أولاً: الحداثة ومنهج التفكير العلمي
1- الحداثة
دشنت الحداثة، التي اتضحت معالمها في عصر الأنوار الأوروبي، تغييراً جذرياً وشاملاً في حياة البشر وقناعاتهم وطرائق تفكيرهم، فهي لم تتناول تغيير نظام حكم ما أو إحداث انقلاب في السطح السياسي فحسب، بل كانت نهضة شاملة طالت جميع الفئات الاجتماعية، وغيرت جميع أوجه ومستويات النشاط الإنساني، الفلسفية والعلمية والأدبية والفنية، وكذلك القيم والأخلاق الإنسانية، وتزامنت مع نمو وتراكم الإنتاج المادي والثورة الصناعية، وتغيير أشكال الملكية والعلاقات الاقتصادية، ناقلة مركز الاهتمام البشري من التفكير بالحياة بعد الموت إلى التفكير بالعالم الواقعي الدنيوي، والبحث عن سعادة الإنسان المادية والروحية وتقدمه وترقيه، الإنسان، الذي أصبح المنطلق والغاية.
الحداثة الغربية، بكل ما تحمله من أفكار ومناهج وقيم وأدوات، إلى جانب ما أنتجته في السياق المادي والعلمي، كانت ثمرة للتطور التاريخي للبشرية، وقد ساهمت فيه جميع الحضارات والثقافات، ومنها الحضارة العربية الإسلامية. وأصبحت الحداثة الغربية ثقافة كونية ونمط حياة تخص جميع البشر والثقافات، فهي ليست خاصة بالغرب وحده بحكم طابعها الكوني والإنساني العام.
لقد برزت ملامح الحداثة بالتزامن مع صعود الرأسمالية، وبروز حركة التنوير الفكري والديني والاكتشافات العلمية والجغرافية، وغدت فتوحاتها الفلسفية والفكرية مكتسبات إنسانية عامة مع عولمة الرأسمالية للعالم، على الرغم من أن الغرب لا يزال ساحتها الفاعلة. وهذا كله لا ينفي بالتأكيد صحة النقد الموجه لنمط الإنتاج الرأسمالي والتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية، وضرورة العمل لا من أجل تحسينها فحسب، بل من أجل تمثلها وتجاوزها أيضاً، على الرغم من كونها ما تزال قادرة على تجديد نفسها. فالحركات الاشتراكية التي طمحت إلى استبدال النظام الرأسمالي بنظام أكثر عدالة كمقدمة لنظام تنتهي فيه الملكية الخاصة، وتضمحل فيه الدولة، لم تنجح في تجاوز النظام الرأسمالي على الرغم من أنها طرحت أسئلة جدية حوله، وسلطت الضوء على مثالبه وعيوبه، وأفسحت في المجال لتطويره وتخفيف آثاره السلبية.
تعني الحداثة التي ننشدها الانفتاح على المستقبل، والحركة الدائمة نحو آفاق جديدة في العمل والمعرفة، وبالتالي فإنها لن تكون تكراراً لنموذج مضى، أو نسخاً لنموذج غربي أو غيره من النماذج، بل ستكون استيعاباً لحداثة الغرب وتجاوزاً لها في آن معاً، فكل شعب يشترك مع الشعوب الأخرى في أساسيات معينة، وهذه هي عالمية وكونية الحداثة، لكنه بالمقابل يشق طريقه المميز وفقاً لمستوى تطور بناه الفكرية والثقافية والاقتصادية وشروطه التاريخية. ولعل أهم سمات الحداثة التي ننشدها هي تلك التي تهدف إلى أنسنة العلاقات بين البشر لمصلحة تعميم مفاهيم الحرية والمساواة، وتسخير التقدم العلمي- التكنولوجي ليكون في خدمة الإنسان بوصفه قيمة بحد ذاته.
