ثامناً: الإثنيات والهوية الوطنية

1- الجماعات الإثنية
يعتبر مفهوم “الجماعات الإثنية” و”الإثنيات” أكثر اتساقاً مع واقع هذه الجماعات في سورية من مفهوم “الجماعات القومية” و”القوميات”، كونها عصبيات بالمعنى الخلدوني أو جماعات محكومة بالعلاقات الأولية، ما قبل المدنية وما قبل الوطنية.
“الأقلية” هي جماعة من مواطني الدولة تشكل أقلية عددية لا تحظى بصفة السيطرة أو الغلبة في الدولة، ويتميزون عن بقية أعضاء المجتمع عرقياً أو لغوياً، وهم يميلون إلى التضامن معاً، ويحرصون، وقد يكون هذا الحرص كامناً، على البقاء، ويهدفون إلى تحقيق المساواة مع الأغلبية واقعاً وقانوناً، والعنصر الحاسم في وجود الأقلية هو وعيها الذاتي باختلافها وتمايزها، وحرصها على البقاء والمحافظة على هويتها.
يبدو هذا التعريف أقرب التعريفات إلى منطق حقوق الإنسان الذي لا يتعارض مع مبدأ السيادة الوطنية، سيادة الدولة الوطنية أو القومية. فهو يبرز حقيقة أن الأقلية جماعة من مواطني الدولة، ومن ثم فإن جميع الصفات الأخرى تقع في دائرة هذه الحقيقة الموضوعية. فحقوق الأقليات لا يجوز أن تتعارض مع سيادة الدولة، وهذه هي المسألة المركزية. إن قوام الوحدة الفعلية هو التعدد والتنوع والاختلاف والتعارض، وشتان بين معالجة مسألة الأقليات من منطلق الوحدة ومعالجتها من منطلق التجزئة والتذرير.
هناك رؤية وضعوية ستاتيكية معيقة للاندماج الوطني، تتعامل مع الأقليات، الإثنيات والطوائف، على أنها هويات ثابتة وماهيات وجواهر معرفة بذاتها، وتتعامل مع العلاقات الاجتماعية من ثم على أنها علاقات ذات اتجاه واحد، أي علاقات تخارج وتنابذ وتفاصل، مع أنه ليس في الواقع تخارج بلا تداخل ولا تنابذ بلا تجاذب ولا تفاصل بلا تواصل. وتتغذى هذه الرؤية من خلال اعتبار العرق أو الدين أو المذهب هوية ومرجعية، وافتراض النقاء والتجانس فيها. وهذا كله متصل بواقع الاختلاط والسديمية، وانتفاء الحدود، لا بين الأصل والهوية فقط، ولا بين الديني والسياسي فحسب، بل بين جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية المختلفة، وكذلك انتفاء الحدود بين الدولة والسلطة، وبين الدولة والمجتمع المدني.
تنظر هذه الرؤية الستاتيكية إلى المجتمع بدلالة أحد أجزائه أو بعض أجزائه بدل أن تنظر إلى هذا الجزء أو إلى هذه الأجزاء بدلالة المجتمع. الجزء في هذه الرؤية يحدِّد الكل، في حين إن الكل هو الذي يحدِّد جميع أجزائه. وما هو حاسم في هذه المسألة هو في الحقيقة هوية الدولة التي تحدد بصورة نهائية إمكانية الاندماج الوطني والاجتماعي أو عدم إمكانيته. فالدولة الدينية والدولة الاستبدادية، والدولة الأيديولوجية أو العقائدية على سبيل المثال، لا تتيح أي فرصة للاندماج، بخلاف الدولة الوطنية الحديثة.
