع فساد حكومي غير مسبوق تم تعميمه على كافة قطاعات الدولة خاصة منذ النصف الثاني من السبعينات كانت من العوامل الرئيسية التي زادت الاحتقان الشعبي وأدت إلى انفجار أزمة الثمانينيات، خاصة وأن الفساد أخذ في معظم الأحيان شكلاً طائفياً وعشائرياً، وقد كان لأزمة الثمانينيات دور كبير في خفض معدلات النمو وانحدار الاقتصاد نحو أزمته الخانقة في أواسط ذلك العقد. وقد أدى انخفاض أسعار النفط الذي شهدته بداية الثمانينيات إلى انخفاض التحويلات التي كانت تغذي الاقتصاد السوري من دول الخليج، وإلى انخفاض قيمة الصادرات السورية، مما زاد الأمور سوءاً، ولا بدً في هذا السياق من التوقف عند الموقف السوري من الحرب العراقية-الإيرانية الذي لعب دوراً حاسما في توقف المساعدات الخليجية، الأمر الذي وضع سورية في عزلة عربية ودولية سهلت عملية فرض الحصار الاقتصادي من الدول الغربية في أواسط الثمانينيات.
لم تكن السياسات الاقتصادية هي وحدها وراء فشل عملية النمو الاقتصادي، هذا النمو الذي تراجع في بداية الثمانينيات ليصل الاقتـصاد إلى أزمته الخانقة في منتصفها، إذ إن هناك أسباب أخرى تتعلق بالبنية السياسية للنظام، فانطلاق النظام في سياسته الخارجية دائماً من موقع الحفاظ على الوضع القائم دون اعتبار ولو جزئي لمتطلبات واحتياجات الكتلة الأكبر من الشعب، قد وضع أغلبية الشعب في حالة عزلة عمّا يدور حولها، حتى أضحت الكثير من الدول من مثل الأردن والبحرين والإمارات العربية المتحدة نموذجا يحتذى بالنسبة لسـورية في الكثير من المجالات التقنية والمعرفية بعد أن كانت سورية متقدمة عليهاً جميعا بمراحل عديدة وفي جميع المجالات.
أما السياسة الداخلية التي انطلقت أيضا من نفس الموقع، فقد أدت إلى ضبط إيقاع حياة المواطنين ونزع حس المبادرة منهم على كافة الأصعدة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو علمية، وتحولت الدولة عبر هذه السياسة إلى رب عمل كبير ووحيد، همه الأساسي ضبط إيقاع الناس بما يخدم السلطة، فحشدت جيوش العاملين في شركات ومؤسسات القطاع العام ليعملوا بأجور الحد الأدنى دون الأخذ بأدنى المعايير الاقتصادية بالاعتبار. كما أن حرمان القطاع الخاص آنذاك من الاستثمار والعمل في أبسط الصناعات، ضيع الكثير من الفرص على الاقتصاد السوري، وقد كان لهذا الحرمان أسباب سياسية تتعلق ببعض القوانين التي سنت تحت شعار الاشتراكية، والتي هيمنت بموجبها الدولة على قطاعي الصناعة والمصارف.
لم تدفع أزمة الثمانينيات الاقتصادية الخانقة النظام إلى إجراء مراجعة شاملة لنهجه الشمولي الذي أوصل البلاد إلى تلك الأزمة، بل اقتصرت الحلول على جوانب جزئية غلب عليها الطابع الأمني، فقامت بتخفيف الإنفاق وتقليل المستوردات وتشجيع بطئ وخجول للقطاع الخاص، اقتصر على السماح له بممارسة بعض نشاطات التجارة الخارجية، وقد ترافق ذلك مع فرض عقوبات صارمة على التهريب والأسواق السوداء وأنشأت المحكمة الاقتصادية، وغيرها من الإجراءات.
