سابعاً: ثقافة حقوق الإنسان

يمكن القول إن ثقافة حقوق الإنسان تعني مجموعة القيم والبنى الذهنية والسلوكية والتقاليد والأعراف وغيرها، التي تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان، وتتوافق مع القيم الديمقراطية واحترام التعددية والتنوع والاختلاف، مع ما يرتبط بها من وسائل التنشئة التي تنقل هذه الثقافة في البيت والمدرسة والجامعات وبيوت الدين والأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة وغيرها. بالتالي، فإن نشر ثقافة حقوق الإنسان هو مشروع عام وعريض لتمكين البشر بالمعارف الأساسية حول المواثيق الدولية وحقوقهم ودفعهم للعمل من أجلها، والمساهمة في خلق الوسائط والبيئات القادرة على حماية حقوق الإنسان والتقدم باتجاه الديمقراطية. إنها عملية متواصلة وشاملة تعم جميع صور الحياة، ويجب أن تنفذ إلى جميع أوجه الممارسات المهنية والاجتماعية والسياسية.
إن كل مبدأ أو فكرة قانونية أو أخلاقية تقطع رحلة طويلة في الزمان والمكان قبل أن تتبلور، إذ تخضع هذه المبادئ والأفكار إلى كل عمليات التفكيك وإعادة البناء والإضافة والأقلمة، حتى تصل لمرحلة تتبلور فيها، وقد تظهر خاصة بحضارة معينة دون غيرها، ويجري تعميمها في الوعي العالمي باسم هذه الحضارة، وبالضرورة هي الحضارة الأقوى أو المسيطرة عالمياً. فحقوق الإنسان لم تنبت فجأة في الغرب دون أن يكون لها جذور في الثقافات الأخرى. إن كل الثقافات، دون استثناء، قد شهدت حركة فكرية وأخلاقية، صراعية وتعاونية، خاصة وكونية، مغلقة ومفتوحة، طرحت في سياقها مبادئ وقيم وقواعد كثيرة تشكل جذوراً فكرية مهمة للمنظومة الراهنة لحقوق الإنسان.
هذا الرأي يختلف كثيراً عن الرأي الذي يحاول إعادة كل ما هو مجيد في الحضارة الإنسانية الحالية إلى أصول عربية وإسلامية. إنه يعني الإقرار بوجود تناسل وتلاقح بين الثقافات (كالكائنات الحية)، ويعني ضمناً أن الثقافة الإنسانية الحالية أساس لإعادة بناء الثقافات الخاصة. ومن هنا لا بد من الانتباه للتداعيات المنطقية والعملية لعدم الاعتراف بمبدأ عالمية أو كونية حقوق الإنسان، والقول بنسبيتها أو قابليتها للتفكيك والتجزئة، بما ينتهي إلى الأخذ ببعض هذه الحقوق، وإنكار وحجب بعضها الآخر.
إن القول بنسبية حقوق الإنسان معناه أنه لا توجد قيمة أو مبدأ عام ينطبق على عموم البشر. مثلاً: عندما يعترف بلد أو ثقافة ما بحرية التعبير، ويقوم بلد آخر بقمع حرية التعبير على أساس أن ما يصلح في البلد الأول قد لا يصلح للبلد الثاني (بناء على نسبية هذه الحقوق)، نصل إلى نتيجة منطقية مؤادها أن الحالتين متساويتان في المشروعية. هذا القول ينطوي على فوضى عقلية، قبل أن ينطوي على فوضى أخلاقية وعملية.
يخطئ جميع العاملين في مجال حقوق الإنسان عندما يفصلون حقوق الإنسان عن الفكر، فالخوف من الأيديولوجيا لا يبرر إلقاء الفكر في المزبلة، إذ سيكون لذلك ضريبة قاسية هي الوقوع في فخ تحويل حقوق الإنسان إلى مجرد شعار أو إلى مقولة سحرية دون أبعاد وأرضيات، لتتحول إلى أصولية من نوع جديد لا يدرك مؤيدوها منها إلا لفظها.
إن وراء العمل في جبهة حقوق الإنسان رؤية جديدة للكون والإنسان والمجتمع، رؤية لا يمكن استيعاب روح هذه الحقوق دون الاستناد إليها. يعني العمل في مجال حقوق الإنسان أولاً وقبل كل شيء المساهمة في عملية الاستيعاب التاريخي والنقدي لرؤية جديدة للإنسان والطبيعة والمجتمع والتاريخ، وهي الرؤية المحايثة لمواد وبنود مواثيق حقوق الإنسان. من هنا، فإن هناك ضرورة لربط العمل في ميدان حقوق الإنسان بالعمل الفكري الرامي إلى دعم المنظور الحداثي للإنسان والطبيعة والتاريخ، ومن دون هذا الربط والوعي بالتلازم الفعلي الحاصل بين المبادئ ذات الصبغة القانونية في مجال حقوق الإنسان ومرجعيتها النظرية الحداثية والتاريخية سنظل نمارس عمليات الخلط الفكري والتشوه المعرفي وتركيب المفارقات على صعيد الممارسة.
هذه المسألة واضحة وبديهية في أوروبا، بحكم المواكبة التي حصلت في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر بين تبلور مواثيق حقوق الإنسان والفكر الفلسفي الحديث ومنظوره الجديد للإنسان والطبيعة والعقل والتاريخ. فهناك وحدة عميقة كامنة وراء جميع المواثيق الأوربية والأمريكية والعالمية. نشير مثلاً إلى مفاهيم الحرية، الإنسان، الفرد، العدل، القانون، المساواة، العقل، الدولة، تداول السلطة إرادة الشعب، مصدر السلطة، الضمان الاجتماعي، والتي لا يمكن قراءة بنود المواثيق دون الانتباه إلى طبيعتها وإلى علاقتها المركزية بالمشروع الليبرالي الحداثي في صيغه المتعددة.
أما عمليات التغيير التي تمت في المنطقة العربية خلال العقود الخمسة الماضية فقد تمت في مستويات قشرية وسطحية بمعزل عن التعرض لأنساق الثقافة القديمة، إذ تجاورت الأنساق القديمة مع الحديثة، وأدى هذا الوضع إلى تفريغ كل المفاهيم الحداثية (الإنسان، الفرد، الوطنية، الديمقراطية، الساحة العمومية، الشعب، القانون، العقل) من مضامينها الأصلية، إذ حضر الشكل وغاب الجوهر في خضم تلك العلاقة التجاورية الشاذة، فالشعب بقي هو القبيلة، والحزب السياسي قبيلة مصغرة، والفرد عبداً، والقانون شريعة السلطات أو رجال الدين… إلخ.
إن معركة تبيئة مبادئ وقيم حقوق الإنسان تحتاج فعلاً إلى معارك سياسية محددة في قضايا واقعية، لكنها تحتاج أيضاً وبالحدة والقوة ذاتها إلى معركة الدفاع عن الحداثة في فكرنا المعاصر، فالتقليد وحقوق الإنسان لا يجتمعان، سواء أكان التقليد قومياً أم ماركسياً أم إسلامياً. هذا يعني أن سؤال الحداثة سيظل مطروحاً على جدول أعمال المشتغلين بقضايا حقوق الإنسان، ويرتبط بهذا السؤال ضرورة القيام بجهود فكرية تنويرية تساهم في إعداد الأرضية الملائمة لانغراس أفضل لمبادئ حقوق الإنسان في فضائنا الفكري والسياسي. لا يمكن في الحقيقة أن تجتمع المناداة بحقوق الإنسان مع استمرار هيمنة تصورات تقليدية محددة عن الإنسان والعقل والمجتمع، واستمرار هيمنة الأفكار المرتبطة بالرعية والطاعة والامتثال والتقاليد ودونية المرأة واضطهاد الصغير والتعصب القومي والحقيقة الواحدة التي لا مراء فيها.

31 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *