في الحاجة إلى مفاهيم جديدة


حازم نهار

من فضائل الثورة السورية أنها طرحت تحديات غير معهودة على المثقفين والسياسيين والعامة على حد سواء، وأدت إلى تهديد، أو بالأحرى سحق، مرتكزاتنا ومبادئنا ومنطلقاتنا النظرية وأيديولوجياتنا، بل إنها رمت بكثير من محمولاتنا في المزبلة إلى غير رجعة، ولا يعاند هذه الحقيقة إلا واهم أو صاحب مصلحة خاصة. هذا الموت الذي أصاب تلك المحمولات قديم، لكن ستاتيك الواقع عبر نصف قرن كان يغطي عليها ويمنحها بعض المشروعية، حتى جاء الحدث الزلزالي ونكش المخبوء والمتعفن وكتب نعوته.

تصوروا درجة الازورار عن الواقع، ومدى هيمنة الوعي الزائف، عندما نجد أن هناك من لا يزال يعتقد أنه من الممكن للقوى السياسية الأيديولوجية القديمة أن تستمر فاعلة، أو أنه لا يزال من الممكن بناء قوى وحركات سياسية وتجمعات ودول استناداً إلى تلك الأيديولوجيات المتخثرة، كالأيديولوجية البعثية والأيديولوجية الناصرية والأيديولوجية الشيوعية السوفياتية والأيديولوجيات الإسلامية التقليدية بتلويناتها كافة. في الحقيقة، هذا غير ممكن إلا بالاستناد إلى قوة السلطة أو السلاح. بالطبع، استناداً إلى التفكير الديمقراطي من حق الجميع أن يبنوا ما يشاؤون، ومن حق الجميع على الجميع أن يعترفوا بوجود بعضهم بعضاً، لكن استناداً إلى التفكير الديمقراطي نفسه من حقنا أن نستهجن ونستغرب وننتقد “ظاهرة إحياء الموتى” التي لا تزال تسيطر على البعض، وتأكل رؤوسهم.

واحدة من المآسي كانت محاولة الجميع مقاربة الحدث الجديد والكبير من خلال مفاهيم ومناهج تفكير وأيديولوجيات وشعارات تقليدية، مهترئة ومتعفنة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على غياب الفكر لمصلحة الأيديولوجية لدى ما يسمى “النخب” الثقافية والسياسية. الفكر غير الأيديولوجية، فالأيديولوجية ترفض الاعتراف بالواقع القائم لمصلحة الواقع المرسوم أو المتخيَّل في تعاليمها، وتنطلق من الأهداف والشعارات إلى الواقع القائم الذي تصبح وظيفته تطبيق تعاليم الأيديولوجية وإثبات صحة شعاراتها، بينما الفكر سيرورة معقدة وعمل دؤوب من التحليل والتدقيق والنقد والشك والتعديل والتحوير والتغيير وصولاً إلى مقاربة الوعي مع الواقع المتغيِّر باستمرار (معادلة فكر-واقع)، والاقتراب أكثر فأكثر من الحقائق الواقعية.

لو كان لدى “نخبتنا” فكر لما كانت أحوالنا كما هي عليه اليوم. لو كان لدينا فكر ماركسي لكنا بألف خير، لكن ما لدينا هو أيديولوجيات شيوعية واشتراكية مريضة ومتعفنة وعمياء. لو كان لدينا فكر ليبرالي لكنا في خير عميم، لكن ما لدينا هو شعارات ساذجة وأيديولوجيات متوحشة تريد أن تأكل الأخضر واليابس. لو كان لدينا فكر ديني لكنا بألف ألف خير، لكن ما لدينا لا يعدو أن يكون مجموعة قراءات فقهية ماضوية وهويات دينية ومذهبية واهمة، قاتلة ومتقاتلة.

النخبة هي بيت الداء والدواء، قد تكون بوصلة، وقد تكون مصيبة، وفي حالتنا كانت النخبة مصيبة، ومصيبتنا الأولى كانت النخبة. بالفعل لا خوف على أمة من الأمم إن توافرت على نخبة ثقافية سياسية واعية ورزينة ومنظمة، وكل الخوف مشروع وطبيعي في غيابها.

