الاندماج القومي ومسألة الأقليات
موقع الأوان – 3 أيار / مايو 2007
امتاز ياسين الحافظ من المفكرين القوميين باهتمامه بمسألة الأقليات في البلدان العربية وإيلائها الأهمية التي تستحقها، فقد رأى أنه “من الخطأ الازورار عن هذه المسألة أو وضعها على الرف على أساس أن الزمن سيحلها؛ إنها مشكلة غير ممتنعة، وبخاصة موقف المواطنين العرب المسيحيين أو موقف الفرق الإسلامية غير السنية” فإن تأكيد علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأثير وبجدية (ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، 1997، الطبعة الثانية ضمن الأعمال الكاملة، ص 46).
“أما مشكل الأقوام غير العربية فينبغي أن يحل على أساس مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي. وهذه الحلول تصبح ممكنة بقدر ما يتدمقرط المجتمع العربي. لكن إلى أن يتم ذلك، ينبغي حلها تبعاً لشروط وظروف كل حالة ملموسة بعينها، بمنح هذه الأقلية الحكم الذاتي وتلك أبعد من الحكم الذاتي، والأخرى الاستقلال التام. إن هذه الأقوام تلعب بوعي أو بدون وعي ضد الوحدة العربية، ولعبها أحياناً حاسم ضد الوحدة العربية؛ والوحدة أثمن وأغلى من تجزئة مبررها الوحيد الحفاظ على تعايش ظاهري وملغوم وهش مع قوم آخر لا يهضم مطمحنا القومي العربي: الوحدة العربية”. (46 – 47)
رؤية الحافظ لمسألة الأقليات، بل لمسألة “الاندماج القومي” أو الاندماج الاجتماعي المؤهِّل لنشوء مجتمع حديث وأمة حديثة، المؤهِّل للانتقال من الملة إلى الأمة، ومن الأقوامية إلى القومية الحديثة، ومن الرغبة والشعور إلى العقل، تعد ذروة النضج في الحركة القومية العربية، ذروة كان يمكن لها أن ترقى بالحركة القومية العربية إلى حركة ديمقراطية تتخلص تباعاً من الرواسب القومية التقليدية، الإثنية / اللغوية والمذهبية، السنية أو الشيعية، ومن الأحلام الرومانسية ومن الرؤى الأيديولوجية. بل لعلها أقصى ما يمكن أن تصل إليه “الحركة القومية العربية” الأيديولوجية، للتحول إلى حركة سياسية ديمقراطية. فمسألة الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية / اللغوية أو الأقوامية، ومسألة مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات من أهم الروائز الديمقراطية لأي حركة سياسية في المجتمعات المتأخرة. لكن الحافظ كان، حتى وفاته 1978، يتيماً ووحيداً، يغرد خارج سرب الحركة القومية، في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل الديمقراطية. ومع ذلك، نعتقد أن ياسين الحافظ وضع الحركة السياسية على مشارف الوعي الديمقراطي، وفتح لها باب العبور إلى مستقبل أفضل. لكن الحركة السياسية كانت آخذة في الذبول والتراجع إن لم نقل في الانتكاس إلى حركة توتاليتارية أجهزت من داخلها على إمكانات تحولها إلى حركة ديمقراطية، إما جراء كلبيتها واندماجها بالسلطة الشمولية هنا وهناك، وإما جراء معتقديتها واندماجها بالإسلام السياسي المجاهد أو المقاوم.
ومع ذلك لا بد من تمييز الاندماج القومي من النقاء القومي، بل الإثني / اللغوي، الذي نشتم بعضاً من رائحته في النص المشار إليه أعلاه ( 46- 47). الاندماج القومي في مصفوفة الحافظ النظرية هو علمنة الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية وعقلنها ودمقرطتها، وانبثاق الدولة السياسة من المجتمع المدني، وانبثاق السلطة من الشعب، ببناء العلاقات الاجتماعية والسياسية على مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون. ومن ثم فإن الحل الأمثل لمسألة الأقوام غير العربية هو دمقرطة المجتمع العربي، التي تبدو موقوفة على الوحدة العربية؛ ذلك لأنه يقترح لهذه المسألة حلولاً أخرى ريثما تتم دمقرطة المجتمع العربي. وهذه الحلول تهدف إلى إزالة بعض العراقيل التي تعترض طريق الوحدة العربية. ولكن لا بد أن نتوقف ملياً عند صفة العربية وصفة العربي، في قوله: “مصلحة الوحدة العربية” و “الاندماج القومي العربي” اللذين يقتضيان منح هذه الأقلية (الإثنية) الحكم الذاتي، وتلك أبعد من الحكم الذاتي، والأخرى الاستقلال التام، لأن هذه الأقوام غير العربية تلعب ضد الوحدة العربية، “والوحدة العربية أثمن وأغلى من تجزئة مبررها الوحيد الحفاظ على تعايش ظاهري وملغوم وهش مع قوم آخر لا يهضم مطمحنا القومي العربي”.