في بداية التسعينيات، مع انهيار منظومة أوروبة الشرقية وقيام حرب الخليج الثانية، قام النظام العالمي الجديد أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وما أفرزه هذا النظام من تعميم لاقتصاد السـوق وتحرير للتجارة، تفاقمت الأزمة الاقتصادية في سورية، فقامت السلطة بإصدار مجموعة من التشريعات الاقتصادية كان أبرزها قانون استثمار الأموال رقم 10 (والذي تم تعديله بالمرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2000). وقد روج من قبل إعلام السلطة لهذا القانون على أنه سيساعد بشكل كبير على استرجاع الرساميل السورية المهاجرة وعلى جذب رؤوس أموالٍ عربية وأجنبية، كما روج له على أنه سيساعد في تبيئة العلم والتكنولوجيا الحديثة في البلاد.
ولم يتحسن الحال كثيراً بعد إصدار قانون الاستثمار رقم 10 الذي أعطى القطاع الخاص حرية العمل والاستثمار في بعض النشاطات، فاستمرار العمل بقانون الطوارئ وغياب الشفافية والضمانات القانونية واستقلال القضاء وسيطرة الأجهزة الأمنية على القرار السياسي وغيرها كثير، لا يصنع بيئة استثمارية جذابة، حتى لأصحاب رؤوس الأموال المحليين.
لا شك أن هذا القانون قد أعطى دفعة قوية للاقتصاد السوري في المرحلة التالية مباشرةً لصدوره، أي في النصف الأول من التسعينيات، فارتفعت معدلات النمو لتصل إلى حوالي 7% سـنويا، إلا أنه سرعان ما تراجع النمو في النصف الثاني من التسعينات لتصل معدلاته إلى 1% وأحيانا سالبة. ولا شك في أن هذا القانون قد أدى إلى جذب بعض الرساميل سواء السورية المهاجرة أو العربية والأجنبية، إلا أن معدل هذا الجذب كان أقل بكثير مما كان متوقعاً أو مما روجت له السلطة، نتيجة غياب ضمانات قانونية فعالة تصنع بيئة جاذبة للاستثمار، فمعظم الاستثمارات التي تأسست عليه كانت بتمويل رؤوس أموال محلية تراكمت بأيدي أصحابها عبر سنوات طويلة، فالملاحظة المباشرة تشير إلى أن معظم من استفاد من هذا القانون كانوا من أهل السلطة أو على صلة بهم، والذين شكلوا الطبقة البرجوازية الجديدة ذات الطابع الطفيلي، والتي استأثرت بالسلطة وحولت البلد بموجبها إلى غنيمة، فاحتكرت هذه الطبقة الطفيلية جميع النشاطات الأكثر ربحاً، بينما ظلت الكثير من القطاعات محتكرة من قبل الدولة ولم يسمح للقطاع الخاص حتى الآن الاستثمار فيها خوفاً من الإفلاس الكامل لشركات القطاع العام (كحلج وغزل القطن وصناعة البيرة والمياه المعدنية وغيرها).
وعلى الرغم من أن متوسط دخل الفرد قد ازداد في مرحلة التسعينيات وما بعدها، إلا أن ذلك لم يترافق مع ارتفاع في مستوى المعيشة لغالبية السكان، نتيجةً لتزايد الفجوة بين الفقراء والأغنياء وسوء توزيع الثروة. فقد أشار تقرير الفقر الصادر عن برنامج للأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إلى أن الـ20% الأكثر غنى يستهلكون ما يقارب 50% من إجمالي الاستهلاك الكلي للبلد، بينما لا يتجاوز استهلاك الـ 20% الأشد فقرا 7% من إجمالي الاستهلاك الكلي، بينما وصل تجاوزت نسبة الفقر المدقع ال12% من عموم السكان.
ففي سنة 2011 ، أي بعد 11 عاما من وصول “الرئيس الشاب” إلى سدة الرئاسة ، كان الاقتصاد السوري يجمع بين أبشع عناصر المدرستين الاقتصاديتين الرئيسيتين: الاشتراكية والرأسمالية. من الأولى أخذ وحشية السلطة السياسية والتفرد بها متمثلة في ال الأسد ومن الثانية أخذ وحشية السوق واحتكاره متمثلة في أل مخلوف.

29 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>