البقاء أو السفر

البقاء أو السفر، المطرقة والسندان


ريم الحاج

كلنا سوريون – 14 أكتوبر

في السنوات الأربع الماضية، تغيّرت الكثير من الأمور، وبوسعنا القول أنّ السنتين الأخيرتين تختلفان بشكل أكبر من حيث الأوضاع المعيشيّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة وحتّى النفسيّة. ولعلّ من أقوى الأحاديث المتطرّق إليها هو حديث السفر، فقد أصبح موضوع البقاء في البلد أو الهجرة منه من أكثر الأحاديث إثارة للجدل وللصراع.

في بداية الأمر كان موضوع السفر يطرح بحياء وخجل كبيرين، وعادة ما كان يناله الاستهجان والرفض، سواء من الفرد ذاته أو من قبل الآخرين، وفي المجمل كان أغلب الذين يفكّرون في الهجرة هم أفراد متضرّرون بشكل مباشر أو مضطرّون له هرباً من الاعتقال، أو من الانضمام إلى الخدمة الإلزاميّة أو غير ذلك من الأسباب.

أمّا مؤخّراً، أي حين بدأ اليأس يتسرّب إلى النفوس، وبدأ إدراك أنّ الحلّ المنشود لن يكون قريباً بحال من الأحوال ينتشر بشكل واسع بين الجميع، وأنّه لا بدّ من قضاء الكثير من الوقت الذي قد يتجاوز العشرات من السنين قبل أن يلوح أفق هذا الحلّ، وحين بدأ الشعور بأنّ ما وُلِد كثورة غدا حرباً في أحسن أحوالها، وحرباً أهليّة في أسوئها. فقد تغيّرت الأمور بما يقارب الانقلاب رأساً على عقب، وبغضّ النظر عن أنّ هذا التغيّر شمل كلّ النواحي بلا استثناء، فإنّ هذا الأمر ظهر بأكثر ما يكون في موضوع السفر، حيث بدأ يُطرح هذا الموضوع كحلّ وحيد للحياة غداً، وحيث أنّ أيّة فرصة لبناء مستقبل ما هنا، وخاصّة لفئة الشباب، باتت شبه مستحيلة، وأصبح موضوع السفر يطرح بشكل مختلف.

وما كان يبعث على الحياء والخجل، بات اليوم محطّ إعجاب حيناً وحسد أحيان أخرى، وحيث أصبح هذا المسافر هو “العاقل” هنا، أمّا من يرفض السفر فهو المثير للضحك والسخرية. وغالباً ما نجد صفة “الرومانسيّ الوطنيّ” تلتصق به.

وفي واقع الأمر، إنّ اتّخاذ هذا القرار، سواء أكان بالبقاء أو بالهجرة هو أمر لا يخلو من الصراع النفسيّ الداخلي الكبير، وفي النهاية يبدو الفرد، أيّا كان القرار الذي يختاره، غير مناسب له، ويتحوّل الإنسان هنا إلى مطحون بين رحى البقاء أو السفر، ويشتدّ الصراع على أشدّه حين يتساوى طرفا الميزان دون أيّ شيء يرجّح الكفّة إلى طرف ما.

وبغضّ النظر عن الوجهة المسافر إليها، فإنّ الأمر لا يرتبط بـ “إلى أين؟” بقدر ما يرتبط بـ “هل أسافر أم لا؟” فالفرد منّا عليه أن يختار، هل يختار اليوم أم الغد؟ هل يختار لنقل “العقل” أم “العاطفة”؟ هل يختار “الوطن” أم “الحياة”؟

ودعونا نتحدّث عن أنّ تلك النزعة إلى التخوين لا تزال موجودة حتّى اليوم بشكل واضح، ودعونا نذكّر أنّ نسبة لا بأس بها من أولئك الذين يطلقون أحكام التخوين ذات اليمين وذات الشمال هم من الأشخاص الغير قادرين على الهروب لسبب أو لآخر، وعادة ما نجدهم ينسبون البطولات إلى أنفسهم لمجرّد البقاء لا غير، وعادة ما ينفون رغبتهم بالهجرة أو السفر، بل نجدهم يؤكّدون على بقائهم لأجل البقاء أو لأجل “الوطن”، وفي تلك اللحظة التي يتحوّل السفر فيها إلى متاح عندهم، تتحوّل الأحكام وتتغيّر..

ما أريد أن أذكره هنا، أنّ أيّاً منّا سيفكّر مئة مرّة قبل أن يقدم على خطوة السفر، حتّى لو كان يعلم أنّ هذا التخوين غير منطقيّ، فإنّه لا بدّ أن يترك أثره في داخله، ولا بدّ أن يتركه معلّقاً في الهواء، بين البقاء أو السفر. وهذا طبعاً لا يعتبر السبب الوحيد، ولكن لنقل إنّه الأكبر أو الأشدّ، عدا عن أمور أخرى ترتبط بالنواحي الشخصيّة لكلّ فرد، كالخوف من المجهول أو من الوحدة، أو الخوف من عدم الرجوع ثانية، أو غيرها.

أمّا القرار بالبقاء فهو ليس أقلّ صعوبة، وأسهل اتّخاذاً، فالأمر لا بدّ واضح لدى الجميع، واليأس استولى على ذواتنا، فالبقاء هنا لم يعد يعني إلّا شيئاً واحداً لا غير في أعين الكثيرين “إنّه ليس أكثر من قضاء الوقت بانتظار الموت” ليس إلّا الفراغ واجترار الذات دون أيّ أمل بالغد، ورغم ذلك فإنّ ترك هذا الـ “الماضي” ليس بالأمر السهل القيام به.

وهكذا، فإنّ كلّاً منّا نال ما ناله منه هذا الصراع، البقاء أم السفر؟؟؟ ويبدو أنّ الأمر لن يتوقّف هنا.. فإنّ أيّ قرار سيُتّخذ لن يوقف هذا الصراع، فلو أتّخذ قرار البقاء لن ينهي هذا الصراع أبداً وسيظلّ هاجساً يصعد كلّ حين وآخر إلى السطح، وخاصّة كلّما ازدادت الأمور سوءاً، أو عند ظهور مشكلة ما أو عند انخفاض القدرة على تحمّل أمور كنّا قد اعتدنا عليها أو هُيّئ لنا أنّنا اعتدنا عليها. أمّا القرار الآخر، فإنّه سيحلّ هذا الصراع بشكل ظاهريّ، ولكن هذا لا يعني أنّه قد حُلّ فعلاً بشكل جذريّ، فإنّ ما يحدث فعلاً هو تحوّله إلى صراع من نوع آخر، فربّما يغدو “هل أعود؟؟” أو يتحوّل إلى “هل أنا خائن؟؟” وربّما إلى شكل آخر غير ذلك.

حينها، وفي الحالتين، سنجد أنّ أقسى المشاعر التي ستنال الإنسان إنْ لم يستطع حلّ هذا الصراع، بشكل سويّ وليس تخديريّ، هو تأنيب الضمير والشعور بالذنب. وفي النهاية، إنْ حاولنا النظر بشكل أعمق إلى هذا السؤال سنجده يعني “هل أهرب أم أواجه؟” لهذا فإنّ حلّ هذا الصراع لن يكون سهلاً بشكل من الأشكال، إنْ لم يكن بشكل واع وسويّ.

إنّ الأمر يرتبط بأمور أشدّ عمقاً ممّا يبدو، وفي أحيان يبتعد عن الشكل السطحيّ لهذه المشكلة، وقد يصل في بعض الأحيان إلى أعمق مشكلة قد تواجه الإنسان، وهي مشكلة الوجود.

2 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>