ولا بد أن نتساءل: لماذا لم يحاول الحافظ الكشف عن أسباب هشاشة هذا التعايش الظاهري مع أقوام أخرى يفترض أنها جزء من النسيج الوطني حيثما وجدت، وعن الجهة أو الجهات التي تلغمه، كما كشف عن أسباب هشاشة التعايش الظاهري بين الطوائف اللبنانية ؟. الجواب متضمن في قول الحافظ نفسه: هذه الأقوام لا تهضم مطمحنا القومي العربي، فالسبب إذن يكمن في مطمحنا القومي العربي ذاته، الذي لا يعترف بهؤلاء على أنهم أعضاء في الدولة / الأمة وأعضاء في الأمة. ومن ثم فإن التخلص منهم، بـ“منحهم” الحكم الذاتي أو ما هو أبعد من الحكم الذاتي أو الاستقلال التام، يصب في مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي. الاندماج القومي في هذا السياق يبدو نوعاً من تصفية عرقية رحيمة، أو تطهير عرقي سلمي.
يعتقد الكاتب أن في هذا، لو حصل، خسارة فادحة للعرب، وللاندماج القومي (بدون أي صفة) وللوحدة (بدون أي صفة أيضاً)، لأنه خسارة التعدد والتنوع والاختلاف. ولأنه خسارة لمبدأ الاعتراف بالآخر وقبوله كما هو، وكما يريد أن يكون، لا كما نريد أن يكون، خسارة لمبدأ الآخرية، المعادل الروحي للذاتية والأنوية، أي للاستقلال والحرية، في مقابل الذاتوية والأنانية، إذ كل إنسان عاقل وأخلاقي هو أنا لذاته وآخر لغيره في الوقت عينه. ثم من يستطيع الوثوق في أن حل مسألة الأقليات غير العربية على هذا النحو، ريثما تتم دمقرطة المجتمع العربي، لا يستتبع حل مسألة الأقليات العربية: الدينية والمذهبية بالطريقة ذاتها؟ المصابون بمرض القومية الخبيث من غير العرب لا بد أن يهللوا لهذا الحل. والمصابون بمرض الأصولية الخبيث من المسلمين ومن غير المسلمين سيرون في ذلك حلاً مناسباً، ما داموا يتعيشون على الانقسامات العمودية.
الكاتب لا يعارض مبدأ حق تقرير المصير للجماعات الإثنية اللغوية، ولا يعارض استقلالها التام، إذا كانت راغبة في ذلك، وتعمل في سبيلة، فهذا شيء والاندماج القومي شيء آخر. الاندماج القومي يعني تساوي العربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم في عضوية الأمة، ومن ثم، في عضوية الدولة / الأمة، السورية أو اللبنانية أو العراقية أو المصرية أو السودانية.. ، أو أي دولة / أمة جديدة تنتج من وحدة دولتين أو أكثر. وإلا فلا حاجة بنا إلى الاندماج القومي، إذا كنا ذاهبين إلى أمة عربية نقية عرقياً ولغوياً وإلى وحدة عربية للعرب الأقحاح، فهذه ليست وحدة؛ لأن وحدة المتشابهين والمتماثلين ليست وحدة. العربي يساوي العربي في العروبة بالضرورة؛ العرب متشابهون في اللغة الفصحى، لغة القرآن، ولن أقول في الثقافة هذه المرة؛ فلا حاجة إلى الوحدة، لأنها من تحصيل الحاصل. شرط الوحدة اللازم هو الانقسام والاختلاف والتعدد والتنوع والتعارض. لقد تبين للقارئ، وأرجو أن يكون قد تبين، أن النقاش يدور حول الاندماج (القومي العربي)، لا حول الاندماج القومي، بلا أي صفة للقومي، أي للاندماج الوطني، وحول الوحدة (العربية)، لا حول الوحدة، التي يعتقد الكاتب أنها ممكنة وراهنة وتحقق منفعة ملموسة للمتحدين، وقد تكون لها سلبياتها أيضا، لأن افتراض الوحدة على أنها خير مطلق ضرب من ضروب التطرف. ولكنه منطق العصر، عصر التكتلات الكبرى بما له وما عليه.
ولا بد من التوقف أيضاً عند إفراط ياسين الحافظ في استعمال صفة العربي والعربية، حتى للدولة. اعتراضنا لا ينصب على العروبة بكل تأكيد، ولكنه ينصب على العروبة السياسية، أو على تسييس العروبة، أي على مذهبة العروبة ورفعها إلى مصاف المقدس، أو تحويلها إلى صنم للعبادة، لاستجلاب منفعة عاجلة أو آجلة، شأنها شأن غيرها من العبادات. وينصب على اشتقاق الأمة والقومية والدولة القومية منها. العروبة ليست مذهباً مقابل مذهب غير عربي ومذاهب غير عربية أو مقابل مذاهب دينية، كلها انقسامات عمودية تعوق الاندماج القومي. العروبة ليست هوية مقابل هوية أخرى وهويات أخرى. قبل ذلك وبعده هناك الإنسان: الإنسان = الإنسان. ثم المواطن: المواطن = المواطن. العربي صفة للإنسان وصفة للمواطن، وكذلك الكوردي والآثوري والأرمني والأمازيغي والقبطي … إلخ. الصفة لا تستنفد الموصوف، بل هي فرق واحد من جملة فروق وحدود لا حصر لها، جميع هذه الفروق والحدود لا تنتج منها نتائج سياسية. جميع صفات الأفراد الطبيعيين لا تنتج منها نتائج سياسية. الحديث عن أمة عربية على نحو ما هو شائع في الفكر القومي هو حديث عن مذهب قومي، وهو أبعد ما يكون عن مفهوم الأمة، وإلا فنحن في الإثنولوجيا، لا في السياسة. وفي المذهبية، لا في الاندماج القومي. ولنقل الاندماج الوطني لتلافي الإيحاء المذهبي لكلمة قومي.
الأمة تتأسس على المواطن، مثلها مثل الدولة؛ المواطن يمكن أن يكون عربياً أو غير عربي تماماً مثلما يمكن أن يكون متعلماً أو أمياً، غنياً أو فقيراً حذَّاء أو نسَّاجاً أو فلاحاً أو عالم ذرة، مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو ملحداً… إلخ. الأمة، كالدولة، لا يجوز أن تتحدد بأي صفة من صفات الفرد الطبيعي، ولا يجوز أن تصطبغ بأي صبغة ناتجة من محمولات الفرد الطبيعي، كاليساري واليميني والتقدمي والرجعي والاشتراكي والرأسمالي والليبرالي والماركسي والوجودي … إلخ. المذاهب جميعاً تقسم المجتمع عمودياً، جميعها انقسامات عمودية، الانقسامات الأقوامية (الإثنية / اللغوية) ليست أقل خطراً. إبراز الهوية العربية هو استحضار هويات غير عربية، إنعاش واستفزاز وتوتير هويات غير عربية. المذهبية القومية العربية أنتجت مذهبيات قومية مضادة ومذهبيات دينية مضادة، المذهبية تنتج مذهبية مضادة، هكذا هي الأمور. وهكذا تجربة بلداننا التي مزقت المذهبيات القومية العربية والإسلامية والاشتراكية نسيجها الوطني. كثرة عدد العرب أو عدد المسلمين في بلد معين لا يجعل من هؤلاء أو أولئك أمة عربية أو إسلامية. العالم لا ينحل في العدد أو في الكم. الرؤية الكمية هي بالأحرى رؤية مذهبية: أكثرية مقابل أقليات، وإن لبست لبوس الديمقراطية. الديمقراطية ليست حكم الكثرة أو حكم الأغلبية، بل حكم الشعب، ثمة فرق جوهري، الأغلبية السياسية في الديمقراطية يمكن أن تصير أقلية وبالعكس؛ الآليات الديمقراطية لتداول السلطة تعيد إنتاج الأكثرية والأقلية مع كل دورة انتخابية. الديمقراطية ليست استثماراً في الكم الإثني / اللغوي أو الديني أو المذهبي أو الطبقي، بل هي استثمار في الوطنية. الوطنية والديمقراطية صنوان، بل أكثر من ذلك. إنهما وحدة الشكل والمضمون الجدلية، وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية، وحدة الشعب والسلطة السياسية العامة، العليا، وحدة المجتمع المدني والمجتمع السياسي.
