خامساً: العلمانية والعلاقة بين الدين والسياسة

1- إشكالية المفهوم والعلاقة بين الدين والسياسة
لا شك أن الشارع الشعبي يمتلك حساسيّةً خاصّةً تجاه مفردة “العلمانيّة،” وربما يعود ذلك إلى ارتباط هذه الكلمة بسياسات النظام الاستبداديّ الذي حاول تقديمَ نفسه على أنه نظامٌ علمانيّ، وهو في الحقيقة أبعدُ ما يكون عن العلمانيّة. كما يعود إلى ارتباط المفردة، كما حاول العلمانيون المبتذلون إيصالها، بالموقف السلبيّ والعدائيّ من الدين ــ وهذا الفهم لا علاقة له بالفهم الفلسفيّ والفكريّ للعلمانيّة، وبتجسيداتها السياسيّة.
هناك ما يمكن تسميته بـ “العلمانيّة الطائفيّة”، وهي توصيفٌ لتفكير سطحي ومختزل لدى قطاعٍ من المثقفين والسياسيين. إذ تُختزل العلمانيّة لديهم إلى “فصل الدين عن الدولة،” ثم تُختزل بعد جولة نقاشٍ بسيطة إلى موقف ضدّ حجاب المرأة ومع حريّة تناول الكحول، وإلى التخوّف على فقدان هذه النِّعَم التي يتيحها نظامُ الحكم المستبد. وهذا الفهم المبتسر والسطحيّ يتكشّف في المآل الأخير عن قاعٍ طائفيّ لدى هذه العلمانيّات المدّعية، وعن موقف متعالٍ ومتعجرفٍ إزاء الآخر المختلف.
العلمانيّة مفهوم أوسع من هذا الذي تقدّمه هذه العلمانيّاتُ الطائفيّة (أو بالأحرى الطائفيّون الذين يتستّرون بقشرة علمانيّة شكليّة). إنها رفضٌ لهيمنة أيّ فكر أو دين أو إيديولوجيّة أو حزب أو فردٍ على الدولة وأجهزتها ومدارسها ونقاباتها وشوارعها. بهذا المعنى كان حزبُ البعث منذ استلامه السلطة الأكثرَ سلفيّةً، وكان شأنه في ذلك شأن الحكومات الإسلاميّة السلفيّة.
الدولة في النظام العلمانيّ قطاعٌ حياديّ مستقلّ فكريًّا وسياسيًّا عن الحزب الموجود في السلطة، لتكون الدولةُ دولةَ كلّ المجتمع، لا دولةَ البعثيين أو الإسلاميين أو دولة الحاكمين. العلمانيّة لا تتجسَّد إلا في بيئة الحريّة واحترام حقوق الإنسان، فاحترامُ الآخر والقبولُ بوجوده وبحريّته هما أساس كلّ رؤية علمانيّة حقيقيّة، وبالتالي ليس ما يحدِّد علمانيّةَ فردٍ أو طرفٍ ما هو الفكر الذي يحمله أو الأيديولوجيّة التي يتبنّاها أو الدين الذي يعتنقه أو الطائفة التي ينتمي إليها؛ وإنما هو ذلك الإيمان الراسخ بحريّة الآخر المختلف.
من هنا، فإنّ المتديِّن الذي يؤْمن بحريّة الآخر المختلف عنه ويقبل بوجوده وينظر إليه نظرةَ الشريك في الوطن هو ما يمكن توصيفُ موقفه وسلوكه بالعلمانيّ. أما ذلك الذي يختزل الحريّة، التي هي جذر العلمانيّة وأساسها، بمظاهر شكلية، ولا تعنيه جملة الحريّات الأساسيّة الأخرى، فلا يمكن تسميته إلا بالعلمانيّ المبتذل. وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا الابتذالُ مستلهمًا لروحٍ طائفيّةٍ في العمق. العلمانيّة في المحصّلة ليست موقفًا ضدّ الدين أو ضدّ أيّ فكر أو أيديولوجيّة. إنها موقفٌ راسخٌ مع الحريّة وضدّ الهيمنة والاستبداد من أيّ نوع كان.
على العموم، لا تزال العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في ثقافتنا وتراثنا تحكم رؤية الكثيرين. هنا نقول إن الدين غير السياسة والسياسة غير الدين، فالدين مجال الذاتية، أي مجال الإيمان، والسياسة مجال العلاقات الموضوعية التي تعينها نسبة القوى، ومنهج السياسة نفعي براغماتي دوماً، ولا يتسق في معظم الأحيان مع القيم الروحية والأخلاقية للدين. هذا يعني أنه ينبغي تحرير الدين من السياسة وتحرير السياسة من الأيديولوجيات الدينية المفصلة على مقاس حامليها، والمثقلة بالمصالح الذاتية لهم.
فيما يخص العلاقة بين الإسلام والسياسة، لا بدّ هنا من تقرير حقيقة مهمة من حيث المبدأ: إن أي حديث تجريدي عن الإسلام لا يكون مفيداً ولابدّ من ربطه بمدرسة أو مذهب أو شخص أو فرقة معينة، أي لا بد من الحديث عن تفسير وفهم للنصوص التي تمثل مصادر الإسلام، وهي نصوص القرآن والسنة، لأن “القرآن لا ينطق وإنما ينطق عنه الرجال” كما يقول الإمام علي بن أبي طالب. وأيضاً لأنه ليس هناك من نص مهما كان مقدساً له معنى ذاتي لازم ونهائي، فالمعاني تستخلص بعمليات معقدة يقوم بها عقل ما، محكوم سلفاً بعلاقات الزمان والمكان بكل ما يعتمل فيها من مصالح وعادات وتقاليد ومعارف سائدة. الإسلام دوماً هو إسلام المتكلم، يتغير بتغير الذات المتكلمة، إذ تتباين قراءات النصوص المقدسة والسرديات التاريخية وتأويلاتها تبايناً يبلغ حد التكفير المتبادل. بالتالي، فإن أول ما يجب أن يفعله الإسلام السياسي هو نزع ثوب القداسة عن أطروحاته، والاقتناع بمشروعية وأهمية القراءات المتعددة للإسلام كدين من جهة، وأن من يريد أن يدخل معترك السياسة عليه أن يؤمن بمنطقها الواقعي والموضوعي.

2- مبادئ العلمانية وأركانها:
تقوم العلمانية على ثلاثة أركان:

أ- الإنسانوية أو الإنسية
تعني الإنسانوية أو الإنسية أن الإنسان هو المبتدأ والخبر، المنطلق والغاية، لا يجوز أن يكون وسيلة لأي غاية مهما سمت، أرضية أو سماوية. وهي لا تقتصر على إعادة الاعتبار للإنسان بصفته مركز العالم ومعيار جميع القيم فحسب، بل بصفته ذاتاً حرة فاعلة ومسؤولة. الحقيقة الأولى والكلية الثابتة هي الإنسان، وهذه تعني احترام الإنسان وتقديره حق قدره لذاته، لا لحسبه ونسبه ولا لثروته ولا لقوته وجبروته، ولا لأي صفه أخرى من صفاته أو لأي من محمولاته، وأن جميع محمولات الإنسان، المادية والروحية على السواء، تنسب إليه وتستمد قيمتها منه، وجميع أفكاره وتصوراته ومعتقداته وعلومه وجميع النظم التي ينتجها نسبية ومحدودة بمطلق واحد هو الإنسان، وأنها جميعاً قابلة للتغير قياساً بثابت واحد هو الإنسان الذي يمتلك القابلية للتحسن والتقدم والارتقاء إلى مالا نهاية، وعليه يتأسس المجتمع المدني، والمواطن الذي يتأسس عليه المجتمع السياسي.

ب- المساواة
تتجلى الماهية الإنسانية في جميع أفراد النوع بالتساوي، فليس هنالك من هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر، فإذا جردنا الفرد المعين من جميع صفاته وتعييناته ومحمولاته تبقى لنا ماهيته أو جوهره الذي يشترك فيه مع جميع أفراد النوع بالتساوي؛ أما إذا جردناه من إنسانيته فلا يتبقى منه أي شيء.

ج- المواطنة
لا يمكن الحديث عن المواطنة إلا بالانطلاق من قاعدة إنسانية واعتماد معايير إنسانية، فالإنسانية أو الإنسية هي أساس الوطنية ورافعتها. فلا يمكن أن يعترف أحدنا بتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات إذا لم يعترف أولاً بتساويهم في الكرامة الإنسانية. الإنسانية والمواطنة صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل؛ فليس من فرد هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر، وليس من عضو في دولة معينة هو مواطن أكثر أو أقل من الآخر.
المواطنة منظومة حقوق مدنية وسياسية وحريات شخصية وعامة وواجبات مدنية والتزامات قانونية متساوية، ومشاركة في حياة الدولة ومؤسساتها، ولذا تعني المواطنة العضوية الكاملة في الدولة السياسية، أي في الدولة الوطنية أو القومية، ولا فرق. إذ تصير المواطنة هي العلاقة الأساسية التي تربط بين جميع مواطني الدولة المعنية، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية والطبقية وما إليها. ومن هنا تأتي أهمية مبدأ “حياد الدولة الإيجابي” إزاء جميع الأديان والمذاهب والأيديولوجيات والعقائد السياسية، وإزاء الانتماءات العرقية.
للمواطنة ثلاثة أبعاد أساسية أو ثلاثة مجالات: أولها أن المواطنة حالة قانونية، أو وضع قانوني، فهي، بهذا المعنى، ترادف “الجنسية” التي يكتسبها الفرد من عضوية الدولة، ويتحدَّد هذا البعد بالحقوق الاجتماعية، المدنية والسياسية.
والبعد الثاني، بعد اجتماعي/سياسي، بالمعنى الواسع للكلمة، قوامه النظر إلى المواطنين بصفتهم قوة اجتماعية / سياسية يشاركون بنشاط في الشؤون العامة وفي حياة الدولة من خلال مؤسسات المجتمع المدني، كالجمعيات والنقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية.
أما البعد الثالث فيتعلق بالهوية الوطنية التي يستمدها الفرد من عضويته في “جماعة سياسية”، فالجماعة السياسية، أي “المجتمع المنظم” أو “الأمة المنظمة” أو “المجتمع السياسي”، هي المصدر الوحيد للهوية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية. ما يعيِّن فارقاً جوهرياً بين الأصل والهوية من جهة، وينفي أن يكون العرق أو الدين أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية أساساً للهوية الوطنية، أو أن تكون الهوية الوطنية تعيُّناً للعرق أو الدين أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية، أو امتداداً لأي منها، أو نتيجة من نتائج انتماء الفرد إلى أي منها.
في ضوء ما تقدم، المواطنة المؤسسة على تساوي البشر إناثاً وذكوراً في الكرامة الإنسانية تنفي نفياً قاطعاً مفاهيم أهل الذمة وأهل الكتاب والأعاجم والموالي وما إليها، وتنفي مفاهيم الولاية والوصاية والقوامة، والمواطنة تقتضي قانوناً مدنياً وضعياً يسري على جميع المواطنين بالتساوي وبلا استثناء، ويكفل حق أي مواطنة أو مواطن في تسلم أي منصب وفقاً للكفاءة والجدارة والاستحقاق.

80 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *