حوار “راي اليوم” مع غسان الجباعي
الرباط – “راي اليوم” – 16 يناير 2014
أجرى الحوار: عادل العوفي
المسرحي السوري غسان جباعي: لست نادماً على شيء.. لقد قلت كلمة حق في وجه سلطان جائر وهذا ما أعتز به
قضى سنوات طوال في سجون النظام ،تهمته الوحيدة التي لا تغتفر هي الكلمة والفكر الحر.. فنان راقي ومبدع يهوى أب الفنون ويعتبره ملعبه الأول.. ليس غريبا أن يعيش ابنه المسرحي أيضا نفس تجربته المرة في أقبية العار.. يفتخر بتلك السنوات حيث حول هو ورفاقه السجن إلى مركز ثقافي ومشغل للفنون اليدوية.. ليس غريبا أن ينحاز لثورة شعبه في وجه الديكتاتورية ..انه الكاتب والمسرحي السوري القدير غسان جباعي الذي سمح لنا بالنبش في أسراره المؤلمة المضيئة كذلك وشاركنا همومه وأحلامه في هذا الحوار الخاص:
ـ دعنا نعود بك الى الوراء استاذ غسان لو سمحت وتحديدا الى فترة سجنك والتي امتدت الى عشر سنوات، هل لا يزال هذا الهاجس حاضرا بقوة في حياتك بما يحمله من الم وعذاب وقهر؟ وكيف تحاول التعاطي مع وضعية ابنك الفنان عمر جباعي المعتقل حاليا في اقبية النظام؟
ـ تجربة الاعتقال لا يمكن أن تُنسى.. إنها وشم تحمله الروح التواقة للحرية وتتباهى به حتى النهاية، خاصة إذا كانت فترة الاعتقال طويلة جدا وقاسية، بلا ذنب يعاقب عليه القانون ودون محاكمة.. ثم إن السجين في بلدي يبقى سجينا حتى بعد خروجه من المعتقل، فلا يحق له السفر ولا يحق له العمل أو حتى العيش باستقرار وكرامة إنسانية.. فكيف يمكن أن ينسى!! كيف ينسى الإهانة والذل وهدر الكرامة الإنسانية!! كيف ينسى الشتيمة الأولى والصفعة الأولى على الوجه وعضَة قيد الحديد الأولى على المعصمين والساقين واللقاء الأول مع الموت وجها لوجه تحت التعذيب!! لكن السجن لا يولد لديك الألم والعذاب والقهر فقط، بل يولد أيضا التحدي والأمل والحضور المتألق للطاقة البشرية الكامنة لديك.. لقد حولنا السجن مع الأيام إلى مركز ثقافي ومشغل للفنون اليدوية والنحت.. قرأنا آلاف الكتب وكتبنا آلاف القصائد والقصص والروايات وصنعنا إيقونات ما زلنا نحتفظ بها حتى الآن، من نفايات قطع الخشب وبذور الزيتون واللوز والدرّاق والحجارة والعظام.. أما بالنسبة لابني عمر فهم يتوارثون سلطة الاستبداد ونحن نتوارث السجون والمنافي.. والطريف في الأمر أن يعيد التاريخ نفسه بهذه القسوة، فقد اعتقل ابني الشاب بنفس السن الذي اعتقلت فيه، كان عمري 32 عاما، وكان ابني يؤدي الخدمة الإلزامية مثلي، وهو الآن في نفس الفرع الذي قضيت في أقبيته سنة كاملة تحت الأرض. الفرق الفاصل بيننا أن جيلنا سجن في زمن الخوف والخنوعK حيث لم يكن أحد يجرؤ على المطالبة بنا أو التلفظ بأسمائنا، وحتى الجيران كانوا يشيحون بوجوههم كي لا يلقوا التحية على أهلنا، بينما يسجن عمر اليوم في زمن الثورة الشعبية الوطنية العارمة، ثورة الحرية والكرامة..
ـ هل قدر المبدع الحر في سوريا ان يتجرع من كاس التعذيب والاعتقال؟ وما اوجه الشبه بين مسيرتك ومسيرة ابنك الشاب؟
ـ الإبداع بما يحمله من قيم الحق والعدل والجمال والمعرفة، القيم التي وجد الإبداع من أجلها، ويعيش لأجلها، لا يمكنه أن يتصالح مع الاستبداد والطغيان، الذي يعمل على ترسيخ قيم الظلم والذل والفساد والتخلف. والإبداع لا يمكن أن يعيش إلا تحت ضوء الشمس وفضاء الحرية بينما لا يمكن للاستبداد أن يعيش إلا في العتمة أو تحت الأضواء المصطنعة، ولا يمكنه أن يستمر ويستقر إلا بقتل روح المبادرة وكم الأفواه وإنعاش روح الابتذال والسطحية والجهل والمحسوبية والعبودية.. كان ذلك منذ الأزل وستبقى المعركة مفتوحة عبر كل الأجيال.. وهذا هو وجه الشبه بين مسيرة جيلي جيل الثمانينات وجيل ابني عمر..
ـ انت من الاسماء المسرحية المعروفة جدا في سوريا، ما دور “اب الفنون ”في هذا الظرف العصيب من تاريخ سوريا الحديث؟ وهل يؤمن الجميع بهذا الدور؟
ـ المسرح الرسمي يقدم بعض العروض التافهة التي لا يستطيع أحد حضورها، ليس من أجل المسرح بل كي يقولوا “كل شيء على أحسن ما يرام”، أي أنها ليست ذات طابع مسرحي بل سياسي.. والحقيقة لا يستطيع الإنسان الشريف التفكير بالمسرح وشعبه يقتل ويهجر وبلده يدمر أمام عينيه.. حتى المدارس أقفلت أبوابها والكهرباء مقطوعة والطرق خطرة مليئة بالقناصة.. علينا أولا أن نوقف القتل والتدمير، أن نرفع الحواجز ونحقق الأمن، أن نؤمن السكن والغذاء والدواء للنازحين.. قد يستطيع المسرحيون خارج سوريا فعل شيء، وربما تستطيع تحقيق ذلك القصيدة والأغنية واللوحة والصورة والصوت.. أما المسرح فالفرص أمامه معدومة..
ـ عانيت كثيرا بسبب مواقفك الثابتة و الواضحة ،هل يساورك الندم بعد كل هذه المسيرة استاذ غسان؟ وعلى ماذا انت نادم بالضبط؟
ـ لست نادما على شيء.. لقد قلت كلمة حق في وجه سلطان جائر، وهذا ما أعتز به.. ربما أشعر بالخجل لأنني ما زلت حيا حتى الآن.. أخجل من هذه الأفعال المشينة التي يمارسها النظام ضد شعبه.. أخجل عندما تدك دمشق بالصواريخ من جبل قاسيون.. أخجل كلما سقط فتى أو فتاة بعمر الورد بينما أجلس أنا خلف طاولتي.. أخجل من دمائهم وشجاعتهم وتوقهم للحرية والكرامة التي فرطنا بها وهدرناها عقودا.. أخجل أن أتنفس الهواء الذي كانوا يتنفسون وأن أتواجد في المكان الذي قتلوا فيه.. أخجل كلما رأيت مواطنا سوريا يجلد على أيدي جبهة النصرة وغيرها من الظلاميين الغرباء الذين سرقوا دماءنا وتضحياتنا، ويريدون لنا أن نستبدل الطغيان السياسي بطغيان ديني لا وطني.. كما أخجل بالنيابة عن هذا العالم المتحضر المدافع عن حقوق الإنسان والذي أصبح فجأة بلا ضمير ولا إنسانية..
ـ الشعب السوري انتفض عن بكرة ابيه ضد الظلم والاستبداد، انت كفنان معروف اختار الاصطفاف بجانب الحق، كيف تقيم دور واداء الفنانين اثناء الثورة المباركة؟ ولماذا اقتصر دور هؤلاء على التطبيل والتزمير لطرف دون الاخر وباحتشام شديد؟
ـ الفنانون الذين انحازوا للنظام هم من صنع هذا النظام.. الفنان الحر كان حرا قبل الثورة وعندما قامت انتمى إليها. أما أشباه المبدعين المقعدين الذين يحتاجون إلى عكازات النظام والذين صنعهم الإعلام والامتيازات والعلاقات العامة، فمن الطبيعي أن ينتموا لسيدهم لأن مكتسباتهم تزولون بزواله.. وللحق، عدد الفنانين الأحرار ليس قليلا، لكنهم غير معروفين كونهم كانوا بالأصل مطاردين ومحرومين من المشاركة ومهمشين لسنوات طويلة.. وعلى أية حال فالثورة كما أعرف يجب أن تجرف في طريقها ليس النظام السياسي وحسب بل كل مرتكزات الاستبداد الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مهما طال الزمن..
