جذر الاستبداد السياسي في المنطقة العربية

جذر الاستبداد السياسي في المنطقة العربية


كفاح زعتري

خاص بموقع حزب الجمهورية

التنظيمات السياسية التي تشكلت منذ الاستقلال وإلى الآن في العالم العربي تبنت عناوين براقة وأهداف سامية، وللتعبير عنها استعارت نتاج الفكر الغربي كما هو او بإكسابه لوناً “ينسجم مع مجتمعنا” فدخلت بعنق الزجاجة. فكان المحتوى لا يعبر عن مقاصد المصطلح، والأهداف بعيدة عن الواقع، مما يحولها إلى مجرد طروحات شعبوية، تعبوية لا تجد الحامل الموضوعي لتحقيقها، سواء على المستوى المجتمعي أو على مستوى المناخ السياسي العالمي. ومن جهة ثانية يتم التعامل مع تلك المفاهيم باعتبارها نتاج فكري غربي، بشكل إما متعالي أو انتقائي وكمنتوج جامد دون ملاحظة البعد الإنساني. فحيث نستفيد من منتج الغرب المادي دون تردد، نلفظ أفكاره وقيمه وأدواته أو نتعامل معها بشكل سطحي شعاراتي غير قابل للتحقق.
لن نحصد نتائج وإن قصدنا التغير، مهما رفعنا وتيرة الخطاب، ما لم نعمل على تغيير جذري شامل بحياة البشر وقناعاتهم وطرق تفكيرهم. لأجل ذلك الحداثة كمنهج تفكير، بما يعني انفتاح على المستقبل وحركة دائمة نحو آفاق جديدة في العمل والمعرفة.
أهم سماتها أنسنة العلاقات بين البشر لمصلحة تعميم مفاهيم الحرية والمساواة وتسخير التقدم العلمي ليكون بخدمة الإنسان. فالمنتج البشري من أفكار وقيم وأدوات ونتاج مادي وعلمي هو نتاج كوني يخص جميع البشر. فلا يمكن المزاوجة بين تقنيات ومفاهيم وأهداف حديثة، مع موروث ثقافي تقليدي، فالأهداف الحديثة تقتضي منهجاً حديثاً لتحقيقها. إن استعارة المفاهيم الحداثية، لا تعدو أكثر من لغو طالما تفتقر إلى أدوات تطبيقها، فالأساليب والأدوات التقليدية لا تنسجم مع المفاهيم الحداثية ولا تحققها، وهذا أحد أهم أسباب فشلنا على المستوى السياسي والاجتماعي.
إن إقصاء الحداثة من حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، أفرغت كل المفاهيم الحديثة من مضمونها، فالديمقراطية بعزلها عن امتداها الحداثي حولها إلى شعار سياسي شعبوي وأديولوجية تعبوية واختزلها إلى صندوق اقتراع وإلى تسويات “توافقية” بين تشكيلات اجتماعية ما قبل وطنية.
جميع الحركات السياسية بمختلف انتماءاتها روجت ولا تزال إلى أننا شعب مختلف (الإسلام السياسي، الحركات القومية، الحركة الاشتراكية-الماركسية-) كلها كانت مناهضة للدولة الوطنية الحديثة ومولدة للاستبداد ويرد ذلك إلى تجاهلها بأن منجزات الحداثة هي إنسانية عامة بما لها وما عليها، ولا يستقيم تبني التكنولوجية كمنتج حداثي ورفض من أسسها بالفكر والسياسة والأخلاق، الأمر الذي جعلنا مجتمعات استهلاكية بإطار براق حديث يخفي ركامات من الانحطاط. وهذا يفسر فشل جميع التيارات السياسية السابقة رغم شعاراتها البراقة وغم استعارتها جميع المفاهيم الحداثية، إلا أنها تفتقر لأدوات تطبيقها، ولطالما اعتمدت أساليب وأدوات تقليدية، مما أفرغ تلك المفاهيم من مضامينها.
هذا الموضوع يعتبر محورياً إن أردنا فعلاً النهوض ببلدنا.
نقيض الحداثة هو التأخر التاريخي ويعني التأخر في الذهنية وما يعكسه ذلك من تأخر على المستوى المادي والروحي.
يتجلى ..
سياسياً: بغياب دور الشعب وسيادة الروح الرعوية
أيديولوجياً: سيطرة التقليد، الهوس بالماضي، رفض روح العصر، الابتعاد عن منطق التقدم، عدم إدراك مفاعيل الزمن.
الأيدولوجيات الكبرى في مجتمعاتنا (قومية، اشتراكية، إسلامية)، لها سمات مشتركة.. احتكار الحقيقة، منغلقة، بعيدة عن الواقع، إقصائية، لا تقبل الآخر، لا تعبأ بالواقع ومشاكله، لذا فهي لا تلتمس الحلول وترفض الحداثة.
