خضر زكريا

الديمقراطية بين النظرية والتطبيق (1 من 2)


خضر زكريا

خاص بموقع حزب الجمهورية

كثر الحديث هذه الأيام عن الديمقراطية وضرورة تطبيقها كمخرج من الأزمة التي تعانيها البلدان العربية، ومنها سورية. وقد خصص حزب الجمهورية فصلاً كاملاً في وثيقته الفكرية للبحث في الديمقراطية، ودعا إلى إطلاق حوار جديد حول مفهومها وتطبيقاتها وعلاقتها ببعض المفاهيم المتصلة بها كالليبرالية والمجتمع المدني وغيرها.
نحاول في هذا المقال استعراض تطور الديمقراطية كمفهوم نظري، وكآليات طبقت بأشكال مختلفة عبر المراحل التاريخية المختلفة. فالديمقراطية لا تحمل معنى واحداً، لا في مفهومها النظري، ولا في ممارستها العملية. والمفكرون في العصور المختلفة وفي المجتمعات المختلفة تناولوا مفهوم الديمقراطية بأشكال ومضامين مختلفة. أما الاختلافات بين نظرية الديمقراطية وتطبيقاتها العملية في التاريخ فكانت أكثر تفاوتاً وعمقاً.
-1-
نشأ مفهوم الديمقراطية في اليونان القديمة. فكلمة (Democracy) ذات أصل يوناني: ديموس (شعب) وكراتوس (سلطة) أي: سلطة الشعب. وأشهر نماذج الديمقراطية ذلك الذي عرفته أثينا، خاصة خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وقد قامت الديمقراطية الأثينية على مبادئ رئيسية ثلاثة: المساواة السياسية، والمساواة الاجتماعية، وحكومة الشعب.
فالمساواة السياسية كانت تعني بالدرجة الأولى مساواة جميع المواطنين أمام القانون. إذ لا تكون الدولة ديمقراطية إلا إذا كان القانون فيها واحداً بالنسبة للجميع. كما تتضمن المساواة السياسية إمكانية اشتراك جميع المواطنين في إدارة شؤون الدولة وفي حكمها. وهكذا قصدت المساواة السياسية أمام القانون إلى حماية الفئات الشعبية من محاولات الأقلية (الغنية أو القوية) حرمان تلك الفئات من المشاركة في مجلس الشعب وغيره من المجالس التي تدير شؤون الدولة. كما قصدت إلى حماية العائلات الكبرى (النبلاء) من التسلط المحتمل لبعض القادة العسكريين أو أي شكل من أشكال الاستبداد الذي يدَّعي الاستناد إلى إرادة الشعب، والذي يحاول القضاء على السلطة السياسية لتلك العائلات.
أما المساواة الاجتماعية فكانت، في الأعم الغالب، تعني بعض التدابير ذات الصفة الاجتماعية، كمساعدة الفقراء والمعوزين، والدفاع عن الضعفاء، وتتكفل الدولة بتلبية الاحتياجات الضرورية لجميع المواطنين، وتقديم المعونات التي تساعد الناس على المشاركة في الحياة العامة.
وأما فكرة حكومة الشعب فكانت تقوم على أن كل مواطن، مهما كان شأنه، يجب أن يهتم بشؤون الدولة، ويشارك في سياستها. وهذه ليست مجرد رغبة تطوعية من بعض الناس، أو منحة تقدمها الحكومة للمواطنين، بل واجب ترتبه المواطنة. إنه شكل ممارسة المواطن لحريته وسيادته. ومجلس الشعب الذي يمثل جميع المواطنين. هو، كما قال بركليس (المطلق الصلاحية، وهو وحده المطلق القدرة، إن السلطة القضائية بين يديه، ولا توجد أية هيئة وسيطة لموازنة سلطانه).
ولكن، على الرغم من أن الديمقراطيين كانوا يؤكدون بقوة (أن السيادة لا تكمن إلا في الشعب، وأنها لا تنقل أو تعطى أو تحول)، فإن كثيراً من الشوائب شابت تلك الديمقراطية النموذجية النادرة: فالمشكلة الكبرى في الديمقراطية الأثينية كانت تكمن في مفهوم (المواطنة) نفسه. فالعبيد الذين كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة من سكان أثينا لم يكونوا يعدون من المواطنين، بل لم يكونوا يتمتعون بأية حقوق سياسية أو مدنية. كما أن فكرة الحرية التي هي مركزية في الفكر الاجتماعي اليوناني، كانت مقتصرة على اليوناني الحر، بل كانت الحرية هي التي تميز بين اليوناني و(البربري) (كان يعد بربرياً كل من لم يكن يونانياً).
ومن ناحية أخرى، يرى بعض الباحثين أن ما سمي بالمساواة الاجتماعية في الحاضرات اليونانية لم يكن أكثر من تدابير مسكنة، تهدف إلى الحد من الصراع، ومنعه من أن يرتدي طابعاً حاداً قد يؤدي إلى تدمير الحاضرة من جهة، ولتحقيق إفادة جميع الطبقات الاجتماعية من الموارد المتزايدة لدولة في حالة ازدهار من جهة ثانية. وعلى الرغم من انتشار الفكرة القائلة إن المواطن الأكثر يسراً مدين أكثر للحاضرة، فإن التطبيق العملي نادراً ما كان يراعي ذلك، وكثيراً ما كان الأغنياء يتهربون من دفع ما يتوجب عليهم للدولة.
-2-
كثيراً ما يقارن مبدأ “الشورى” في الإسلام بالديمقراطية. بل إن بعض المفكرين الإسلاميين يعده المبدأ الأسلم والأصح والأكثر تلاؤماً مع واقع المجتمعات العربية والإسلامية. ولكن هنا أيضاً ظهرت خلافات نظرية حول مضمون المفهوم، وجرى القفز عليه وتجاوزه عبر تاريخ الخلافة العربية الإسلامية كله تقريباً (باستثناء فترة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، بل منذ خلافة عثمان بن عفان (رض) كما يرى بعضهم.
أحل الإسلام، محل العصبية القبلية التي كانت تدفع إلى الاقتتال المستمر، رابطة الأمة الواحدة التي يجمع أفرادها مبدأ الإخاء بين جميع المؤمنين على اختلاف أعراقهم وألوانهم وثرواتهم. وأقر إلى جانب ذلك مبدأ البيعة والشورى، إذ لا بد أن يحصل الخليفة على موافقة الناس على ولايته (البيعة)، ولا بد له أن يشاورهم في تسيير أمور دولتهم (الشورى). وكانت مسألة تطبيق هذين المبدأين، التي عرفت بمسألة الإمامة، مسألة مركزية في التفكير الفقهي والفلسفي الاجتماعي عند الفقهاء والفلاسفة والمفكرين المسلمين منذ مقتل عثمان بن عفان حتى يومنا هذا.
لقد كان الغرض إقامة السلطة السياسية المتفقة مع مبادئ الشريعة ومطالب العدالة والعقل.
ولكن الخلافات السياسية ظهرت منذ انقسام الناس بين مؤيد ومعارض لخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم انقسام أنصار علي وظهور الخوارج والمرجئة وغيرهم. وتكفي هنا الإشارة إلى ما قاله ابن رشد من أن أقرب الدول الإسلامية إلى الجمهورية الفاضلة هي حكومة الراشدين، لأنها قامت على الشورى، وحكمت بالعدل، “إلا أن معاوية بن أبي سفيان أفسد هذا الشكل من الحكم باغتصابه الخلافة من سلفه، وأنشئت دولة استبداد سرت فيها المفاسد إلى ما تلاها من الدول الإسلامية”، وقد تحول شكل الحكم من حكم قائم على الاختيار والشورى إلى شكل الحكم الوراثي.
لقد دارت (وما تزال تدور) مناقشات لا حصر لها حول معنى الشورى ومضمونها: هل هي مشورة ولي الأمر للناس جميعاً، أم للخاصة منهم فقط (أهل الحل والعقد)؟ هل الشورى واجبة دائماً أم في حالات معينة؟ وهل هناك ظروف تحل ولي الأمر منها؟ وكيف يتم اختيار من تتوجب مشاورتهم؟ ..إلخ. وهناك عديد من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين اليوم ممن يؤكدون أن مبدأ الشورى لا يختلف في جوهره عن مبدأ الديمقراطية، ويقرون بأن الانتخابات الحرة هي السبيل الوحيد لاختيار ممثلي الشعب، والذين يمارسون السلطة باسمه. غير أن معظم الفقهاء والمفكرين والفلاسفة المسلمين في عهود الخلافة العربية الإسلامية كانوا يؤيدون الحكم الفردي. وإن كان كثير منهم يتحدث عن حاكم (مستبد عادل)، يرون في تفرده بالحكم سبيلاً لتجنب النزاعات والفوضى الاجتماعية، ولتثبيت دعائم الدولة ورد الطامعين فيها. حتى فلاسفة مثل إخوان الصفا أو الفارابي أو ابن رشد، من الذين اشترطوا توافر سمات معينة في الحاكم (مثل الشخصية الفاضلة والتفقه في الدين والتعمق في العلم والفلسفة)، فإنهم لم يصروا على العودة إلى الشورى. بل إن فقيهاً مثل ابن تيمية يرى أن “النموذج الذي ظهر في فترة الخلفاء الراشدين ذو طبيعة خاصة ولا يمكن أن يتكرر”.
وأما الممارسة العملية في دولة الخلافة العربية الإسلامية فهي أوضح من أن تحتاج إلى شرح تفصيلي. كانت البيعة شكلية في كثير من الحالات، ولم يؤخذ بمبدأ الشورى إلا نادراً، فإذا أخذ به شمل عدداً محدوداً من الخاصة الذين يختارهم الحاكم نفسه. وأما صفة العدل التي اشترط معظم الفقهاء والمفكرين المسلمين ضرورة توافرها في الحاكم فلم تتحقق إلا نادراً (باستثناء الخلفاء الراشدين يحدثنا التاريخ عن خليفة عادل واحد هو عمر بن عبد العزيز).
وتكفي الإشارة هنا إلى آراء ابن خلدون، التي استمدها لا من المبادئ الفقهية بل من دراسته المعمقة وتحليله التاريخي لتطور أنظمة الحكم منذ عهد الخلافة الأولى حتى الدول التي عايشها في الأندلس والمغرب العربي مروراً بدولة الأمويين والعباسيين وغيرها من الدول العربية الإسلامية. فقد ربط ابن خلدون بين قوة الدولة وازدهارها، وبين مستوى مشاركة شعبها في النشاط الإنتاجي وفي دعم سلطة الدولة بوساطة ما يسميه “العصبية”. وبيّن أن استبداد الحاكم وانفراده برأيه واتجاهه نحو تركيز السلطة في يده يشكل بداية انهيار الدولة. ولكنه رأى، من خلال دراسته لتاريخ الدول العربية الإسلامية المختلفة، أن الاستبداد شكَّلَ دائماً المرحلة الأهم في تاريخ تلك الدول، المرحلة التي لا بد منها لتنظيم شؤون الرعية في الدولة القوية الواسعة.
-3-
بدأ عصر النهضة الأوربية بمحاولة التفكير في بناء مجتمع عادل خال من التراتبية الطبقية الإقطاعية ومن هيمنة الكنيسة على الحياة العقلية والروحية للمجتمع. وسواء تعلق الأمر بالأفكار الطوباوية حول مجتمع مثالي خال من الظلم والاضطهاد والصراعات الاجتماعية، أم بأفكار الإصلاح الديني الذي سعى إلى إنهاء استغلال الدين من قبل السلطات الحاكمة للسيطرة على المجتمعات والتحكم في شؤونها، أم بالفكر السياسي الداعي إلى وحدة الأمة والاعتماد على الشعب في ترسيخ دعائم تلك الوحدة، فإن كل ذلك قاد في النهاية إلى تثبيت أفكار التنوير العقلي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر التي رفعت من شأن الإنسان بوصفه كائناً ذا طبيعة أبدية ثابتة من شأنها أن تهتدي بنور العقل، وعدّت العقل القيمة العليا بين جميع القيم. ومن هنا جاءت أفكار الحرية والمساواة التي شكلت فيما بعد أساس فكرة الديمقراطية.
تقوم الديمقراطية الغربية في العصر الحديث على مبدأ سيادة الشعب. أي إن الشعب هو المصدر الوحيد للسلطة السياسية، والشعب هذه المرة يعني جميع مواطني الدولة دون استثناء. والمواطنون جميعاً متساوون أمام القانون، بغض النظر عن الجنس (الرجال والنساء)، أو العرق، أو الدين.
كما تؤكد على مبدأ فصل السلطات. فالسلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب والتي تشرع القوانين يجب أن تكون مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية التي تنفذ تلك القوانين اعتماداً على أجهزة الدولة المختلفة، وبضمن ذلك الجيش والشرطة وأجهزة الأمن وغيرها. وكذلك يجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماماً لتتمكن من القيام بواجبها في إحقاق الحق والحكم بالعدل بين الناس دون ضغط أو إكراه.
وهناك الحريات الديمقراطية التي يكفلها القانون، والتي أهمها حرية الضمير (الاعتقاد) التي تقضي بحرية الفرد في أن يعتنق أية عقيدة يشاء، وحرية التعبير التي تقضي بحرية الإنسان في إبداء رأيه بالشكل الذي يشاء. ومن هنا جاءت حريات القول والنشر والتظاهر والتنظيم النقابي والسياسي وغيرها.
وتعد الحريات الاقتصادية (الليبرالية الاقتصادية) من الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية، وهي تعني حماية الملكية بجميع أشكالها، وحرية ممارسة النشاط الاقتصادي دون قيود، وحرية انتقال البضائع والأموال والأيدي العاملة ضمن حدود الدولة دون أية عراقيل.
غير أن هذه المبادئ لم يتم إقرارها دفعة واحدة، ولا باتفاق آراء المفكرين والفلاسفة. فقد تواصلت الإرهاصات الفكرية منذ القرن الخامس عشر (إراسم، توماس مور، لوثر..) إلى السابع عشر (هوبز، لوك..) ثم إلى مفكري القرن الثامن عشر (مونتسكيو، فولتير، روسو…) كما تفاوتت الدعوات بدءاً من الإصلاح الديني إلى الملكية الدستورية ثم إلى الجمهورية الديمقراطية.
وأما في الممارسة العملية فلم تطبق هذه المبادئ إلا بكثير من الصعوبات والإخفاقات، بل إن البعض يرى أنها لم تطبق على الإطلاق إلى اليوم:
ـ لم تحصل الشعوب على حقوقها الديمقراطية إلا عبر صراعات مريرة، أريقت خلالها دماء غزيرة في معظم أنحاء العالم الغربي.
ـ لم تتحقق المساواة أمام القانون إلا بالتدريج، وبكثير من التفاوت بين دولة وأخرى (استمر التمييز ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية حتى ستينيات القرن العشرين، وما يزال التمييز ضد النساء قائماً في بعض الدول الغربية …).
ـ المسألة الأهم تكمن في أن المساواة أمام القانون ظلت إلى حد كبير مساواة شكلية ولم تتحول مطلقاً إلى مساواة حقيقية. والواقع أن مفكري عصر التنوير لم يغفلوا عن هذه المسألة. فقد أشار هوبز بوضوح إلى أنه “إذا كانت الحقوق متساوية فإن القوة التي تصنعها وتحددها منظومة العلاقات الاجتماعية غير متساوية (…) فلكل فرد حق التملك، وهو بهذه الصفة مساوٍ للآخرين، فإذا هوجمت الملكية، فإن حقه الطبيعي، كما هو حق الآخرين، هو الذي يهاجم. ولكن في الواقع لا يتمكن سوى بعض الأشخاص فقط من التملك. وهذا يعني أن المساواة الطبيعية لا تمنع اللامساواة الاجتماعية”.
لقد أدى تمركز رأس المال، من الناحية العملية، إلى إلغاء أحد أهم مبادئ الليبرالية الاقتصادية ألا وهو مبدأ حرية المنافسة. فرأس المال الاحتكاري الكبير لا بد أن يزيح من طريقه رأس المال الصغير. وهذا يعني أن حق التملك في النظام الرأسمالي يصبح شكلياً. كما أن رأس المال الاحتكاري هذا يسيطر لا على معظم وسائل الإنتاج فحسب، بل يسيطر على وسائل الثقافة والإعلام والنشر والدعاية، أي أنه يحتكر وسائل التأثير في أفكار الناس ومعتقداتهم، بل وفي أذواقهم وأنماط حياتهم. وبهذا تصبح حرية التعبير والحريات الأخرى المرتبطة بها شكلية أو منقوصة على الأقل، بل حتى حق الانتخاب نفسه يغدو شكلياً إلى حد كبير.

62 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>