2- الحداثة وأزمة الهوية
منذ بداية احتكاكنا بالغرب، تغلب الفكر الدفاعي على الفكر النقدي، ومنذ ذلك الوقت كانت نظرتنا إلى أنفسنا وإلى تاريخنا وإلى الآخر والعالم نظرة خاطئة تقوم على الحاجة الشديدة إلى تعويض الشعور بالنقص إزاء الغرب الذي فرض نفسه علينا بتفوقه وعلمه وثقافته. ولا يمكن إزاء ذلك أن نتوقع نهضة أو تغييراً من دون تجاوز هذا الموقف الدفاعي، والذهاب نحو التعامل النقدي مع الثقافة الغربية وإنجازاتها بلا عقد النقص التي ما زالت تتحكم بنا.
يضاعف من شعور النقص هذا، الهزيمة المستمرة، في الميادين كافة، السياسية والاقتصادية والعلمية، وحتى الثقافية والأخلاقية، أمام الغرب الذي يشعرنا في كل لحظة بهزيمتنا وخوائنا وانكشافنا. لذلك يسود، لدى جزء غير قليل من النخبة الثقافية والسياسية، خطاب هوية مرضي، أحادي ومغلق، قائم على رؤية متوجسة ووسواسية إزاء العالم، ترفض التفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى، ويكون المآل الانكماش على الذات القومية أو الدينية، أو تغليظ الحدود بيننا وبين الآخرين، أو إثارة الكراهية والخوف من جميع الأنظمة الثقافية والمجتمعية الأخرى.
خطاب الهوية الأحادي يعني ضمناً أن الهوية ساكنة وقطعية وثابتة، لا تتغير ولا تتطور، تكونت لمرة واحدة في الماضي، وما علينا سوى الدفاع عنها كما ولدت، أما الحاضر والمستقبل فلا وجود لهما، ولا أثر لهما على هذه الهوية. هذا الفهم لا يلتقي مع الثقافة الديمقراطية التي تنظر للهوية باعتبارها كائناً متجدداً على الدوام، وينبغي إعادة بنائها في كل لحظة، بدلالة حاجات الحاضر وآمال المستقبل. وبالتلازم مع خطاب الهوية الأحادي، وبدلالته، يشيع خطاب الخصوصية، ويكاد يكون هذا الخطاب لسان حال جميع القوى الكابحة للتقدم التي تريد إقناعنا أن إنساننا مختلف عن سائر البشر، وتجربتنا التاريخية فريدة ولا تشترك مع سائر تجارب أمم الأرض بعناصر عامة. واستناداً لذلك، يجري النظر للحداثة الغربية بوصفها نتاجاً لثقافة الغرب وتعبيراً عن هيمنته، ولا تناسب مجتمعاتنا وثقافتنا، وتحمل خطر إلغاء هويتنا وتحطيمها.
يقوم هذا الخطاب، صراحة أو ضمناً، على أساس أن الثقافات بنى ساكنة لا يطالها التغيير. هذا الافتراض باعتقادنا لا تاريخي، وينظر للثقافات كجزر معزولة وللهويات كحواجز ثابتة لا تتغير. الثقافات كائنات حية تنمو وتتطور وتؤثر وتتأثر، وتكتسب صفات وعناصر جديدة على الدوام، على الرغم من أنها تتمايز وتختلف فيما بينها. الخصوصية مبدأ صحيح، ويتوافق مع التعددية الثقافية، لكن لا يمكن فهمها بشكل إيجابي إلا بمنظار جدلي في علاقتها مع العالمية أو الكونية التي تقر بأن أي إنجاز ثقافي أو علمي، هو في المحصلة نتاج تاريخ طويل، وتفاعل خصيب بين ثقافات وحضارات العالم المختلفة. بالتالي فإن الخصوصية التي يجب الاحتفاء بها هي تلك المنفتحة على العالم والفكر والتجدد، لا الخصوصية الخائفة والمرتبكة والمنغلقة على نفسها.