إن سائر الجماعات الإثنية في سورية عابرة للحدود الوطنية، ما يطرح مسألة ازدواج الولاء، الذي يعبر عنه التعارض بين “القومية” والوطنية، ويتجلى ذلك بوضوح في أوقات الأزمات الاجتماعية والسياسية، في سورية وجوارها. وقد كان للأيديولوجة القومية العربية دور بارز في إنتاج هذا التعارض وتعميقه، ولا يقل عن ذلك أثر الأيديولوجية السياسية الإسلامية وشعار الدولة الإسلامية. هاتان الأدلوجتان السياسيتان تتسببان دوماً بتفجير الهوية الوطنية وتشظيها إلى هويات متجابهة بالقوة وبالفعل، وتنتجان، بفعل هذه المجابهة، أشكالاً من التعصب والتطرف والعنصرية، لذلك نرى في تسييس العروبة وتسييس الإسلام وجهين لعملية واحدة، على الرغم من التعارض الظاهر بين الإسلاميين والقوميين.

2- الاندماج الوطني في مواجهة شعار “حماية الأقليات”
يستخدم شعار حماية الأقليات من قبل أطراف متناقضة سياسياً وأيديولوجياً ونفعياً. إذ تستخدمه الدول بهدف جعل الباب مفتوحاً على الدوام للتدخل في شؤون الدول الأخرى عندما تقتضي مصالحها، لكن ليس غريباً أن يستخدم أيضاً من جانب “النخب” في منطقتنا، فيما يردِّده البسطاء من البشر من دون معرفة ولا دراية. لقد تجاهل الفكر القومي التقليدي مسألة الأقليات، وكان ولا يزال يلقي تبعة الاضطرابات والأزمات التي تولدها على الخارج فحسب، متجاهلاً حقيقة أن وجود الأقليات أقدم من الاستعمار والإمبريالية، وأن عوامل انفجارها الداخلية هي التي تستقدم التدخل الخارجي، وتمكنه من استثمارها. وما تجاهل الفكر القومي لهذه المسألة سوى مثال واحد على ازوراره عن الواقع، وعلى غلبة العنصر الأيديولوجي على العناصر الواقعية والعقلانية في بنيته.
لم يتعامل النظام الاستبدادي في أي لحظة مع السوريين بوصفهم شعباً، أي كمواطنين أحرار، بل كـ “شقف” أو “قطع” إثنية وطائفية ومذهبية، يجمع بينها بالقوة العسكرية والأمنية في وضعية هشة قابلة للانفكاك عندما تضعف قبضته أو تزول. لذا فإن الخطر الأكبر الذي يواجه السوريين اليوم هو مشكلة نقص الاندماج الوطني، بحكم أن الاستبداد لم يخلق هوية وطنية، بل إنه حطم جنين الدولة الوطنية التي تشكلت بعد الاستقلال. وتؤدي هذه الحالة إلى نمو شعور أقلوي لدى الأقليات، بخاصة في الأزمات، يدفعها إلى طلب الحماية من الخارج أو الاستبداد كونها ترى نفسها خارج دائرة المجتمع، وهذا يؤدي بالضرورة لتراكبها وتمفصلها مع الصراعات الإقليمية والدولية، بما يجعل هدف بناء هوية وطنية أمراً مستحيلاً، وتنتعش بدلاً عنها أيديولوجيات ما دون وطنية ترفع شعارات “العيش المشترك” و “التعايش” و”تحالف الأقليات”. ويعني ذلك عملياً في المآل نشوء حالة دائمة من التوتر والاحتقان بين المكونات الاجتماعية، تشكل أساساً موضوعياً لحالة احتراب ممكنة بينها، وانفتاح المجتمع بالتالي على آليات الصراع والاقتتال التي تؤدي إلى تمزيقه.
مفهوم الاندماج الوطني أو الاندماج القومي والاجتماعي يقوم في معارضة مفاهيم الصهر والتذويب والتمثل، فهو مؤسس على المبدأ العلماني الديمقراطي، مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون.
الاندماج الوطني أو القومي جملة متآخذة ومتكاملة من العمليات أو السيرورات التاريخية: الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية ترقى بالمجتمع من حالة التشظي والتناثر والانقسام والتحاجز إلى الوحدة، وحدة الاختلاف والتعدد والتعارض. الاندماج القومي هو ولادة أمة حديثة، لا على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، بل على أساس المواطنة والمساواة بين أفراد مختلفي المشارب والانتماءات والمنازع.

3- مفهوم الهوية الوطنية/القومية

أ- سؤال الهوية
يتجلى كل حديث حول الهوية في الغالب بسيطرة الماضي والتاريخ والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل. إذ ينظر للهوية على الدوام على أساس أنها تكونت وانتهت، وبالتالي ليس من دور للبشر الحاليين سوى النضال لتثبيت هذه الهويات كما هي أو كما وُرثت. هذه الآلية لا تنتج فهماً سوياً للهوية، وتؤدي في المستوى السياسي لنمو ذهنية “المحاصصة” المعيقة لبلورة ما هو عام وتوافقي ومشترك. من جانب ثانٍ، لقد نمت معظم الخيارات السياسية والأيديولوجية للقوى السياسية في سورية، بل ولجميع فئات الشعب السوري، في ظل بيئة استبدادية، ولم يتح لهذه الخيارات بعد التكون في بيئة صحية. وهنا من المهم أن يجري التعاطي مع سؤال الهوية في هذه اللحظة السياسية بشيء من المرونة، وأن تترك فرصة للمستقبل لإعادة تكونها في ظل شروط وبيئة ديمقراطية، فما يحتاجه السوريون جميعاً هو فسحة من الأمل والديمقراطية لإعادة تكوين قناعاتهم ورؤاهم، وإعادة النظر بهوياتهم الموروثة أو المشوهة، الأمر الذي يخفِّف من حدّة الدفاع عن الموروثات ويرفع من سوية الدفاع عن الخيارات الحرة.
لطالما اتخذت الهوية في الوعي السائد طابعاً وسواسياً تجاه الآخر، وشكل تعيينات قطعية، مغلقة وثابتة، وهذا الفهم السكوني، بشكل أو بآخر، يعيق استقبال العناصر الإيجابية في الثقافات الأخرى، بسبب سيطرة هواجس ووساوس الغزو الثقافي. الهوية، هوية أي فرد أو مجموعة بشرية، هي كائن متجدد على الدوام، وينبغي إعادة بنائها في كل لحظة من أفق المستقبل، وليس النظر إليها باعتبارها شيئاً تكون في الماضي وانتهى.

ب- الهوية والوطن والوطنية
الهوية هي وعي الذات الذي يحدِّد زاوية النظر إلى الكون والعالم وإلى الإنسان، ولها ثلاثة أبعاد: أولها علاقة الذات بذاتها، أي كيف تعرِّف جماعة ما نفسها؟ وكيف تعبِّر عن ذلك؟ وكيف تعي تاريخها؟ وكيف تنظر إلى تراثها؟ وكيف تحدِّد موقعها في العالم وفي تاريخه؟ والثاني هو علاقة الذات بالموضوع؛ أي علاقتها بواقعها وعالمها الذي يفترض أنه من إنتاجها، ودرجة الاستلاب الذي تعيشه، ونمط إنتاجها لحياتها في جميع المجالات. والثالث هو علاقتها بالآخر، وهذه العلاقة هي محصلة العلاقتين السابقتين وتتويجهما، وإذا أردنا أن نحكم على تقدم جماعة ما، أو تأخرها، فإنه يكفي أن ننظر في هذا البعد الثالث، فهو ينطوي بداهة على البعدين الآخرين.
الهوية الفعلية لأمة من الأمم أو لجماعة من الجماعات هي ما تنتجه هذه الأمة أو تلك الجماعة على الصعيدين المادي والروحي، وما تقيمه بنفسها ولنفسها من علاقات وتنظيمات اجتماعية وسياسية، أهمها الدولة؛ وفي ضوء هذا التحديد تغدو الهوية القومية أو الوطنية هوية حية وغنية وقابلة للنمو والتطور والبناء يومياً كونها عملية تاريخية، في مقابل الهويات الراكدة والخاوية والسكونية.
العمل والإنتاج الاجتماعي هو العامل الحاسم في وعي الذات، فهذا الوعي أهم نتاجات العمل والإنتاج الاجتماعي، وهذا هو المدخل العقلاني لتحديد الهوية القومية للأمة. فالفكر السياسي العربي لم ينتبه إلى الدلالة الأعمق لهذه المقولة، ذلك لأنه لم يهتم يوماً بقضية العمل والإنتاج الاجتماعي، إنتاج الثروة المادية والروحية بالتلازم الضروري، ومن هنا كانت الهوية القومية أو الوطنية عنده ليست سوى هوية مجردة صماء ثابتة ومتعالية على التاريخ وعلى سنن النمو والتطور، لا تمت بصلة إلى واقع المجتمعات الفعلي، بل تحيل على واقع آخر، أو على أصل ما يثوي بعيداً في أعماق التاريخ.
لا يميز الفكر السياسي العربي، القومي والإسلامي خاصة، الهوية من الأصل، بل هما عنده شيء واحد؛ وبالتالي تقترن الهوية بالأصل والأصالة والتأصيل والأصولية، فضلاً عن الخصوصية الفارغة أو العدمية، لذلك كانت الهوية مجرد أوهام ذاتية لم تفض إلى شيء سوى إلى إعادة إنتاج التأخر والاستبداد والتجزئة والتبعية، وإلى الهزائم المتتالية.
يعتقد كثيرون أن العرق هوية، والدين هوية، والمذهب هوية، والاتجاه الفكري هوية، والانتماء الحزبي هوية .. إلخ، وهذه جميعاً “هويات قاتلة”، بتعبير المبدع أمين معلوف، هذه هويات قاتلة بصفتها هويات، لا بصفتها محمولات وتحديدات ذاتية للأفراد والجماعات. الهوية عند الإسلاميين مثلاً، هي “الإسلام”، بحسب المتكلم سنياً كان أم شيعياً، وهي العروبة عند القوميين، وهي في الحالين هوية نابذة ونافية على مستوى المجتمع المكون من عدة أديان ومذاهب وإثنيات، مقابل الهوية السياسية أو الهوية الوطنية التي يستمدها الفرد من كونه مواطناً شريكاً في الوطن وعضواً في الدولة الوطنية، كالهوية الوطنية السورية التي لا تنفي إسلامية المسلم ومسيحية المسيحي وعروبة العربي وكوردية الكوردي.
تعريف الذات بدلالة الأصل، أو بدلالة وجود جوهري في تاريخ تصوري أو في عصر ذهبي، هو سمة وعي ماضوي، لا تاريخي، فضلاً عن طابعه الحصري والإقصائي والاستبدادي بالضرورة. الهوية غير الأصل، الأصل مفهوم استاتيكي، ثابت، والهوية مفهوم تاريخي، ناتج وصائر، وقابل للنمو والانبساط، في العالم وفي التاريخ. كذلك، ينبغي عدم التعويل على الأصول العرقية للجماعات القومية، ولا على ما يسمى الخصائص القومية الثابتة، لأنه ليس من أصول عرقية نقية، وليس من خصائص قومية ثابتة.
الدولة الوطنية الحديثة تمنح مواطنيها جنسيتها، والجنسية هنا أحد وجوه الهوية، وتمنحهم أكثر من ذلك شعوراً بالانتماء إلى مجال عام، إلى دولة هي أرض وشعب وسلطة عامة عليا وسيدة، بحسب تعريف الحقوقيين للدولة. الهوية الوطنية في اعتقادنا تعلو على الهوية الاجتماعية، الطبقية، والثقافية والإثنية والدينية والمذهبية .. وتطبعها بطابعها، ومن البديهي أنها لا تنفي لا الانتماءات والمواقع الطبقية ولا الاتجاهات الفكرية والثقافية ولا الانتماءات الإثنية والدينية والمذهبية للأفراد والجماعات، بل تنفي أن تنتج من هذه جميعاً نتائج سياسية تتعارض مع عمومية الدولة.
الوطن ليس مجرد رقعة جغرافية، أو بيئة طبيعية، أو حتى مجرد حدود سياسية معترف بها. الوطن هو علاقة إيجابية مثلثة الأطراف: علاقة بين الإنسان والطبيعة، وعلاقة بين الإنسان والإنسان الآخر، وبين الإنسان والمجتمع والدولة، وهي علاقة ذات محتوى اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي وقانوني وأخلاقي، يمكن إجمالها بكلمة واحدة هي المواطنية؛ وتعني عضوية الفرد الفعلية في الدولة السياسية ومشاركته في الحياة العامة. ومن ثم فإن مفهوم الوطن لا يقوم من دون مفهوم المواطن، من دون مفهوم المواطنية والمواطنة، وهذه أيضاً لا تقوم من دون مفهوم الوطن.
الوطن هو ما يلبي حاجات الفرد الأساسية ويصون حقوقه المدنية وحرياته الأساسية وكرامته، ويحقق له المساواة مع الآخرين أمام القانون، ويحقق له الأمن والحماية والرفاهية؛ وإلا فإنه ينتكس إلى مجرد بيئة طبيعية ومكان إقامة.
والانتماء إلى الوطن، أي إلى الدولة السياسية، أي إلى المجتمع المدني، أي إلى الأمة، يتضمن جميع انتماءاتنا الأخرى ويعلو عليها، لا ذاتياً فحسب، بل موضوعياً أيضاً، لأنه انتماء إلى الكل، أو إلى الكلية العينية التي لا تكتمل فردية الفرد إلا بها. أما سائر الانتماءات والتحديدات الذاتية الأخرى، كالانتماء إلى الأسرة أو العائلة الممتدة أو إلى دين أو مذهب أو جماعة لغوية أو ثقافية أو إثنية، أو إلى طبقة اجتماعية أو حزب سياسي، فإنها تفصح عن طابعها الجزئي وتكتسي مضموناً جديداً تستمده من الانتماء إلى الكل.
السائد في أوساط عديدة هو التباس مفهوم الوطنية، حتى أصبح ما يحيط به من سوء الفهم والوهم والخلط مصدراً لكثير من الخلافات والشقاق، وأساساً للتصنيفات السهلة والساذجة.
لعل أول هذه الالتباسات يظهر في الخلط بين مفهوم الوطنية، المعادلة لعمومية الدولة، ومفهوم القطرية، المرادف للتجزئة والانعزال. ربما بسبب ذلك لم تولِ النخبة الدول القائمة أي اهتمام، ونظرت إليها على الدوام باعتبارها منتجات استعمارية كريهة، ولم تر فيها إلا حالات مؤقتة ستزول بالاستناد إلى أيديولوجية قومية بالذهاب نحو دولة الوحدة العربية، أو بالاستناد إلى أيديولوجية إسلامية والذهاب نحو دولة الخلافة الإسلامية، أو حتى دولاً مؤقتة على طريق بناء الأممية الاشتراكية بالاستناد إلى الأيديولوجية الاشتراكية.
بعض دعاة الفكر القومي يواجهون مفهوم الوطنية (المرذول في هذا السياق) بالقومية، فالوطنية مكروهة والقومية ممتدحة. بالنسبة لنا لا نجد أي فرق على المستوى الفكري بين الوطنية والقومية، فالدول الحديثة تتطابق فيها الصفتان.
الالتباس الثاني هو استخدام صفة الوطنية في الإشارة لأي فعل مناهض للخارج، لذلك تكون الصفة المضادة للوطنية هنا هي “اللاوطنية” أو “العمالة”، أي تستخدم الصفة الوطنية في هذا الإطار كمعيار أخلاقي وكحكم قيمة لتصنيف الآخرين بين وطنيين وعملاء.
الالتباس الثالث يبرز من خلال بناء الهوية الوطنية انطلاقاً من خطاب الخصوصية أو خطاب الهوية الأحادي، لتكون الوطنية في المحصلة معادلة للانغلاق على الذات والمحافظة على الموروث الثقافي ورفض الحداثة.
الالتباس الرابع هو في مفهوم الانتماء الوطني الذي ينحسر في الانتماء لقطعة أرض فحسب، بما يعني أن الوطن هو محض جغرافيا، وماهيته حُدِّدت مرة واحدة وإلى الأبد منذ أن تكونت جغرافيته وأدركنا حدوده.
