خضر زكريا

الديمقراطية بين النظرية والتطبيق (2 من 2)


خضر زكريا

خاص بموقع حزب الجمهورية

-4-
هذا ما استند إليه كارل ماركس عندما دعا إلى القضاء على النظام الرأسمالي، وإقامة النظام الاشتراكي الذي سيحقق، في تصوره، المساواة الحقيقية بين جميع بني البشر.
لقد رأى ماركس، بعد جان جاك روسو، أن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي أصل عدم المساواة بين البشر، لأنها تؤدي بالضرورة إلى استغلال الإنسان للإنسان. وللوصول إلى مساواة اجتماعية حقيقية لا بد من إلغاء هذه الملكية. أما الطبقة الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك فهي الطبقة العاملة التي لا تملك سوى قوة عملها، والتي كانت، هي والطبقات الفقيرة الأخرى، مضطهدة ومحرومة في الواقع العملي من الحقوق الديمقراطية التي رفعت الثورات الديمقراطية شعاراتها.
ولكي تحقق الطبقة العاملة وحلفاؤها أهدافها في إقامة المجتمع العادل الخالي من الاستغلال والظلم، لا بد لها من أن تطيح بسلطة البرجوازية (الطبقة المالكة لرأس المال)، وتقيم سلطتها السياسية الخاصة بها، وأن تمارس “دكتاتوريتها” على الطبقات الرجعية (المالكة والحاكمة في النظام الرأسمالي). لكن هذه الدكتاتورية هي لأول مرة في التاريخ “دكتاتورية الأكثرية على الأقلية”. فالأنظمة السابقة كلها كانت تمثل، في الواقع، دكتاتورية الأقلية على الأكثرية. فالنظام العبودي كان يمثل دكتاتورية السادة مالكي العبيد، والنظام الإقطاعي كان يمثل دكتاتورية الإقطاعيين ورجال الكنيسة، والنظام الرأسمالي يمثل في الواقع دكتاتورية رأس المال، إضافة إلى الدكتاتوريات الفردية التي عرفها التاريخ في بقاع كثيرة من العالم وخلال الحقب المختلفة. أما في النظام الاشتراكي فستتحقق لأول مرة دكتاتورية العمال والفلاحين وغيرهم من الكادحين (وهم أكثرية الشعب) على الرأسماليين والإقطاعيين (وهم الأقلية). غير أن هذه الديكتاتورية نفسها لن تكون ضرورية إلا لفترة تاريخية معينة، تكفي للقضاء على مقاومة الطبقات التي تضررت من النظام الجديد.
هذا النظام عرف على نطاق واسع بنظام (الديمقراطية الشعبية)، التي يتم تطبيقها وفق آلية خاصة تضمن وصول ممثلي الطبقات والفئات الشعبية إلى المجالس التشريعية بمستوياتها المختلفة. وهذه الآلية تقوم على تشكيل اتحادات نقابية للعمال والفلاحين وغيرهم من الفئات الكادحة، وكذلك للشباب والنساء والطلبة وغيرهم من المجموعات السكانية، ويتم انتخاب ممثلي الشعب عن طريق هذه المنظمات الشعبية. وبهذا يتم استبعاد ممثلي الطبقات والفئات المستغِلة من أن تمثل في المجالس الشعبية وتخفيف تأثيراتها السلبية على سياسات الدولة. أما الذي يقود تلك المنظمات فهو حزب سياسي يمثل مصالح الطبقة العاملة (أو عدد من الأحزاب الممثلة لفئات الشعب المختلفة بقيادة حزب الطبقة العاملة). وهذا الحزب القائد هو الذي يقود السلطة السياسية أيضاً. فهو الذي يوجه السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية معاً، بل إن السلطة القضائية أيضاً لم تكن مستقلة عن تأثير الحزب الحاكم أو القائد.
لقد كان الغرض من هذا النظام تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة الحقيقية بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وبين الرجال والنساء، بل بين شعوب الكرة الأرضية جميعاً. لكن الممارسة العملية لم تحقق هذا الغرض، ولم تقترب من تحقيقه، على الرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققتها الاشتراكية للطبقات والفئات الاجتماعية الفقيرة. فقد تحولت الديمقراطية الشعبية (أو دكتاتورية البروليتاريا) إلى دكتاتورية للحزب الحاكم، ثم إلى دكتاتورية للمكتب السياسي للحزب، وفي بعض الأحيان تحولت إلى ديكتاتورية فردية للأمين العام للحزب. وصارت الفئات الحاكمة تستخدم نفوذها في أجهزة الدولة لتحقيق المكاسب الشخصية على حساب الشعب الذي يفترض أنها تمثله وتحكم باسمه، فتحولت تدريجياً إلى طبقة مستغِلة جديدة حلت محل الطبقات المستغِلة السابقة. فضلاً عن حرمان الناس من الحريات الديمقراطية التي اكتُسبت في البلدان الرأسمالية.
-5-
واليوم، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط المنظومة الاشتراكية العالمية، وإقامة ما سمي بالنظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى الوحيدة في العالم. ماذا بشأن الديمقراطية؟
من الناحية النظرية يتم تأكيد المبادئ الأساسية للديمقراطية كالحريات الفردية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان. كما يعاد الإلحاح على حرية التجارة وإلغاء الحواجز الجمركية وغيرها من الحواجز أمام انتقال البضائع ورؤوس الأموال بين الدول، وهذا يعد، نظرياً، إقراراً لمبدأ المساواة بين الدول.
أما في الممارسة العملية فإن الحقائق تختلف كل الاختلاف:
1ـ يقتصر تطبيق المبادئ الديمقراطية على البلدان المتقدمة وحدها (وعدد سكان هذه البلدان لا يتجاوز خُمس سكان العالم)، وحتى في هذه البلدان المتقدمة ذاتها هناك فروق كبيرة في مستويات وأشكال تطبيق الديمقراطية، كما أن نسبة هامة من شعوب تلك البلدان ليست راضية عن طرق ممارسة الديمقراطية وآليات احترام حقوق الإنسان.
2ـ أما في البلدان الأخرى (المسماة النامية أو المتخلفة أو بلدان العالم الثالث أو..) فما زالت الديمقراطية (بمعانيها السابقة كلها) بعيدة المنال. والدول الغربية التي تنادي بالديمقراطية وتدعي رعاية حقوق الإنسان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تبني وتطور علاقاتها مع دول العالم الثالث لا تبعاً لمدى ديمقراطيتها أو احترامها لحقوق الإنسان، بل تبعاً لمصالحها في تلك الدول. إن الولايات المتحدة تسعى اليوم، بكل الوسائل للاستفادة من الوضع الدولي الراهن من أجل فرض هيمنتها التامة على جميع مناطق العالم، وهي في ذلك تضع مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية فوق كل اعتبار. ومن نافل القول التذكير بالأنظمة التي تلقى كل أشكال الدعم من الولايات المتحدة رغم خرقها المتواصل لأبسط حقوق الإنسان. وتكفي الإشارة هنا إلى دعمها غير المشروط لإسرائيل بجميع سياساتها العدوانية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، ووقوفها المستمر إلى جانب إسرائيل في مخالفاتها الصارخة لجميع قرارات الأمم المتحدة، وبضمنها تلك التي وافقت عليها الولايات المتحدة نفسها.
3ـ وأما ما يسمى حرية التجارة (والعولمة الاقتصادية بوجه عام) فإنها لا تعني في الواقع أكثر من خضوع الضعفاء لسيطرة الأقوياء في العالم. فالدول الصناعية المتقدمة، وبخاصة الدول السبع الأغنى، والشركات العملاقة المسماة متعددة (أو متعدية) الجنسيات، تفرض الأسعار في السوق الدولية، وتحرم الدول الفقيرة من أي نوع من أنواع الحماية الجمركية لمنتجاتها التي لا تقوى على المنافسة دون تلك الحماية. والمؤسسات المالية الدولية (كالمصرف الدولي وصندوق النقد الدولي)، التي تسيطر عليها الدول الكبرى الممولة لها، تحاول باستمرار أن تفرض على الدول الفقيرة التي يفترض فيها مساعدتها، شروطاً لا تتلاءم مع أوضاع تلك الدول واحتياجاتها. وبنتيجة تلك السياسيات تغرق البلدان النامية في مديونية متنامية لا تقوى على التخلص منها فتزداد تبعيتها، وتفقد أكثر فأكثر حريتها في التصرف بثرواتها ومواردها، ويتعاظم عجزها عن تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، وتصبح عرضة للأزمات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، مما يعطي حكام تلك البلدان مزيداً من الذرائع لممارسة القمع وإلغاء الحريات والتعدي على حقوق الإنسان.
4ـ ومما لا شك فيه أن العولمة الإعلامية بتجلياتها المختلفة (الفضائيات، الإنترنت..) تساعد الناس في كل مكان على فهم ما يجري في العالم، وتسهم في توعيتهم بحقوقهم كمواطنين وكبشر، وترفع من قدرة الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة على النضال من أجل نيل حقوقها، الأمر الذي يساعد في تفعيل مشاركة الناس في صنع مصائرهم الشخصية ومصائر مجتمعاتهم. إلا أن التركيز في الشركات الإعلامية الدولية، وتزايد عمليات الاندماج بين تلك الشركات يزيد من حدة احتكار الوسائل التي تكون الرأي العام، وتكون الأذواق والأمزجة، وتعيد صياغة القيم الأخلاقية والجمالية وغيرها، فتضيِّق بذلك الهامش الديمقراطي، وتحد من إمكانات ممارسة الحريات بوجه عام.
***
وبعد، هل يعني هذا رفض الديمقراطية واعتبارها مفهوماً زائفاً لا يمكن تحقيقه في الواقع العملي؟
بالطبع لا!
لقد حققت الإنسانية خلال النضال الطويل لشعوبها في الحقب التاريخية المختلفة من أجل الحرية والعدالة والمساواة، عدداً من المكتسبات التي تعد أسساً مشتركة للأنظمة الديمقراطية كافة، والتي لا يعد أي نظام سياسي نظاماً ديمقراطياً في حال غياب أي منها. وهذه الأسس هي:
• ـ سلطة الشعب: فالشعب، بجميع فئاته وطبقاته واتجاهاته وتياراته، هو مصدر السلطة، وهذا يعني تمكين الناس جميعاً من انتخاب ممثليهم، في جميع المستويات (البرلمان، البلديات، النقابات… إلخ) بحرية تامة.
• ـ سيادة القانون: فالقانون الذي يقره ممثلو الشعب يصبح ملزماً للجميع، ومخالفته من أي كان (بغض النظر عن عمله أو مركزه الاجتماعي) تستوجب المساءلة. إذ لا أحد فوق القانون في النظام الديمقراطي، بغض النظر عن العلاقات الشخصية أو العشائرية أو الطائفية أو غيرها.
• ـ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات: وعدم التمييز بينهم بسبب الجنس أو العرق أو الدين أو المهنة أو غيرها. وتمكينهم من المشاركة في صنع مصائرهم الشخصية ومصائر مجتمعاتهم في جميع الميادين (السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية وغيرها)
• ـ التعددية السياسية: وهذا يعني الاعتراف بحق الاختلاف، والحق في التنظيم السياسي، وقبول المعارضة والتداول السلمي للسلطة. وهذا بالطبع، أكثر من مجرد قبول الرأي الآخر، إنه قبول للآخر نداً مكافئاً تماماً.
• فصل السلطات: ولا يكفي النص على ذلك في الدساتير، بل لا بد من كف يد السلطة التنفيذية عن التدخل في شؤون السلطة التشريعية، وتمكين هذه السلطة من مراقبة السلطة التنفيذية وتوجيهها وعزلها عند الاقتضاء. وكذلك لا بد من ضمان استقلال القضاء استقلالاً تاماً ليكون قادراً على أداء واجبه في تطبيق القانون على الجميع.
• احترام حقوق الإنسان: وهذا يتضمن بالدرجة الأولى ضمان حرية الضمير، أي أن لا يحاسب المرء على آرائه ومعتقداته، وضمان الحريات الديمقراطية المعروفة الأخرى كحرية التعبير والنشر والتنظيم وغيرها..
إن الحفاظ على كرامة الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، طفلاً أم شيخاً، غنياً أم فقيراً، هو جزء لا يتجزأ من حقه في الحياة كإنسان، والاعتداء على الكرامة يعد اليوم، في قاموس الديمقراطية، اعتداء على حياة الإنسان نفسها.
وهذه، كما أشرنا، مكتسبات للبشرية بأسرها، وليست ملكاً لأحد ممن يدعون تمثيلها أو الدعوة إليها، ولذا فإن الصعوبات التي رافقت، وما تزال ترافق، ممارسة تلك المكتسبات، واستخدام بعض القوى والدول مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان كذرائع لتنفيذ سياسات بعيدة كل البعد عن تلك المبادئ، يجب ألا تؤدي إلى التشكيك في صحة المبادئ نفسها، أو إلى استخدامها مسوغات للاستبداد وقمع الحريات والتعدي على حقوق الإنسان.

35 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>