الحداثة الغربية بكل ما تحمله من أفكار ومناهج وقيم وأدوات، إلى جانب ما أنتجته في السياق المادي والعلمي، أصبحت ثقافة كونية تخص جميع البشر والثقافات. لذا فهي ليست خاصة بالغرب وحده، إنما هي ذات طابع كوني وإنساني، والذين يرفضونها باعتبارها غربية ولا تناسب مجتمعاتنا عليهم ألا ينسوا أنهم أقبلوا بنهم على منتجاتها واختراعاتها، وعلى استيراد علمها ودراسته وتدريسه، بالتالي ليس من المنطقي قبول ثمار ومنتجات هذه الثقافة، ورفض مناهجها وقيمها ومبادئها في الفكر والفلسفة والسياسة والعلم. إن غياب التأسيس الفكري والأخلاقي للحداثة وتقليصها إلى مكتسب تكنولوجي محض، قد أفرغها من قيمها الإنسانية، وحولها إلى قشرة تستر ركامات من العفن والتقليد وأنماط الحياة الاستهلاكية.
من هنا يأتي هذا التشويش إزاء الكثير من المسائل والمقولات، كالمجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، التي لا تنفصل بالتأكيد عن قضية الحداثة ذاتها. فالنخب تتبنى هذه المقولات الحديثة، لكن بمعانٍ ومدلولات تقليدية، ولم تقترب بعد من هضم واستيعاب وتمثل هذه المقولات بمضمونها الحديث. من هنا يمكن القول إن هذه النخب، في الأساس والعمق، ترفض الحداثة ومبادئها وأفكارها وقيمها، وتهرب منها باتجاه مزاوجة التقنيات أو المفاهيم أو الأهداف الحديثة مع الموروث الثقافي التقليدي في مركب واحد عاجز عن السير خطوة واحدة إلى الأمام. فالأهداف الحديثة تقتضي منهجاً حديثاً يساعد على الوصول إلى “مطابقة التعبير للمعبر عنه في زمن التعبير”، أما أصحاب المناهج التقليدية القديمة، فعلى الرغم من حملات أصحابها البليغة على الاستعمار الفكري والغزو الثقافي، ودعوتهم المستمرة إلى الأصالة، فإنهم كانوا يصلون في المآل إلى التصالح مع الغرب الإمبريالي.
لقد قدمت نخبنا خلال قرن من الزمن ثلاثة تيارات فكرية سياسية كبرى عندما حاولت معالجة سؤال “إشكالية النهضة والنزوع إلى التقدم”. فهناك تيار الأصالة والتراث الذي ذهب نحو الماضي ينشد فيه الإجابات على أسئلة الحاضر، والتيار التغريبي الذي وجد في الغرب وتجربته كل الإجابات على أسئلة وإشكاليات واقعنا، وهناك التيار التلفيقي أو الانتقائي الذي حاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.
في المآل، ومع بداية القرن الحادي والعشرين، وصلت هذه التيارات إلى طريق مسدودة تجلَّت بالحضور الفاضح للشيخ الظلامي والليبرالي الاقتصادي والمستبد القومي في الوعي والواقع، وشكلت جميعها منظومة واحدة قوامها الاستبداد والإقصاء والإرهاب ومعاداة الديمقراطية والحداثة وحقوق الأفراد.
كان لإقصاء الحداثة من حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية أثر بالغ في مسخ كل المفاهيم الحديثة وإفراغها من مضامينها، فالاشتراكية التي كانت مرتكز الخطاب القومي تحولت إلى تأخراكية نتيجة قطعها عن جذورها التنويرية، فآلت تلك “الاشتراكيات” إلى تعميم الجهل والفقر والاستبداد والتأخر بكافة صوره، وأنتجت الأرضية الأيديولوجية لنمو وصعود حركات التطرف الديني .كما أن عزل المسألة الديمقراطية عن امتدادها الحداثي، حولها إلى مجرد شعار سياسوي وأيديولوجيا تعبوية، فاختزلها إلى صندوق الاقتراع فحسب، أو إلى تسويات” توافقية” بين تشكيلات اجتماعية ما قبل وطنية.