لكن قضية الاندماج القومي وحل مسألة الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية لا تنفصل عن العلاقات الجدلية بين الفئات الاجتماعية أو الطبقات الاجتماعية أياً كان مستوى التبنين الطبقي، بل لعلها تكمن في إعادة بناء هذه العلاقات على أساس الحقوق المتساوية لجميع الفئات الاجتماعية وعلى مبدأ الحرية الذاتية والموضوعية وعلى روح المبادرة والمسؤولية وعلى مبدأ سيادة القانون. أي إن قضية الاندماج القومي تتوقف بصورة رئيسة على تسريع وتائر التبنين الطبقي، أو الانقسام المجتمعي الأفقي الذي يبدد الانقسامات العمودية، بما فيها الانقسامات الإثنية اللغوية، ويحد من آثارها السلبية على الوحدة الوطنية تباعاً حتى تتلاشى. الأمة من إنتاج ذاتها، وسيرورة تكونها الفعلية التي يصعب نقضها هي تطور عملية الإنتاج الاجتماعي بشقيه المادي والروحي ونموها وتقدمها باطراد. وهذه العملية لا تتوقف لا على الوحدة العربية ولا على القضاء على النفوذ الإمبريالي وإسرائيل والرجعية، وليس من الممكن أن تجري إلا في أطر اجتماعية سياسية وثقافية هي الأطر القائمة بالفعل، ولا تنتظر الإطار الذي يمكن أن يقوم في مستقبل قريب أو بعيد.
المسألة ليست مسألة بناء اقتصاد متمحور على ذاته، وليست مسألة تصنيع، بل هي، قبل ذلك وبعده، مسألة إنتاج اجتماعي، مادي وروحي بالتلازم الضروري، بدءاً من إنتاج البشر لحياتهم وصولاً إلى إنتاج الدولة السياسية، مروراً يإنتاج معاشهم وإنتاج الثروة الوطنية المادية والروحية وإنتاج العلاقات والبنى الاجتماعية، كالجمعيات والنوادي والنقابات والأحزاب السياسية. في خضم هذه العملية، التي لا تني ولا تتوقف، يجري الاندماج الوطني، وتتعين الفئات الاجتماعية الحديثة (الطبقات وأرباب المهن) بحسب موقع كل منها على سلم الإنتاج ونصيبها من عوامل الإنتاج ومن الناتج الوطني.
في نقده للماركسية المسفيتة بوجه عام، وللنزعة الاقتصادوية بوجه خاص، أعلى الحافظ من شأن “التخطيط المركزي” للتنمية، وكشف عن عجز البورجوازيات العربية القطرية عن قيادة مشروع وحدوي. ومن المعلوم أن التخطيط المركزي تقوم به طليعة ثورية، يفترض الحافظ أنها طليعة ماركسية لينينية عربية، تستولي على مقاليد الحكم بأي وسيلة ممكنة من وسائل الاستيلاء. وخلص إلى النتائج الآتية:
1- لم يشهد الوطن العربي تطوراً بورجوازياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذه الواقعة هي أخطر نقاط ضعف العملية الوحدوية وأكبر ثغراتها. إن التطور البورجوازي النغل والمخصي الذي عرفه الوطن العربي يسير في خط مناقض لخط التوحيد القومي. إذا قيض للوطن العربي تطور اقتصادي حديث فسيكون، من هذه الزاوية السياسية، حصيلة نزوع غير بورجوازي. وهذه إحدى مفارقات التطور العربي الحديث.
2- في ظل انعدام احتمال ثوري، أو في ظل غياب تكتيك ثوري يتجه إلى تغيير جذري، من الخطأ أن يبرر اشتراكي لنفسه الدفاع عن بورجوازية عربية ضد أخرى. إن اتخاذ موقف كهذا إنما يشير إلى العناصر الإقليمية والتقليدية التي تكمن في أساس أيديولوجيته، التي يريدها اشتراكية وحديثة.
