أولاً: السياسة الخارجية: نحو سياسة تخدم سورية والسوريين

أ- تمهيد
ترتكز السياسة الخارجية لدولة من الدول على قاعدتين أساسيتين، هما الأمن والمصالح الوطنية، وعليهما تعتمد مقومات التنمية في أبعادها كافة. لذلك تهدف السياسة الخارجية، في الأحوال الطبيعية، إلى الحفاظ على السيادة والاستقلال، والأمن القومي والمصالح الاقتصادية التي تقود إلى الارتقاء والتقدم، وتوفير القدرة على الحركة والتأثير في المجال الحيوي للدولة، أي امتلاك وسائل ومقومات الفعل في المحيط الإقليمي والعلاقات الدولية.
ثمة عوامل عديدة تؤثر في نهج السياسة الخارجية للدولة، كتاريخ هذه الدولة وموقعها الجغرافي، ومساحتها وعدد سكانها، لكن يبقى العامل الحاسم في تحديد سمات وتوجهات هذه السياسة هو الوضع الداخلي وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي المهيمن فيها، على اعتبار أن السياسة الخارجية لدولة من الدول، بمعنى ما، هي امتداد للسياسة الداخلية. فالعلاقة المتبادلة بين الداخل والخارج حقيقة واقعة، خاصة في ظل التطورات والتغيرات السياسية والاقتصادية المتسارعة التي غطت العالم على امتداد العقود الماضية، مما جعل السياسة الخارجية أكثر تأثراً بالأوضاع الداخلية من أي وقت مضى. لذلك لم تعد الدبلوماسية الرسمية هي التعبير الوحيد عن الاتصال بالعالم الخارجي، بل أصبحت هناك أدوات أخرى لا تقل تأثيراً عن الجهاز الدبلوماسي في مخاطبة العالم والتعامل معه، منها الدبلوماسية البرلمانية والاتصالات الحزبية والعلاقات المرتبطة بالتنظيمات الشعبية الأخرى ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة وتجمعات رجال الأعمال والشباب والمرأة، وغيرها من قوى المجتمع المؤثرة.

ب- مرتكزات السياسة الخارجية للنظام
ترتكز السياسة الخارجية للنظام السوري في الخطاب العلني إلى عقيدة قومية هدفها “التضامن العربي، والسعي لتحقيق الوحدة بين أقطار الوطن العربي، وتجعل من القضية الفلسطينية وبناء توازن استراتيجي شامل مع العدو الإسرائيلي، القضية المركزية. لذلك تقف ضد أي تسوية منفردة يمكن للحركة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير أن تعقدها مع إسرائيل، كما تؤكد على الهوية السورية للجولان المحتل وتحريره، ودعم ما يسمى “المقاومة” بجميع الوسائل، وتعميق أواصر العلاقات السورية – اللبنانية، ومواجهة مشاريع الإمبريالية في المنطقة، ورفض احتلال العراق”. هذه هي مفردات الخطاب السياسي للنظام على الرغم من أن ممارساته على أرض الواقع بعيدة إلى حد كبير من الأهداف المعلنة.
على أرضية هذه الأهداف المعلنة، قامت هذه السياسة خلال العقود الأخيرة بتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي، ومحاولة فرض مواقفها وسياساتها، عبر التدخل السياسي والعسكري، في الشئون الداخلية للبلدان أو الحركات الوطنية العربية والإقليمية، بدءاً من النزاع العراقي- الإيراني، إلى النزاع الكردي – التركي، مروراً بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والصراع اللبناني – الإسرائيلي، وغيرها.
في الحقيقة لم يكن البعد القومي إلا غطاءً لسياسة خارجية محركها الفعلي هو خدمة النظام وتأمين دفاعاته ومصالحه، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية السورية أو المصلحة العربية، كما ليس من الصعب اكتشاف أن تنقلات السياسة الخارجية السورية ما بين “الممانعة” المتطرفة والبراغماتية الصرفة، غير المستندة إلى المصالح الوطنية، لا تهدف في المحصلة سوى إلى تثبيت النظام الحاكم.
لقد نجح النظام السوري في المراحل السابقة قبل الثورة السورية في آذار 2011 في تخفيف وتيرة الضغوط الخارجية عليه، عبر استخدامه عناصر الضغط التي يملكها في الملفات الإقليمية كافة، في لبنان والعراق وفلسطين، وساعده في ذلك وضع سورية التاريخي والجغرافي، كبلد أساسي في المنطقة ومرتبط بجميع أزماتها وملفاتها، كما ساعده أيضاً فشل الحسابات الأمريكية في المنطقة، وعجزها عن تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الأمني في العراق.
لكن هذه السياسة لم تؤدِّ في الحقيقة إلى رفع سوية المناعة الوطنية أمام الاعتداءات الخارجية، فالطائرات الإسرائيلية لا تجد أي صعوبة في دخول الأجواء السورية، وضرب ما تريد أن تضربه. أما انعكاس هذه السياسة في المستوى العربي، فكان على العموم سلبياً، ولا أحد يستطيع الادعاء بأن علاقات سورية كانت على ما يرام مع أشقائها العرب أو أن العمل العربي المشترك بخير.

ج- نحو إعادة بناء السياسة الخارجية من منظور المصالح الوطنية السورية
تعامل النظام السوري طوال عقود مع منظور ضيق للمصلحة الوطنية السورية، واختزلها إلى السعي الدائم لتثبيت دور فاعل للنظام في المحيطين الإقليمي والدولي، عبر امتلاك أوراق عديدة بيده، واللعب في ساحات الآخرين، الأمر الذي يؤهله على الدوام لدفع الضغوط الخارجية عنه من أي لون ومصدر، وكف يدها عن التأثير في الأوضاع الداخلية في سورية، بما يؤثر سلباً على استمراره وقدرته على الإمساك بزمام الامور.
حققت هذه الآلية شكلاً من أشكال الاستقرار، لكنه استقرار سلبي، قائم على المحافظة على ركود الحياة السياسية والاقتصادية، وشلل الحياة العامة. إنه استقرار غير منتج للتقدم في أي مستوى، ويضع البلاد في مخاطر عديدة على الدوام، داخلية وخارجية.
إن الجانب الأول في إصلاح مرتكزات السياسة الخارجية، يكون ببنائها على معايير القوة الداخلية، الأمر الذي يعني أولوية التغيير الديمقراطي والتحديث الاقتصادي، كي تعكس السياسة الخارجية وآلياتها حاجات الداخل السوري، ولا تختزل إلى مجرد الإمساك أو اللعب بأوراق معينة بهدف تحقيق الاستقرار السلبي.
يتمثل الجانب الثاني في إصلاح السياسة الخارجية في تحسين سمعتها وصورتها لدى المجتمع الدولي، عبر تبديد النظرة المليئة بالريبة تجاهها، كونها أخذت طابعاً متنقلاً وسريعاً ما بين اتجاهات متناقضة، فتبدو أحياناً كسياسة متهورة تفتقر إلى المعايير العقلانية والواقعية، وأحياناً تلهث وراء كسب ود الآخرين بالسبل كافة، تارة تنتحل خطاباً حاداً ومعادياً، ليس فحسب تجاه الولايات المتحدة، إنما تجاه الغرب عموماً، وتارة أخرى تذهب نحو الميلان بالزاوية التي يريدها الآخرون.
السياسة الخارجية السورية بحاجة إلى تبديد مشاعر القلق إزاءها، كونها سياسة موصوفة بأنها تسعى إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، وتثبيت نفوذها بوسائل لا شرعية لدى جيرانها من العرب وغيرهم، وعلى حساب مصالحهم الوطنية، في سبيل دفع الأذى المحتمل على استمرارية النظام.
إن القيام بدور إيجابي في المحيطين الإقليمي والعربي ينعكس بالضرورة إيجاباً على الداخل السوري، فضلاً عن كونه في محطات كثيرة يمكن أن يكون أيضاً تعبيراً عن سياسة ترتكز إلى المصالح المشتركة. فالقيام بدور إيجابي في لبنان وفلسطين والعراق هو مصلحة وطنية سورية، فضلاً عن كونه مصلحة عربية عليا. وإن تعزيز الأمن في هذه البلدان يساهم بالتأكيد في ضمان أمن واستقرار سورية، ووقايتها من أي تخلخلات أو ارتكاسات دينية أو مذهبية أو قومية.

لبنان:
في لبنان ارتسمت شخصية الدولة السورية من خلال سياساتها الخارجية هناك، كشخصية مافيوية، قائمة على حكم ضيق ومغلق، ويستند إلى أدوات مخابراتية صرفة في الفعل والتأثير، الأمر الذي حول لبنان على مدار ثلاثين عاماً إلى مجرد ملف على جدول السياسة الخارجية والأجهزة الأمنية.
كانت الأهداف الأساسية للسياسة السورية في لبنان تتمثل في خدمة مصالح النظام السوري الاقتصادية، والاحتفاظ بالورقة اللبنانية لتوظيفها في المفاوضات والمساومات المحتملة، بما يهدف إلى تثبيت أركان الحكم في الداخل السوري.
يمكن القول إن مستقبل العلاقات بين البلدين رهن بخروج لبنان معافى من أزمته السياسية المستمرة، خاصة الانقسام الحاصل في المجتمع اللبناني، والانتصار لمنطق الدولة في لبنان، لكن العامل الأهم يتعلق بتطورات الوضع الداخلي في سورية، إذ إن احتمال حدوث تطور إيجابي نحو علاقات طبيعية خالية من عناصر الهيمنة والتدخل في الشأن اللبناني، يتوقف على رحيل النظام السوري وحدوث تغيير ديمقراطي آمن في المجتمع السوري، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
العلاقات العربية – العربية والعلاقة مع إيران:
إن سياسة خارجية سورية مستندة إلى المصالح الوطنية السورية، لا بد أن تكتشف ضرورة إصلاح العلاقات العربية وبنائها على أساس من المصالح المشتركة المتبادلة، مهما كانت درجة الخلاف السياسي وطبيعته، لأن غياب الحضور العربي-خاصة في الساحات غير المستقرة في المنطقة العربية- أفسح المجال للأطراف الأخرى للعب أدوارها بما يتناسب مع مصلحتها بالضرورة، فإيران أصبحت رقماً فاعلاً ومؤثراً في جميع هذه الساحات، في العراق ولبنان وفلسطين وسورية، ومن الطبيعي أن يكون فعلها وتأثيرها مستنداً إلى المصالح الإيرانية، لا إلى المصالح الوطنية لتلك البلدان، أو إلى المصلحة العربية.
التحالف مع إيران انعكس إيجاباً على ثبات النظام ورسوخه، وإرغام الآخرين على إعادة حساباتهم تجاهه، ومقايضته في مسائل عديدة، لكنه أضر بالمصالح الوطنية للشعب السوري، وأساء لصورة سورية في المجتمع الدولي، خاصة في ظل الخطاب الأيديولوجي غير العقلاني للسياسة الإيرانية في العلاقات الدولية، كما أفسح المجال لإيران للدخول إلى عمق النسيج العربي والتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان عربية عديدة، واستخدامها كأوراق في صراعها مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
القضية الفلسطينية والمقاومة:
اعتمدت السياسة الخارجية السورية على المحاولة الدائمة لاحتواء النضال الفلسطيني بكليته، ودخلت في مواجهات مسلحة مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وبسبب عدم قدرتها على الاحتواء سعت إلى تفكيك الصف الفلسطيني، وانحازت بشكل صريح إلى القوى الفلسطينية المعارضة لياسر عرفات ومحمود عباس، ورعت التنسيق بينها، وحولتها إلى أوراق تضغط بها على خصومها السياسيين، وهو ما أعطاها هامش مناورة كبيراً في العلاقات الإقليمية والدولية.
الدور الإيجابي في فلسطين يعني دعم وحدة الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين المحتلة وخارجها، ودعم التوافق الوطني بين أفرقاء الحركة الوطنية الفلسطينية، والكف عن تشجيع طرف ضد آخر، والإقرار بما يتفق عليه الفلسطينيون، وعدم ذهاب سورية إلى تسوية منفردة وترك الفلسطينيين وحيدين في مواجهة العدو الإسرائيلي.
أما ما يتعلق بالمقاومة اللبنانية والفلسطينية للاحتلال فينبغي إعادة بناء هذا المفهوم في السياسة الخارجية، فالمقاومة المستندة إلى إجماع وطني لا يعطِّل الدولة والمجتمع والملتزمة بالقانون الدولي الإنساني هي حق مشروع، أما الحركات المتسترة بالمقاومة، وتمارس الإرهاب، وتنتهج العنف من أجل العنف وتستهدف المدنيين والأبرياء، فهي حركات مرفوضة نهجاً وممارسة.
المقاومة وثقافتها بحاجة إلى النقد، والصمت عن هذا النقد شكل من أشكال التواطؤ ضد الحقيقة. المقاومة حق مشروع، هذا لا جدال فيه. لكن يجب الانتقال من الدفاع عن الكلمات أو الاتفاق عليها، إلى إدراك مدلولاتها. أن نكون مع المقاومة لا يعني تقديسها، ونقدها في صالحها وصالح المشروع الديمقراطي، ولا يجوز الذهاب نحو خطاب الابتزاز الدارج بوضع كل نقد للمقاومة في خدمة الإمبريالية والصهيونية.
درجت فئات واسعة، منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، قومية وإسلامية وماركسية، على تمجيد كل فعل للمقاومة التي تجابه الاحتلال، رغم انطلاق هذه المقاومات من أرضيات مذهبية ودينية، ورغم كون برامجها ورؤاها طاردة أو نافية لأي مشروع سياسي يهدف لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
الأرضية الثقافية للمقاومات الدارجة هي أرضية محافظة تستند إلى الموروث الثقافي الديني المذهبي في شكله الأكثر تطرفاً واستبداداً، وهي بالضرورة لا تتوافق مع قيم الفرد وحقوق الإنسان والثقافة الديمقراطية ومشروع الدولة الوطنية، ويحكمها عداء جوهري مطلق وخالص ضد الآخر وثقافته، سواء أكان طرفاً خارجياً أم داخلياً. وإن كانت السياسة تقتضي التشارك مع هذه المقاومات في سبيل المصالح المشتركة، فإن هذا لا يمنع من نقدها ومحاولة عقلنتها كي تصب سياساتها في خدمة المشروع الديمقراطي.
هذه المقاومات غارقة في الأيديولوجيات المتطرفة والنهائيات والمطلقات والحروب الأبدية في الداخل والخارج. وبحكم استنادها لأرضيات مذهبية مغلقة، فإنها تزيد من احتمالات حدوث الفوضى والحرب الأهلية وجر مجتمعاتنا ودولنا إلى مزيد من التفسخ والتعفن. المقاومة التي يجب الاحتفاء بها هي تلك التي تنطلق من إيمان راسخ بمشروع الدولة الوطنية الديمقراطية، وتنطلق من اعتبارات وطنية ساعية نحو إجماع وطني عليها، وتكون عمومية مخترقة لجميع الأديان والمذاهب والانتماءات، ومنفتحة في ثقافتها ورؤاها على العالم والآخر.

7 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>