اللفافة الأخيرة (قصة قصيرة)
أخرج لفافة السجائر وأشعلها متردداً؛ فهي اللفافة الأخيرة ولا نقود لديه، أخذ النفس الأول وحبسه من دون رغبة بإطلاقه، كان كل يوم يأتي إلى المركز التجاري الكبير في المدينة، ينتظر وينتظر من دون ملل أو كلل، مضى على موعده ثلاثة أيام ؛ فمنذ أسبوع أعلن إفلاسه، لا مال لديه ولا عمل.
أرخى رأسه وأغمض عينيه وعاد بذاكرته إلى الوراء.
في كل يوم يستيقظ صباحاً، يعدّ الشاي ويضع القليل من الزيت والزعتر، صحيحٌ أنه مفلس ولكنه فَطْن، ابتاع زعتراً وعلبة سجائر كبيرة ؛ فبهذا الشيء يحتال على الجوع والملل.
كان يعمل منذ شهر في إحدى المطاعم القريبة لمنزله، مطعم تركي قديم في مدينة أزمير، تعلم القليل من اللغة التركية، باستطاعته أن يحادث الزبائن في أمور المطعم وأن يبتاع ما يريد من الدكاكين.
مدة العمل تتجاوز الإثني عشر ساعة، يحاول شهراً بعد شهر أن يجتزئ القليل من راتبه ليرسله لأهله في مدينة إدلب عن طريق بعض الأصدقاء الذين يعملون كمهربين على الحدود السورية التركية
في أحد أيام عمله، طلب منه المدير أن يعمل من الصباح إلى المساء.
-من الصباح إلى المساء !! … ولكن ..
– لا أعذار فالحال كما ترى، الزبائن قليلة والأمور ليست جيدة، ستعتاد العمل لستة عشر ساعة لا تقلق.
– ست عشرة ساعة؟!
– نعم ست عشرة .. احمد ربك فلا أحد يوظف السوريين هذه الأيام .. اعمل كما أمرتك وإلا لن تُمضي أسبوعاً آخر هنا.
– سأفعل
( قالها حزيناً مضطراً)
– الحال كما قال ليست جيدة، هي جيدة ولكن كما يريد هو يكون، وإلا أصبح بلا عمل، كيف سأعيش هنا وكيف لي الصمود من دون عمل؛ فأهلي بحاجة للنقود التي أرسلها لهم.
هكذا كان طلحت يقنع نفسه يوماً بعد يوم، هي جملته التي يواسي بها نفسه كلما ضاقت به الحال.
يستيقظ باكراً يأكل لقيمات ويرتدي بنطاله وقميصه على عجل، يتجه إلى المطعم لينظفه ؛ فالمطعم يفتح أبوابه في تمام الساعة الثامنة صباحاً، ينظف المناضد والكراسي، يلقي ما جمعه من مخلفات خارج المطعم في حاوية القمامة الكبيرة الخاصة بهم، يعود ليبدأ في إعداد مكونات الأطعمة لكي تُطهى وتقدم للزبائن، يقوم بتقطيع الطماطم والخيار والخس والبقدونس، يعد لبن العيران ويجهز أكوابه وينظف المتسخ منها، يجهز العجينة ويهيِّيء المناضد ليجلس عليها الزبائن، يعمل من الساعة السادسة صباحاً للعاشرة مساءً.
ست عشرة ساعة من العمل لا راحة ولا توقُّف، يأكل وجبة الطعام في الساعة الخامسة مساءً لمدة نصف ساعة ليعاود العمل.
يصل طلحت إلى منزله الصغير في الساعة العاشرة والنصف، غرفة واحدة تتسع لسرير فقط، علَّقَ على إحدى جدرانها صورة لوالديه.
– كم أنا مشتاق ..
يقولها كلما جاءت عيناه على الصورة المعلقة، ينظر طويلاً إليها قبل أن ينام، يتأمل تفاصيل والديه، عيون واسعة، تجاعيد كثيرة، وشعر رجولي شاب مبكراً، وحجاب أنساه لون شعر أمه.
عمل يومي طويل، لعله يشتاق للراحة ولكن الذي ينغص عليه الأمر هي وجبة الغداء المجانية التي يفتقدها يوم العطل، عليه أن يدفع أكثر أيام العطل ليبقى واقفاً، يوم عمله متعب ولكنه بعد شهر ونصف من القرار الجديد بدأ جسده يعتاد الأمر على مضد.