الفكر الديني من أهم ظواهر تاريخ أوربا والثقافة الأوربية في مختلف العصور، ولا يمكن أن نفهم ديكارت وهيغل مثلاً من دون المسيحية. الفكر الديني بوصفه فكراً يأخذنا إلى الفلسفة، على حد تعبير إلياس مرقص. واحدة من مشكلاتنا الأساسية هي في عدم وجود فكر ديني، وبدلاً منه هناك أيديولوجيات دينية إسلامية مغلقة، وتيارات إسلام سياسي تحتقر الفكر الديني ذاته، بل قضية الفكر برمتها، وتذهب في اتجاه إعلاء شأن السير والحكايا الماضية، وجملة من المسائل الفقهية التي تتعاطى مع هوامش الحياة، وتنسى جوهرها: الإنسان، تماماً كالأيديولوجيات الأخرى المسماة “علمانية” زوراً وبهتاناً، التي تتطابق مع الأيديولوجيات الدينية في استبداديتها وجمودها واحتقارها للفكر والإنسان، وتختلف عنها في الطقوس البرانية لمريديها فحسب.

لنتمعن التراكيب التالية: الممانعة والمقاومة، المخططات الإمبريالية والصهيونية، جبهة الصمود والتصدي، الجبهة الوطنية التقدمية، دولة البعث، الأب القائد، اليسار واليمين، التقدمية والرجعية، الأصدقاء السوفييت، الاشتراكية طريقنا، الصراع الطبقي، تحالف قوى الشعب العامل، حزب الله المقاوم، محور الممانعة (إيران، سورية، حزب الله، حماس)، القومية العربية، الثقافة القومية الاشتراكية، الجماهير العربية، التضامن العربي، التاريخ والمصير المشترك، سوا ربينا، سقف الوطن… إلخ. بالطبع، ثمة تراكيب أخرى شائعة لدى باقي الأيديولوجيات السائدة، كالأيديولوجية الإسلامية التقليدية، مثل: الإسلام هو الحل، تكامل الإسلام والعروبة، دولة الخلافة، دولة العلم والإيمان، الحاكمية لله… إلخ، لكننا نركز هنا بالدرجة الأولى على أيديولوجيات كانت في السلطة وهيمنت على الدولة والمجتمع، وساهمت في صوغ وجدان “النخب” والشعوب.

ربما يحتاج المرء إلى تنظيف دماغه من هذه المفاهيم والمصطلحات أولاً كي يعود إليها من جديد ويتفحصها ويكتشف الغث والسمين فيها. لا شك أن بعض هذه المفاهيم كان ولا يزال صائباً، لكنه بالضرورة يحتاج إلى إعادة بناء تنزع عنه الأوهام الأيديولوجية، وما لحق به من ترهات وممارسات سياسية خاطئة أو انتهازية. من يستطيع أن يبلع ويهضم هذه المفاهيم اليوم كما هي؟! لا شك أنها تثير حس الغثيان، وتحرض فعل الإقياء حتى لدى رافعيها. يفقد الناس عموماً الاكتراث بالشعارات والكلمات عندما تفقد معانيها، فتتحول إلى غطاء يستر واقعاً مغايراً، أو عندما يكتشفون أنها مصممة لواقع آخر غير الواقع الذي يعيشونه.

تحت سنابك هذه المفاهيم والكلمات والشعارات كان يجري قتل ما يفترض أنه العنصر المركزي فيها جميعاً: الإنسان. في الحقيقة، لا قيمة لأي شيء إذا لم يكن منطلقه ومستقره الإنسان، ولا خير في أي أيديولوجية أو عقيدة، دينية أو دنيوية، إذا لم يكن الإنسان قلبها وغايتها. الإنسان، معرفاً بحريته وكرامته، هو الأول والآخر، يعلو ولا يعلى عليه، واستناداً إليه تبنى المواطنة، وعلى هذه الأخيرة تبنى الدولة الحديثة، دولة الإنسان.

 

304 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>