ـ لوسائل الاتصال الحديثة دور فعال اثناء ثورات الربيع العربي، باعتبارك تنتمي لجيل علاقته تبدو متوترة نوعا ما مع مواقع التواصل الاجتماعي مثلا، كيف استطعت التأقلم مع هذه المستجدات وبالتالي انشاء حسابات على هذه النوعية؟ وما الدافع الحقيقي الذي جعلك تلتحق بالركب؟
ـ لا يستطيع المبدع أن يعيش بمعزل عن العالم.. وإن سمح بذلك عرض نفسه للموت.. عليه أن يكون دائما في قلب الأحداث، متصلا بالمشهد الثقافي والسياسي والفكري، متفاعلا معه.. كنا حتى في السجن نخترع شتى الوسائل للتواصل مع العالم الخارجي، عن طريق القراءة والزيارات والرسائل السرية… والمسألة لا تتعلق بجيل دون آخر فالمبدع السوري أصلا تأخر في استخدام النت بسبب حجبه من قبل السلطات ولذلك كان نهما في الإقبال عليه والتفاعل معه.
ـ شخصيا اجدك اسما لامعا في عالم الكتابة والمسرح لكنني استغرب لقبولك ببعض الادوار “الثانوية” في المسلسلات التلفزيونية، لماذا هذا الاختيار؟ وهل هو اجباري ام انه نابع عن قناعة شخصية؟
ـ أنت محق تماما. كان حظي سيئا جدا في هذا الإطار.. في البدء أردت أن أتعرف على هذه الفنون، السينما والتلفزيون من خلال مشاركتي ولو بأدوار صغيرة.. وكنت أظن أنني ممثل موهوب، وعندما تبين لي أنني ممثل فاشل أقلعت عن المشاركة. لكن إلحاح بعض زملائي المخرجين علي وحاجتي المادية، كثيرا ما كانت تجبرني على قبول ذلك للأسف الشديد..
ـ كيف ينظر غسان جباعي لمستقبل الثورة السورية؟ وهل انت متفاءل بالقادم؟
ـ منذ اليوم الأول لخروج المظاهرات في درعا قلت لزوجتي: انتصرنا.. وكنت أعلم حجم المأساة التي ستحل بالشعب السوري لأنه خرج إلى الشوارع وطالب بالحرية والكرامة، لكني لم أكن أتوقع هذا الحجم من الحقد والخسة البشرية والسقوط الأخلاقي للنظام.. أنا أكتب الآن وأنا تحت قصف الصواريخ.. ترتج الأرض تحتي وفوقي، لكنني رغم الدمار والمجازر والجوع والتشريد أثق بحتمية انتصار هذه الثورة.. ثورات الشعوب لا تُهزم.. الثورة التي تستمر وحيدة أكثر من ثلاث سنوات وتقدم مئات الآلاف من الضحايا لا يمكن أن تهزم.. وهذا التاريخ أمامكم فادرسوه جيدا.. حتى إذا هزمت الثورة تنتصر.. تصبح مقدمة لثورة جديدة.. وحتى أولئك الطائفيون الذين قدموا لمساعدة النظام، وأولئك التكفيريون الذين جاءوا ليقيموا دولة الخلافة ويعلموا بني أمية الإسلام، والذين يحاولون سرقة دماء السوريين وأحلامهم في الدولة المدنية الديمقراطية لجميع أبنائها، سيفشلون في مسعاهم ويعودوا من حيث أتوا.. أنا واثق من ذلك ومتفائل بمستقبل سوريا المشرق..
ـ متى سيعود المسرح عشقك الازلي الى وضعك الطبيعي؟ وما هي احلامك المؤجلة في هذا المضمار؟
ـ فن المسرح لا يقوم إلا على ثلاثة أرجل: المعرفة والجمال والحرية.. وما يحدث الآن في سوريا لا يمكن أن يكون نهاية المطاف، بل نهاية الاستبداد وبداية الركض نحو الحرية.. أما عن أحلامي فقد كتبت ذات يوم في صفحتي على الفيسبوك: “أحلم، بمناسبة يوم المسرح العالمي، بعرض محلي كرنفالي في ساحة الأمويين، يحضره جميع الشهداء والجرحى والمفقودين والمهجرين”…
ـ كسؤال اخير ماهي رسالتك لابنك عمر ولكل المعتقلين السوريين في سجون نظام الاجرام؟
ـ أقول لابني عمر:
إذا أخذوك بغتة لا تنس رصيدك من قبلاتنا وخفقات قلوبنا خذ معك أصابعنا إن شئت واترك أوراقك المسرحية في درج الطاولة خذ دموعنا ولهفتنا عليك واترك ابتسامتك العالية خلف زجاج النافذة ولا تنس أن تضع في جيبك الداخلي آخر فقاعة هواء وآخر شعاع من ضوء الشمس.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...