يومياً يستيقظ ليصل إلى المطعم، ينظف يعد ويساعد في تقديم الطعام، يعود ويغتسل ويجلس مطولاً ليتأمل التجاعيد، ويبدأ الغوص لدقائق معدودات في عالمه الحقيقي، العزف على البزق.
كان طالباً في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، ودع أباه وأمه على أمل أن يعود إليهم وهو في قمة مجده، لم يمضِ أكثر من عامين حتى اندلعت الثورة، شارك وخرج ولم يتوقف، وعاد إلى مدينته إدلب ليستقر فيها بعد أن ضاقت به الحال، وبعد أن فقد الأمل في نصر قريب، وانتهاء فرص تأجيل الخدمة العسكرية.
توجه إلى تركيا مغادراً أهله وأحبته على أمل العودة المبكرة، في بداية حياته الجديدة، كان يقتات على ما أعطاه له والده من مدخرات العمر، لم يترك فرصة ليعمل في ما يحب إلا وحاول جاهداً الحصول عليها، ولكن الفشل كان رفيقه الدائم، أُغلقت جميع الأبواب في وجهه.
بعد أن مضى أربعة وثلاثون يوماً على مغادرته البلد استطاع أن يلتقي مع أحد أصدقائه، غمرته السعادة لدرجة أنه نسي اسم صديقه في أول الأمر.
– مرحباً.
– أهلا طلحت .. ما الأخبار؟
– الحمد لله … ما أخبارك أنت؟
– جيدة … أعمل الآن نادلاً في أحد المطاعم السورية … وأنت؟
– أنا ( قالها ساخراً ) .. لم أدع باباً لم أطرقه .. كلها موصدة .. في البداية كان أملي أن أحصل على فرصة تليق بحلمي .. العزف .
)- يضحك علي وكأنه سمع لتوه طرفة عجيبة ) .. حلم وعزف وماذا !! … احمد ربك أنك خرجت سالماً من سوريا.
– الحمد لله كثيراً.
– انظر ولا تتعجب .. أنا أحمل شهادة في الهندسة وأعمل نادلاً .. حبيبي طلحت .. لقد أصابنا الذل وانتهى، أي حلم لنا .. ابحث عن عمل كعملي .. لعله يلبي لك حاجتك ( قال جملته وهو يبتسم ويلوح بكلتا يديه وفي عينيه لمعة عالم اكتشف سر المادة الأم ).
– كعملي ( يقلده ثم يضحك عالياً ) … السوري يا حبيبي لديه أقاربه ومعارفه الذين بلا عمل فلا حاجة لعامل جديد .. أما التركي … فسوري يوك ( سوري لا – باللغة التركية. (
– ابحث جيداً .. غادر هذه المدينة .. اذهب إلى أزمير أو أي مدينة أخرى، لا تبقى هنا في غازي عنتاب، ابحث عن عمل في أي مطعم كان .. اه صحيح أتذكر حسام؟
– أي حسام تقصد؟؟
– حسام الخير .. صديقنا في ..
) يقاطعه طلحت (
– حسام الخير .. نعم أذكره .. رحم الله أخاه .. توفي في دوما ثالث شهر من الثورة ..
– نعم صحيح .. رحمه الله .. ما به؟
(سأله طلحت مستغرباً)
-اتصل به فهو يعمل الآن في إحدى المنظمات الغربية لدعم الثورة وعلاقاته جيدة ومرتبه عالٍ .. أظن أنه لن يتركك وحيداً.
– سأفعل يا علي .. سأفعل … لكن قل لي لماذا لم تطلب أنت منه المساعدة؟
– في الحقيقة خلاف حدث بيني وبينه قبل مجيئي إلى تركيا .. ولكني هاتفته أكثر من مرة، علاقتنا غدت رسمية أكثر، ولكن اطلب أنت منه أن المساعدة …. خذ رقمه مني واتصل به على الفور.
– هاته.
كان اتصالاً سريعاً ندم طلحت أنه أجراه …
-ألو .. حسام .. مرحبا ..
– أهلاً وسهلاً … من معي؟
– أنا طلحت .. طلحت سعيد
– طلحت .. أهلاً بك .. ما أخبارك؟
– الحمد لله .. أنا الآن في تركيا ؛ فقد اضطررت أن أغادر سوريا… قل لي هل أستطيع أن أقابلك قريباً؟
– لا مجال يا صديقي هذه الأيام .. أعتذر منك .. وقتي مليء بأمور تشغلني ليلاً نهاراً .. أعطني أسبوع وأعدك بأني سأتصل.