جميعها لها ذات القاع الأيديولوجي رغم اتجاهاتها المتباينة، تمايزها فقط بالقشرة السطحية وفي الشعارات، جميعها خطابها وممارساتها أصولية، هذا الخطاب والممارسات يجمع كل تلك القوى، الإسلامية والقومية والشيوعية والليبرالية والعلمانية.
يشكل التأخر التاريخي الأرضية المولدة للهزائم والكوارث ويفسر إخفاقات محاولات النهضة والثورات التي اجتاحت المنطقة خلال قرن من الزمن والتي أدت موضوعياً إلى تصفية مشروع الدولة- الامة، والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة.
تنطلق الأيديولوجيات المغلقة من الهدف إلى الواقع، تحاول فرضه بشكل متعالي دون مراعاة البنية وسنن التطور، ودون مراعاة للواقع الذي يبدو هزيلاً أمام سمو الهدف. إن جذر الاستبداد يكمن بالأيديولوجيات المغلقة، حيث يتحول الفكر الى أيديولوجية بفعل السلطة لنصل إلى فكر السلطة بدلا من سلطة الفكر، وثقافة السلطة بدل من سلطة الثقافة ودين السلطة بدل من سلطة الدين.
الأيديولوجية نقيض الفكر العلمي ونقيض الحداثة ونقيض التطور
إنها شريكة الاستبداد السياسي بمعادة الفكر الحر والابتعاد عن الحقيقة الواقعية، فهي تبعث على التعصب، إنها إثبات لا يقبل النفي، يقين لا يقبل الشك، لديها إجابة واحدة عن أسئلة مختلفة، دوغمائية، مضادة للواقع ولمنطق التاريخ.
بينما الفكر متسامح يرى النفي في الإثبات والشك في اليقين والممكن في الواقع، حركة نمو وتغير، جدلي، يبحث عن عدة إجابات للمسألة الواحدة.
إن عدم التميز بين الفكر والأيديولوجية وغلبة الوعي الأيديولوجي هما على صعيد الوعي؛ سبب ما نتخبط به اليوم، حيث بات المذهب دين والأيديولوجية فكر والتراث تاريخ.
إن الذين جددوا وأبدعوا في الماضي كانوا يتطلعون إلى المستقبل، في حين يتطلع السلفيون والتراثيون إلى الماضي ويرون في السلف الصالح نماذج مكتملة بلغت الغاية والنهاية.
من هنا يمكننا أن نميز بين سياسة يرسمها فكر الواقع من خلال قراءة الواقع بموجوداته واحتمالاته الممكنة من قبل ذات حرة قادرة على إنتاج مفاهيم حديثة وتحديث القديمة بما يتناسب مع تغير الواقع، وبين سياسات تضعها عقيدة أو أيديولوجية بوصفها منظومة مغلقة ورؤية ذاتوية إلى العالم والمجتمع والإنسان.
الأولى تعتمد منهج الوعي المقارب الذي ينطلق من الواقع ويرى بأن الوجود الاجتماعي المتعين في العالم وفي التاريخ هو أساس الوعي الاجتماعي، فالواقع هو أساس الفكر لا العكس.
للوعي المقارب ثلاث أبعاد..
– الكونية: إنجازات العالم المتقدم ملك البشرية كلها
– الحداثة: يتعامل مع الحداثة التي أنتجها الغرب دون نرجسية قومية أو عقد نقص، تبنّي الحداثة ضرورة لتجاوز حالة الفوت التاريخي التي تفصلنا عن العالم المتقدم
– التاريخانية (الفكر التاريخي): امتداد في الزمان والمكان، ويعني إنتاج حالة تطابق بين الزمان والمكان، باعتبار أننا زمنياً خارج تسلسل الزمن العالمي (الفوت التاريخي)، والوعي التاريخي هو وعي الفوت والتأخر التاريخي وبحث علله، أي أنه استدراك للزمن الضائع لإنتاج وعي قادر على التطابق بين العيش في المكان والزمان.
إنه “الوعي المقارب” سيرورة معقدة وشاقة وجهد متواصل من التنقيب والتحليل والتركيب والنقد والشك وصولاً إلى مقاربة الوعي مع الواقع المتغير باستمرار، لا يمكن القبض على الواقع إنما الاقتراب منه.
نرجع حيث بدأنا، ما لم نتبن منهج تفكير حر وغير مقيد ولا مؤطر بأيديولوجية مغلقة، لن نحقق تغير على أي مستوى وستبقى الحركات السياسية مصابة بالكساح تعوض ضعفها بمزيد من الانغلاق والابتعاد عن الواقع ومزيداً من الفشل. خير مثال الكيانات السياسية التي تتكاثر، وتتكاثر معها الهزائم.

108 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>