لقد ظهر في الواقع والتاريخ أن كافة الحركات السياسية: الحركة القومية العربية، حركات الإسلام السياسي، الحركة الاشتراكية التي نسبت نفسها إلى الماركسية، مناهضة للدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وليست سوى نسق لتوليد الاستبداد، ولعل السبب الجوهري يكمن في أنها جميعاً أدارت ظهرها للحداثة. لقد تجاهلت أن منجزات الحداثة غدت منجزات إنسانية عامة، بكل ما لها وما عليها، فلا يستقيم الأمر مع تبني التكنولوجيا والكفر بمن أسسوها في الفكر والسياسة والأخلاق.
باعتقادنا إن المشروع الذي يستحق أن يحدث الاستقطاب والفرز على أساسه هو قضية الحداثة، ليظهر بوضوح من مع نهضة بلادنا وتقدمها، ومن مع المحافظة على تأخرها وفواتها وتعفنها، وما لم تنتصر قضية الحداثة في فكرنا وسياساتنا، فلا خير يرتجى من أي فعل في دائرة السياسة أو الثقافة.
3- التأخر التاريخي
في الحقيقة لولا صدمة الحداثة التي أظهرت هشاشة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما كان من الممكن إدراك عمق تأخرنا. وعلينا اليوم الاعتراف بواقعة التأخر على صعيد الإنتاج الاجتماعي، بالمعنى الشامل للكلمة، أي على مستوى إنتاج الثروة المادية والثروة الروحية على حد سواء، ولا سيما على صعيد الوعي والفكر، أي التأخر الأيديولوجي السياسي، بمعنى أن التأخر لم يعد تخلفاً في عملية الإنتاج، أو تخلفاً في الاقتصاد، بل هو تأخر في الذهنية أساساً.
ويتجلى هذا التأخر سياسياً في غياب دور الشعب وفي سيادة الروح الرعوية (من الرعية) وفي سيكولوجية عبد-سلطان، كما يتجلى أيديولوجياً، في سيطرة التقليد لدى السواد الأعظم من البشر، وهو تقليد مناف لروح العصر، ومجاف لمنطق التقدم. الأيديولوجية السائدة هي أيديولوجية تقليدية مفوَّتة، تعيش زمناً غير زمنها؛ وهي التي تحدد زاوية رؤية إنساننا للكون والتاريخ والطبيعة والمجتمع والدولة والإنسان، والمرأة بوجه خاص. فالإنسان معرَّف لديها بالإيمان والتقوى والطاعة والامتثال والتصديق والرضا والتسليم والقناعة، لا بالعمل والعقل والحرية والمعرفة والخلق والإبداع. الإنسان في نظرها ضعيف عاجز، وموضوع لفعل الطبيعة والقوى الخارقة الغيبية، وليس القادر على تغيير أشكال الطبيعة والمجتمع وعلى بناء التاريخ. هذه الإيديولوجية المفوَّتة مهجوسة بالماضي ولا تحترم العمل والإنتاج، ولا تقيم وزناً للوقت، ولا تدرك معنى مفاعيل الزمن.
لقد طبعت الأيديولوجيات الكبرى، القومية والاشتراكية والإسلامية، حياتنا الثقافية والسياسية والأخلاقية بطابعها ووسمتها بسماتها، وأبرزها التمامية والكمال واحتكار الحقيقة والاستبداد الديني والفكري والسياسي القائم على فكرة التجانس والنقاء، فضلاً عن انغلاقها وانقطاع علاقتها بالواقع. فهذه الأيديولوجيات على اختلافها لا ترى الواقع إلا بمنظارها الخاص، أي بمنظار وعيها الحصري والإقصائي، وفي ضوء أهدافها وغاياتها، وبدلالة مسبقاتها ومطلقاتها، وجميعها تنطلق من الهدف إلى الواقع، ومن الوعي الموروث غالباً إلى الوجود، ولا تعبأ بالمشكلات العيانية، وغالباً ما تستهين بها أو تضخمها، فلا تلتمس لها حلولاً ناجعة.
يمكن الحديث عن قاع أيديولوجي مشترك بين هذه الاتجاهات المتباينة أو المتصارعة أيديولوجياً، فهي تتمايز في قشرتها السطحية وفي شعاراتها فحسب، وتتفق فيما بينها في أمور كثيرة، لعل أهمها هو اتفاقها جميعاً على رفض الحداثة وتنكرها لها، وتغطي ذلك بخطاب تقليدي لا تاريخي مقيت حول “الهوية” و”الخصوصية”. لذلك، فمعظم القوى السياسية هي قوى أصولية في خطابها وممارساتها أياً تكن قشرتها الأيديولوجية، وهذا الوصف لا يقتصر على حركات الإسلام السياسي المتشدِّدة، بل هو تعبير واسع يضم جميع القوى والتيارات التي لا تقبل الآخر ولا تؤمن بالآليات الديمقراطية وتعتقد واهمة أنها تمتلك كل الحقيقة، لذلك ليس من الغريب أن نجد واقعياً قوى قومية أصولية أو شيوعية أصولية أو ليبرالية أو علمانية أصولية.
يشكل التأخر التاريخي أرضية مولدة للهزائم والكوارث باستمرار، والأمم المصابة بهذا الداء تكون لديها على الدوام “القابلية للاستعمار” على حد تعبير مالك بن نبي، ويكشف التأخر التاريخي عن الأسباب العميقة لإخفاق محاولات النهضة المختلفة و”الثورات” التي اجتاحت المنطقة خلال قرن من الزمن، والتي أدت موضوعياً إلى تصفية مشروع أو جنين الدولة–الأمة، والتقهقر إلى مرحلة ما قبل الدولة، أي الدولة العشيرة، الدولة الطائفة والدولة الطغمة.
4- المنهج العلمي في التفكير
أ- علاقة جدلية بين الفكر والواقع
تقوم الأيديولوجيات والأنساق المغلقة، على اختلاف تلاوينها، باشتقاق الواقع من الفكر، وتجعل منه وجوداً جوهرياً سامياً يتعالى على التاريخ وعلى سنن النمو والتطور، وهذا يعبر عن نفسه واضحاً في الخطاب السياسي الذي يتحدث مثلاً عن أمة عربية واحدة، أو عن أمة إسلامية، أو عن أممية بروليتارية، من دون أن يقيم أي حد مفهومي بين المجتمع والشعب والأمة والدولة، أو بين الدين والفكر والأخلاق والسياسة؛ ورافضاً الاعتراف بالواقع القائم أولاً، فينطلق من الهدف الذي هو الوحدة العربية أو الدولة الإسلامية أو المجتمع الاشتراكي إلى الواقع الذي يبدو هزيلاً ووضيعاً إذا ما قيس بسطوع الهدف وسموه.
إن جذور الاستبداد متأصلة في العقائد والأيديولوجيات المغلقة، وفي الوعي الأيديولوجي المنسوج حول نواها الصلبة، الوعي الذي ينبذ الحقائق الواقعية أو يحورها ويبترها أو يقلصها أو يمطها لكي يحافظ على تلك النوى أو ذلك النسيج المزعوم حقيقة خالصة وخالدة.
إن تحوّل الفكر إلى أيديولوجية ظاهرة شائعة ومتواترة، ولعل “السلطة” كانت ولا تزال العامل الأهم، وربما الحاسم، في عملية التحول هذه. الأيديولوجية هي تحول سلطة الفكر إلى فكر السلطة، وتحول سلطة الثقافة إلى ثقافة السلطة، وتحول سلطة الدين إلى دين السلطة.
