هيا نتناقض
المحامي محمد صبرا
الثورة بالتعريف السياسي والاجتماعي هي حركة اندفاع مجتمعي تهدف إلى الخروج على الوضع الراهن، وتغييره نحو الأفضل أو الأسوأ. قد يكون المحرك للثورة هو الحلم بغدٍ أحسن، وهنا تكون الثورة تعبيراً عن حركة واعية تقودها نخب تملك رؤية متكاملة للواقع ولمآلات المستقبل، وقد تكون الثورة مجرد تعبير عن الغضب، وهنا تأخذ شكل احتجاجات عفوية تتسع بشكل تدريجي لينخرط فيها شرائح مجتمعية عانت من القسوة أو الإقصاء أو التهميش.
تهدف الثورة إلى تطوير الواقع أو تحطيمه بشكل كامل، بحيث تستطيع بناء واقعٍ آخر مختلف نوعياً، يحقق بعضاً من تطلعات الناس. وما يميز الثورات العميقة التي تأخذ طابعاً عنفياً هو تعريتها الكاملة للبنية النفسية والثقافية والاجتماعية التي كان المجتمع يتستر عليها عبر ممارسات تلفيقية تتسم بنفاق عام، وبتوافقات شكلية على مجموعة قيمية يدعي المجتمع امتلاكه لها. ما حدث في الثورة السورية، على الرغم من الظواهر والمحطات العديدة الإيجابية والمدهشة التي قدمتها، أنها كشفت العور الكبير والمزمن المستور عبر عقود من التغييب الكامل لسلم قيم مجتمعي حقيقي. فقد ظهر القيح المجتمعي على السطح دفعة واحدة، وفي زمن قصير نسبياً. إنها ثورة حطمت كل الثوابت، وأعادت المجتمع إلى لحظة المواجهة الحقيقية مع الذات.
من أكثر الظواهر المأساوية التي كشفتها الثورة السورية هي ظاهرة التناقض الأخلاقي الرهيب الذي يعيشه معظمنا، فكل الحوادث قابلة لتوصيف مزدوج ومتناقض بمجرد تغيير الفاعل أو الضحية. مؤيدو النظام مثلاً يدعون بأنهم يؤيدونه دفاعاً عن الوطن واستقلاله وسيادته، ولذلك يرفضون وجود مقاتلين أجانب يقاتلون في جماعات المعارضة المسلحة، ويرفضون أي رأي أجنبي إذا كان انتقاداً لممارسات النظام، لأن ذلك يعتبر في عرفهم مسّاً بالسيادة، لكن هؤلاء المدافعين عن السيادة أنفسهم يرحبون بالتدخل الإيراني والروسي والصيني، ويقفون باحترام أمام عناصر الميليشيات الأجنبية الذين يقاتلون مع النظام، ولا يجرح شعورهم الوطني وجود عنصر عراقي أو أفغاني أو إيراني أو لبناني على حاجز من حواجز التفتيش في دمشق أو خارجها. هذا التناقض نجده أيضاً في الطرف الآخر لدى المعارضين للنظام، فالعناصر الأجنبية التي تقاتل مع النظام هي عناصر مجرمة ومرتزقة، بينما المقاتلون الأجانب في الجماعات المسلحة للمعارضة هم إخوة لنا، مجاهدون شرفاء تركوا وطنهم وأهلهم لنصرتنا، وكذلك أيضا تدخل إيران وروسيا هو اعتداء على السيادة، وهو أمر مرفوض بينما يطالب هذا القسم بالتدخل الأجنبي على أساس أنه السبيل الوحيد لإسقاط النظام.
يعيب جمهور المعارضين على المؤيدين تحكم الجنرال سليماني بالقرار العسكري في سورية، ويدافع المؤيدون عن ذلك بالقول إنه محور المقاومة والممانعة، ويعيب جمهور المؤيدين على المعارضين وجود قادة عسكريين للفصائل من غير السوريين، ويدافع المعارضون عن ذلك بأن هؤلاء جزء من حق مقاومة الظلم ومناصرة القضايا الإنسانية.
الغريب في الأمر أن الشعور الوطني عند الكثيرين بات يخضع للأهواء، ولا يحدده أساس قيمي ثابت، بل وصل الأمر إلى حد الاحتفاء بالدم والقتل إذا كان يطال الطرف المقابل. لقد احتفى أكثر المؤيدين بجريمة قتل الأطفال بالسلاح الكيماوي في الغوطة، قائلين إنهم إرهابيون صغار، واحتفى عدد كبير من المعارضين بجريمة قتل أطفال في مدرسة عكرمة في حمص، قائلين إنهم شبيحة صغار. المؤيدون أنفسهم الذين أيدوا قتل الأطفال في الغوطة استصرخوا الضمير الإنساني، وملأوا الدنيا عويلاً لمقتل أطفال حي عكرمة، والمعارضون الذين هللوا لجريمة عكرمة هم نفسهم الذين كانوا يبكون على الطفولة التي قتلت بدم بارد من جانب النظام المجرم.