3- إن معلمي الاشتراكية الكبار كانوا يعتبرون التطور البورجوازي، الحق بالطبع، خطوة تاريخية تقدمية. كانوا مع إنشاء دول كبيرة ممركزة على أساس قومي … وكانوا يسخرون من الدول الصغيرة ومن الخصوصيات المحلية بوصفها رواسب ما قبل رأسمالية تثقل وتشوه حركة التطور التاريخي.
4- في حال تناقض بورجوازيتين عربيتين، أو في حال تهديد واحدة لأخرى بالابتلاع … لا ينبغي للاشتراكي أن يقف مع الاعتبار المحلي أو المطلب الإقليمي الضيق الأفق، بل أن يتخذ جانب الاعتبار القومي العربي الأشمل أولاً، وجانب الاعتبار الذي يعزز احتمالات تقدم جماع الاقتصاد العربي ثانياً. (56)
هذه الخلاصة تشير إلى المحتوى الاشتراكي، أي غير البورجوازي وغير الرأسمالي وغير الليبرالي وغير الديمقراطي أيضاً، للمشروع الوحدوي. وتطرح إشكالية موقف الاشتراكي من بورجوازية بلده، أي إشكالية الموقف الوطني / القومي الذي انشقت على أساسه الأممية الثانية، ونشأت على أساسه الأممية الثالثة. ومن الواضح أن الحافظ على خط الأممية الثالثة قومياً ووحدوياً، خط القومية العربية الخالصة من الشوائب الإقليمية أو القطرية بجميع تظاهراتها، وخط تغليب ما يراه الاشتراكي أقرب إلى تعزيز احتمالات تقدم جماع الاقتصاد العربي. ويعزز موقفه هذا بمواقف معلمي الاشتراكية الكبار، الذين كانوا مع إنشاء دول كبيرة ممركزة “على أساس قومي”، من دون أن يقوم بفحص ماهية هذا الأساس القومي الذي قامت عليه الأمم الحديثة والدول / الأمم الحديثة. لأن عبارة “أساس قومي” عبارة فضفاضة ومراوغة، فالدول الكبيرة الممركزة والدول الأمم قامت على أسس مختلفة ليس بينها ثابتة اللغة أو العرق أو الدين أو المذهب “الأمة الحديثة، كما يقول رينان، هي نتيجة تاريخية حملتها سلسلة من الوقائع المتلاقية في الاتجاه ذاته. تحققت الوحدة تارة على يد سلالة حاكمة، كما هي الحال في فرنسا; وتحققت تارة أخرى بفضل الإرادة المشتركة للأقاليم، كما هي حال هولندا، وسويسرا، وبلجيكا، وحصلت الوحدة تارة أخرى بفضل روح عامة تغلبت بعد تأخر ما على أهواء الإقطاعية، كما هي الحال في ايطاليا وألمانيا. كان هناك دائما سبب وجود عميق ترأس هذه التشكيلات. وفي مثل هذه الحالات، تسطع المبادئ عن طريق المفاجآت الأبعد من غيرها عن الحصول”.
نعتقد أن هذه المسألة مفصلية وحاسمة في تحديد مفهوم القومية ومفهوم الأمة، لذلك عددناها في رواسب الأيديولوجية القومية التقليدية والرومانسية في فكر الحافظ. ولا ندري ما هي المعايير التي سيتخذ الاشتراكي في ضوئها موقفاً إلى جانب “الاعتبار القومي الأشمل، وإلى جانب”الاعتبار الذي يعزز احتمالات تقدم جماع الاقتصاد العربي“؛ فهل على الاشتراكي أن يقف إلى جانب الغزو العراقي للكويت مثلاً؟ وهل مثل هذا الموقف مسوغ سياسياً وأخلاقياً إذا كانت السلطة العراقية سلطة طليعة ثورية بالمقاييس التي يريدها الحافظ؟ لا بد أن نتوقف ملياً عند قوله:” … في الطريق إلى هذا الهدف (الوحدة العربية) تتنوع أشكال النضال الوحدوي وتتدرج بدءاً من الدعوة الأيديولوجية إلى الدعاية التحريضية وصولاً إلى الخطوات التنفيذية، في شتى أشكالها: التطورية أو الثورية، السلمية أو العنفية، الدستورية أو التآمرية، النخبوية أو الشعبية” (17).