-لا بأس .. حسام (صمت متردداً ثم أضاف باستحياء) هل بإمكانك أن تساعدني لأجد عمل؟
-عمل .. أعطني القليل من الوقت ريثما أنتهي من عملي الطارئ وسأبحث لك عن عمل .. لا أعدك ولكن سأبذل قصارى جهدي .. ولكن لا تقلق، ستواجه الكثير من المتاعب لتستقر وتجد عملاً هنا … اصبر يا حبيب القلب اصبر.
– إني صابر .. ولكن المعيشة في تركيا باهظة الثمن كما ترى .. (صمت) … الحمد لله على كل حال .. الشكوى لغير الله مذلة.
– لا تقل هذا .. أخبرني ما أخبار أهلك .. هل هم معك في تركيا ..
– هم بخير والحمد لله .. إنهم في ادلب الآن وإذا تحسنت أحوالي سوف أحضرهم إلى هنا، سمعت أنك تعمل في منظمة إغاثية … هل هذا صحيح؟
– نعم هذا صحيح .. ولكن كما تعلم الحياة هنا صعبة .. والمبلغ الذي أتقاضاه لا يبقى منه شيء، بل أستدين أحياناً.
– الحال واحدة .. لا تنسني أرجوك.
– بالتأكيد يا صديقي لا تقلق … يجب أن أذهب.
– وأنا يجب أن أذهب نتكلم لاحقاً .. إلى اللقاء.
– إلى اللقاء.
لم يتوقع طلحت يوماً بأن تصل به الحال ليتصل ويطلب وينتظر المساعدة بهذه الطريقة، لكنها الغربة وحسام صديق عزيز، على الرغم من التغير في طريقة حديثه وتردده في استقبال الطلب كما شعر طلحت، إلا أن صوته وابتسامته لم تتغير منذ ست سنوات، أي عندما التقيا في مدرج المسرح الجامعي.
– مرحبا أنا حسام … حسام الخير، وأنت؟
– طلحت سعيد .. سررت بلقائك.
– أهلاً طلحت … من أي المدن أنت؟.. أنا متأكد أنك لست من دمشق.
– لا لست من دمشق فعلاً … أنا من مدينة ادلب .. جئت لأدرس الموسيقى ..
– يعني أنها زيارتك الأولى .. أليس كذلك؟
– ليست زيارتي الأولى ولكنه استقراري الأول.
– اسمع .. لا تقلق أبداً .. أنا أخوك هنا، أي شيء تريد فسألبيه لك بعيني هاتين.
-شكراً لك.
مضى الوقت وانتهت أيام أجرة المنزل الأخيرة، لا مجال لتمديد الأجرة ، عليه أن يغادر المنزل بعد غد، واللفافة هذه هي اللفافة الأخيرة، وعليه أن يقرر بعد إطفائها.
بعد عدة محاولات استطاع أن يفهم أحد الأتراك بأنه بحاجة ماسة لاستخدام هاتفه النقال، أمسك الهاتف وانتظر الرد.
– حسام .. ما أخبارك؟ .. لا اسمعني (رفع صوته قليلاً) .. أنا أنتظرك منذ أيام، وأنت لم تأتِ للموعد، كل يوم بعد الثالثة ظهراً تعدني … لا تعدني لا أريدك أن تعدني غداً (قالها بغضب)، وغداً أو بعد غد ستقول لي بعد أن تخلف موعدك أعتذر لقد اضطررت أن أعود إلى غازي عنتاب، انتظرني سأعود إلى أزمير الأسبوع القادم … اسمع ولا تقاطعني، أنت تغيرت والمال أعماك والعمل في مجالك هذا أخذك … لا أريد ولو حتى دين، ولا أريد شفقةً منك، أريد أن أخبرك شيئاً واحداً … (صمت) … الثورة السورية أخذت من البعض كل شيء وأعطت البعض كل شيء .. كل شيء .. لا أريد جواباً .. أنا عائد إلى ادلب … نعم إلى الموت.
أقفل طلحت الهاتف، شكر صاحبه، وانطلق عائداً إلى منزله ليأخذ ما تبقى له من حاجيات ليعود إلى منزل والديه.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...