إن الثورة إن لم تكن قاردة على إنجاز سلم قيم واضح وثابت، ستبقى في إطار التعبير عن حالة الغضب المدمر وغير المنتج. الثورة تؤمن بالحرية لأنها قامت من أجل الحرية، وإيمانها بالحرية هو إيمان معياري بهذه القيمة، ولا يتأثر بمن سيتمتع بها، فهي تنشد الحرية للجميع وليس للمنخرطين فيها فحسب. هي تريد الحرية للوطن ولجميع المواطنين، سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين، ولا يمكن بحال من الأحوال تخصيص الحرية لفئة أو جماعة، لأنها ستكون آنذاك تعبيراً عن رغبة بالهيمنة، وليست تعبيراً عن الإيمان بالحرية.
الثورة تدافع عن قيمة الحياة، وهي ترفض المساس بهذا الحق، أياً كان الفاعل، وأياً كان موقف الضحية. لا يمكننا أن نرفض القتل هنا، ونقبل القتل في مكان آخر، الثورة لا تحتفي بالقتل ولا ترقص للدم، وهي تعتبر أي إزهاق لروحٍ بشريةٍ خسارةً، وعندما تزهق هذه الروح في ساحة معركة تكون في حدودها الضرورية والاستثنائية في إطار حق الدفاع المشروع عن النفس، ووفقاً لمقتضياته. لقد عبر الشهيد يوسف الجادر، أبو فرات، عن هذه الحقيقة عندما جلس يبكي على الجنود القتلى في معركة تحرير مدرسة المشاة في حلب، عندما قال “هم إخوة لنا، لم نكن نريد قتلهم، لكن بشار دفعهم لمقاتلتنا، وهم خسارة للوطن”. هذا هو التعبير الأخلاقي الأكثر سمواً عن الثورة وقيمها، فالقتل ليس أمراً سهلاً، ولا ينبغي أن يكون أبداً استناداً إلى موقف سياسي أو غيره, فكما من حقي أن أعارض النظام، فإن من حق الآخرين أن يؤيدوه، دفاعي عن حقوقي يعني بالضرورة الدفاع عن حقوق الآخرين أيضاً، بالدرجة والصلابة نفسيهما.
لقد آن الآوان، كسوريين، أن نتخلص من مصطلحات قبيحة تشكل عاراً على سلم قيمنا، وعلى وجداننا. تلك المصطلحات التي تجعل نصف الشعب السوري عراعير وإرهابيين وقتلة، وتجعل النصف الآخر شبيحة ومجرمين. لقد آن الآوان أن نتخلص من تلك المصطلحات التي تسقط إنسانية الإنسان عبر استخدام كلمة “دعس″ تعبيراً عن القتل. حتى الحروب والمعارك لها سلم قيم يبنى على شرف المقاتل وسلوكه الأخلاقي مع من يقاتله، ويجب احترام إنسانية القتيل أياً كان الخندق الذي يقف فيه. عندما ندين الجريمة فإننا ندينها كفعل مجرد، ونسعى لمحاكمة المجرم وعقابه وفق أسس العدالة، لأننا عندما نطلب العدالة له فإننا نطلبها لأنفسنا. ليس الهدف هو قتل المؤيدين الذين يقاتلون في صفوف النظام، بل الهدف هو السعي من أجل حريتهم، ومن أجل تخليصهم من الوحش الذي زرعه النظام فيهم. هذا البعد الأخلاقي للثورة هو شرط أساسي للانتصار فيها، لأنها قامت بالأصل ضد امتهان كرامة الإنسان، ومن أجل حقه الأصيل بالحرية والحياة.
الثورة هي الدفاع عن السوريين جميعاً بلا استثناء، هي مواساة أمهات الضحايا الذين قتلهم جنود دفعوا لمحاربة شعبهم، وهي أيضاً مواساة أمهات الجنود الذين استلب هذا النظام إنسانيتهم، وحولهم إلى وحوش تقاتل دفاعاً عن كرسيه، إنها ثورة ضد حرب الضحايا على الضحايا.
الثورة هي سمونا الأخلاقي، ترفعنا عن مشاعر الانتقام والثأرية النابعة عن الغضب الغريزي المدمر، هي حركة بناء وليست هدماً فحسب، هي انتصارنا على أنفسنا أولاً، وهذا دور المعارضين السياسيين الملزمين بتقديم خطاب أخلاقي يليق بهذه الثورة وبتضحيات الشهداء.
إن حزب الجمهورية يتحرك برؤيته طبقاً لهذه المنظومة القيمية الواضحة، فهو يدافع عن الحرية كحق مطلق للجميع، ويدافع عن الحياة كقيمة أصيلة، وكحق لا يجوز سلبه من أحد تحت أي ذريعة، وهو يرفض أي امتهان لكرامة السوري أياً كان، فسورية لجميع أبنائها، ودفاعنا عنها هو دفاعنا عن جميع السوريين، وعن حقوقهم بلا استثناء.
لا أستطيع تفهم قولك بما ان من حقي أن أعارض نظام ظالم مجرم فيجب ان يكون من حق غيري مساندته .و كانه صراع أفكار و نظريات و ليست شلالات دماء تسيل يوميا بين من سلبت حقوقهم و بين مجرمين. و قد اتيت على سيرة فرح الناس بالاطفال القتلى من كلا الجهتين,,عليك أن تميز بين فرح كفعل و فرح كردة فعل على أنها غير مساوية لها في المقدار, و لكن ربما كخطاب حزب استطيع أن أجد لهذا الكلام مسوغ