الغاية الوحدوية تبرر الوسيلة الوحدوية. هنا كل شيء مباح لأن الله غير موجود، أو لأن الله هو الطليعة الثورية ذاتها. ومن ثم فإن هذه الغاية ستقرر أساس النظام الأخلاقي للأمة، وهذا مما لم يوله الحافظ الأهمية التي يستحق، على الرغم من اتصافه بالاستقامة والنزاهة والحكمة ورهافة الحس ونقاء الضمير وبالشجاعة العقلية، التي قل أن تجد لها نظيراً، والتي تجلت لا في أفكاره فحسب، بل في مواقفه من مختلف القضايا، ولا سيما موقفه من الحرب الطائفية في لبنان.
يبدو لي أن قضية الأخلاق الثورية لطليعة هي “صورة مصغرة عن المجتمع المنشود” ظلت في مركز تفكيره، ولم تحظ حتى يومنا بالدرس والتحليل اللازمين وبالنقد الضروري. قضية الأخلاق الثورية هي قضية إقامة الحق على أساس الاقتناع الذاتي للطليعة. وذلكم هو أساس الخراب، الذي لم يشهد الحافظ سوى نذره وبداياته فأقلقته وآلمته. الموقف السياسي هو نفسه الموقف الأخلاقي، وإلا فهو ليس سياسياً وليس أخلاقياً بالتساوي.
الواقعية والعقلانية من أهم مزايا ياسين الحافظ، ولكنهما، أي الواقعية والعقلانية نسبيتان دوماً ومحكومتان لدى أي شخص بملابسات الأوضاع القائمة محلياً وإقليمياً ودولياً. من تجليات الواقعية والعقلانية عند ياسين الحافظ قوله: “إن غياب مشروع وحدوي سياسي مشخص وغلبة ريح الإقليمية على ريح الوحدة لا يعني أن النضال الوحدوي يجب أن يوضع على الرف، بل على العكس، ينبغي إيجاد الأشكال الملائمة للنضال الوحدوي تبعاً لتغيرات الواقع العياني وموازين القوى. في هذه الأشكال، ليس من الضروري أن يكون شعار الوحدة السياسية في مقدمة الشعارات في كل زمان ومكان … ما نعنيه هو أن نضع الوحدة في محور عملنا الاستراتيجي في المرحلة التاريخية الكبرى، مرحلة القضاء على النفوذ الإمبريالي وإسرائيل والرجعية، ومع ذلك وبموازاته وقبله أحياناً تحديث الحياة العربية وعقلنتها وتوحيدها” (17) ولكن أليس وصف المرحلة التاريخية الكبرى بأنها مرحلة القضاء على النفوذ الإمبريالي وإسرائيل والرجعية مفرطاً في ثوريته؟ ماذا لو لم تستطع “حركة الثورة العربية” القضاء على إسرائيل، مثلاً، واختارت السلام خياراً استراتيجياً، كما هي الحال اليوم؟ ثم ألا يحتمل أن تصير “الرجعية العربية” تقدمية قياساً بأنظمة تسمي نفسها تقدمية وكنا نسميها كذلك ذات يوم؟
الوحدة ممكنة، وراهنة أيضاً، والراهن هو الموجود بالقوة، ويمكن أن يوجد بالفعل، ولكن ليس من الحتمي أو الضروري أن يوجد بالفعل. والواقع حمال احتمالات، هذا مؤكد. ولكن من قال إن الاحتمال الراجح يلغي الاحتمالات الأخرى؟ أليس من الصواب التفكير في أن الاحتمالات الأخرى هي التي تحدد اتجاه تطور الاحتمال الراجح وتحدد مساره؟، وإلا فإن الواقع ليس جدلياً. وإن النفي هو مجرد إعدام فيزيقي. الرياضة العقلية في مقاربة الاحتمالات ومقاربة علاقاتها المتبادلة تساعدان على بناء تصور سياسي واقعي، سواء في مسألة الوحدة (من دون أي صفة) أو في غيرها من المسائل. إنها مسألة زهر، أي مسألة احتمال، أو لعبة شطرنج، أي حساب احتمالات، واختيار أفضلها، أو أقلها مدعاة للخسارة في الحدود الدنيا، لا مسألة حظ تلغي براعة اللاعب وحصافته. ولكن لا بد من رابح في نهاية الدست، لا في النهاية
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...