الوعي الأيديولوجي والاستبداد السياسي صنوان يشتركان في معاداة الفكر الحر والازورار عن الحقيقة الواقعية، العقلية، ومعاديان للديمقراطية من المبدأ والمنطلق: الفكر متسامح يرى النفي في الإثبات والشك في اليقين والممكن في الواقع. الأيديولوجية تبعث على التعصب لأنها إثبات وتوكيد لا يقبلان النفي، أو نفي (طرد) لا يقبل الإثبات، ويقين لا يقبل الشك، وواقع أو وضع قائم ينفي الممكنات. الفكر حركة نمو وتغير، والعقيدة ثبات وسكون وتخشب وتحجر. الفكر يتساءل ويسائل ويبحث عن إجابات عدة للمسألة الواحدة، والعقيدة تجيب إجابة واحدة عن أسئلة مختلفة، الفكر جدلي والعقيدة دوغمائية مضادة لمنطق الواقع ومضادة لمنطق التاريخ.
إن عدم تمييز الفكر من الأيديولوجية وغلبة الوعي الأيديولوجي هما، على صعيد الوعي، سبب ما نتخبط فيه اليوم، ولعل الخلط بين الدين والمذهب وجعل المذهب ديناً، وبين الفكر والأيديولوجية وجعل الأخيرة فكراً، وبين التاريخ والتراث وجعل التراث تاريخاً، هو من أبرز سمات الانحطاط الفكري في واقعنا اليوم. فليس من العقلانية أن يظل الميت ممسكاً بتلابيب الحي والماضي يحجر على المستقبل. المستقبلية صفة أساسية من صفات الفكر؛ فالذين جددوا وأبدعوا في الماضي كانوا يتطلعون إلى المستقبل، في حين يتطلع السلفيون والتراثويون دوماً إلى الماضي، ويرون في السلف الصالح نماذج مكتملة بلغت الغاية والنهاية.
وهذا ما يجعلنا نميز، من البداية بين سياسة يضعها الفكر بصفته فكر الواقع، أي المتكون من قراءة الواقع بموجوداته واحتمالاته الممكنة، من قبل الذات الحرة القادرة على نقد مبادئ الفكر ومقولاته وإنتاج مفاهيم حديثة، وتحديث القديمة لتوافق تغير الواقع إلى ما لا نهاية، وبصفته سعياً دائماً في سبيل الحقيقة التي هي مطابقة الفكر لموضوعه وتوافق حركته واتساقها مع حركة الواقع ومنطق التاريخ، وبين سياسة تضعها العقيدة أو الأيديولوجية، بوصفها منظومة مغلقة ورؤية ذاتية، بل ذاتوية إلى العالم وتاريخه وإلى المجتمع والإنسان.
ج- الوعي المقارب للواقع
الوعي المقارب هو الوعي الذي ينطلق من الواقع، والمتوافق مع الأهداف والحاجات. هذا الوعي يتعارض مع النظرة الدوغمائية والأيديولوجية المغلقة التي تنظر إلى الواقع على أنه مؤلف من لونين أسود وأبيض، فيما هو يرى الواقع مؤلفاً من ألوان لا حصر لها. الوعي الأيديولوجي يرى أن الحقيقة مطلقة وثابتة، أما الوعي المقارب فيراها نسبية ومتغيرة. الوعي الأيديولوجي يقيم انفصالاً بين الباطن والظاهر، الوعي المقارب لا يرى مثل هذا الانفصال. الوعي الأيديولوجي يعتمد على الحدس والتقريب والعموميات والشعارات، أما الوعي المقارب فيعتمد على التحليل والتركيب والتحديد وعلى التفاصيل الدقيقة. الوعي الأيديولوجي ينطلق من الرغبة والشعور والمعتقد. أما الوعي المقارب فينطلق من الوقائع والمعطيات القائمة. الوعي الأيديولوجي تقريري، والواقع، في منظوره، معطى نهائي، والوعي المقارب يقوم على منهج تحليلي ويكتشف الواقع تدريجياً، مع تقدم المعرفة البشرية. يعني الوعي المقارب الإيمان بأن الوجود الاجتماعي المتعين في العالم وفي التاريخ هو أساس الوعي الاجتماعي، لا العكس، والواقع هو أساس الفكر، لا العكس. إن وحدة الفكر والواقع، ووحدة العمل والنظر هما أبرز مقومات الرؤية الواقعية الجدلية.
للوعي المقارب ثلاثة أبعاد مهمة هي: الكونية والحداثة والتاريخانية أو الفكر التاريخي، أي أن الوعي المقارب هو وعي كوني أولاً وتاريخي ثانياً وحديث ثالثاً. الكونية: مع الوحدة التناقضية التي فرضتها الرأسمالية على العالم، ومع تعقد مشكلات عالمنا المعاصر، أصبح الوعي المحلي أو الأقوامي وعياً قاصراً. فلا بدّ من وعي القسم المتقدم من العالم لأن إنجازاته ملك للبشرية كلها، وليست وقفاً على أبنائه فحسب. الحداثة: الوعي المقارب هو بالضرورة وعي حديث، يتعامل مع الحداثة التي أنجزها الغرب من دون نرجسية قومية أو عقد نقص، ويرى أن البشر جميعاً يشتركون في إمكانية التقدم، وفي قدرتهم على تحسين شروط حياتهم باستمرار. إن تبنى هذه الحداثة هو المقدمة اللازمة لتجاوز حالة الفوات التاريخي التي تفصلنا عن العالم المتقدم. التاريخانية: لواقعنا امتداد في المكان الذي هو العالم المعاصر، وامتداد في الزمان الذي هو التاريخ. يعني الوعي التاريخي إنتاج حالة تطابق بين الزمان والمكان، خاصة أننا زمنياً خارج تسلسل الزمن العالمي، أي نعيش في حالة “الفوات التاريخي” التي تشير إلى الشعوب التي ما تزال تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى، صاغت العصر وفرضت نفسها عليه. الوعي التاريخي هو وعي بالفوات والتأخر التاريخي وبحث في علله، أي أنه استدراك للزمن الضائع، لإنتاج وعي قادر على التطابق بين العيش في المكان (العالم المعاصر) والعيش في الزمان (الزمن المعاصر). الحضارة ظاهرة بشرية كونية مُوَحَّدَة الحلقات والأدوار التاريخية، تتطور باستمرار نحو الأفضل والأحسن، وقد تطورت من البسيط الساذج إلى المُركَّب المعقَّد في العصور التاريخية الأخيرة، ومن الفوضى والانعزال إلى الانتظام والاتصال. لذا فإن الرهان التاريخي معقود على استيعاب وهضم الفكر الحديث وتجاوز التأخر، عبر الارتقاء من الجزئية والحصرية إلى الكلية والعمومية، أي من وعي ديني ومذهبي ومللي وعشائري وجهوي وأقوامي إلى وعي وطني ديمقراطي مفتوح على أفق إنساني.
بهذه المعاني، فإن الوعي المقارب هو سيرورة معقدة وشاقة وجهد متواصل من التنقيب والتحليل والتركيب والنقد والشك وصولاً إلى المقاربة، مقاربة الوعي مع الواقع المتغيِّر باستمرار، لذا لا يمكن لعملية القبض على الواقع أن تكون تامة، بل هي عملية اقتراب دائمة من الواقع. وشرط المقاربة اكتشاف مسألة التنابذ بين الأيديولوجية والواقع. من دون الاحتكام الدائم إلى الواقع، ومحاكمة الأيديولوجية لتصويبها وتسديدها يفلت الواقع الموَّار، المتحرك والمعقد من ساحة الرؤية، وتصبح الرؤية الأيديولوجية آنذاك شكلاً من أشكال الفصام (الشيزوفرينيا)؛ لأنها تتعامل مع واقع موضوعي غير الواقع الذي تتصوره، وهذا يعني الانتقال من الوعي الامتثالي الذي هو جوهر الوعي الأيديولوجي إلى الوعي النقدي.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...