الالتباس الخامس يتحدد بالانطلاق من الأيديولوجية في تحديد الصفة الوطنية، فلا أحد يتخيل الوطن والوطنية مفصولين عن الأيديولوجية، إذ إن كل أيديولوجية، قومية أو إسلامية أو ماركسية، ترسم صورة ما للوطن والوطنية، وتنظر بالتالي لمن لا يشتركون معها بأنهم ضد الوطن ولا يتوافرون على شيء من الوطنية، الأمر الذي يلغي نظرياً وعملياً المعنى العميق للوطنية، أي العمومية.
تضيف الحكومات والنظم السياسية إلى هذا الطين الفكري معاييرها الخاصة للوطنية التي تتناسب مع استمرارها ومصالحها، فتجعل منها، بشكل أو بآخر، معادلة للولاء لها، ولتصبح كل حركة معارضة لها خارج السرب الوطني.
هذه الالتباسات تعني في الحقيقة أن المشروع الوطني الديمقراطي غائب في ساحة الفكر. وبالضرورة تعني أنه لا توجد خطوات جادة نحوه في الواقع، على الرغم من كونه في قائمة برامج الأحزاب السياسية والنخب من جميع الأيديولوجيات والانتماءات.

4- الدولة الوطنية/القومية وحقوق الجماعات الإثنية
المشكلة الكوردية أو القضية الكوردية في سورية جزء من المسألة الوطنية الديمقراطية، وقضية أساسية من قضايا الدولة الوطنية الحديثة، فهي قضية وطنية عامة لا تخص المواطنين الكورد وحدهم، بل تخص جميع المواطنين السوريين كغيرها من القضايا الوطنية.
هذه المشكلة ذات بعد إقليمي يتعلق بالجغرافية السياسية لعدة دول “ذات سيادة”، لذا نرى أن التحولات الديمقراطية في هذه الدول لا بد أن تحمل حلولاً مناسبة لهذه المشكلة تقررها شعوب هذه البلدان، التي ترجع معظم مشكلاتها الداخلية إلى نقص اندماجها الوطني من خلال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. لذا نرى أنه ليس من حل ناجع لمسألة الأقليات القومية سوى الحل الوطني الديمقراطي الذي يعيد إنتاج هوية وطنية قوامها التعدد والاختلاف اللذان يثريان الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.
وفي سياق هذا الحل هناك جملة من المعيقات، لعل أهمها أن العرب والكورد يفتقرون على السواء إلى وعي تاريخي، وإن فكرة الماضي تتطابق لديهم مع فكرة التاريخ، فهم ينطلقون في تحديد ذواتهم من مقولة الأصل لا من مقولة الهوية، وشتان ما بين الأصل/العرق والهوية/التاريخ، ويتغنون بالأصالة ويرفعونها إلى مصاف المقدس، فتغيب عن وعيهم الأصالوي فكرة الإنسان وفكرة الحرية، وتغيب معها فكرة الوطن/الدولة وفكرة المواطنة.
كما لا بدّ من الإقرار أنه لا يمكن إقامة دولة نقية عرقياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً وثقافياً، دون ممارسة أشكال مختلفة من التمييز والاضطهاد، وحتى ممارسة التطهير العرقي والديني واللغوي والثقافي، وقد جربت ذلك جميع الأمم بدرجات متفاوتة وأساليب مختلفة، ولم تنجح. إن محاولات إلغاء الاختلاف أو السيطرة عليه هي من أكثر المحاولات عبثية ولا عقلانية ولا أخلاقية بالتساوي.
إن حقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي حدٌ يحدُّ حقوق الإثنيات، وإن وحدة المجتمع والدولة القائمة على مبدأ حرية الفرد وحقوق الإنسان حدٌ يحدُّ حقوق الإثنيات، ومن ثم، فإن حقوق الإثنيات حدٌ يحدُّ حقوق الأكثرية أو الأغلبية.

50 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *