البيدر المئوي للثورة العربية الكبرى
يصادف هذا العام وفي العاشر من حزيران، الذكرى المئوية للثورة العربية الكبرى الثورة التي أنهت الاحتلال العثماني للمنطقة، لتبشر بانطلاقة عربية سرعان ما انطفأت بالاحتلال الأوروبي واقتسام المنطقة بين عدة دول أوربية .
قبل ومع الثورة، كانت المرحلة التي اصطلح على تسميتها، النهضة العربية الأولى، بأفكار إصلاحية نهضوية تشمل نواحي الحياة والدين والمجتمع والدولة والسياسة والاقتصاد ….ولم تشمل الثورة العربية الكبرى كل الأرض العربية، إنما كان ميدانها بلاد الشام وأرض الحجاز، لكن الأفكار النهضوية كانت أكثر شمولاً ، حيث كانت مصر إحدى مراكزها الأساسية،كما أن بلدان المغرب العربي كانت ميدان خصباً لهذه الأفكار .
الأفكار النهضوية الأولى في بلاد الشام والعراق كانت ترتكز على العروبة أساساً لها، ويمكن أن نفسر ذلك كرد فعل للقبضة العثمانية القوية في بلاد الشام، على حين في مصر كان الصوت العروبي خافتاً في النهضة الأولى لصالح الأفكار اللبيبرالية والإسلامية، وذلك بسبب الاستقلال النسبي في مصر الذي تحقق من أيام محمد علي، أما في الحجاز والجزيرة العربية فقد كانت الأفكار النهضوية إسلامية في عمومها .
يمكن لنا أن نضيف أن التيار العروبي في مصر لم يكن تياراً متماسكاً عموماً، ولم يكن سائداً إلا في المراحل التي يدرك فيها المصريون أنهم الثقل السياسي الأكبر في المنطقة، بمعنى أن التيار العروبي كان يقوى ويضعف حسب موقع مصر على الخريطة السياسية، على حين أنه ليس كذلك في الشام والعراق، فقد كان أكثر استقراراً ورسوخاً، وهذا الحال يمكن لنا أن نسحبه على التيار الإسلامي في الجزيرة العربية، أي كان التيار الإسلامي هو السائد على طول الخط في الجزيرة .
بالمحصلة وبمتابعة سير وتطورات هذه التيارات ومآلاتها السياسية والاجتماعية يمكننا أن نسجل الملاحظات الأولية التالية :
1- انتكاس التيار العروبي في سوريا والعراق إلى الإسلام الراديكالي بشقيه الشيعي والسني.
بعد مدة حكم تزيد على أربعين عاماً لحزب البعث (القومي العروبي ) في كل من العراق وسوريا، نلاحظ و بمجرد تعرض المجتمعين السوري والعراقي إلى خطر حقيقي، انتكاس العروبيين إلى إسلاميتهم (وأقول إلى إسلاميتهم وليس إسلامهم، ذلك أن العروبيين في سوريا انتكسوا إلى مجاهدين شيعة، والعروبيين في العراق انتكسوا إلى مجاهدين سنة ) . يمكن لنا أن نسأل : هل هذه انتكاسة فعلاً ؟؟ أم هي تصحيح مسار ؟؟ أم أنها تندرج تحت مقولة مكر التاريخ ؟؟.
في حقيقة الأمر إن مرحلة حكم العروبيين في سوريا (وسأتكلم عن سوريا فقط ذلك أن النمط العراقي يختلف قليلاً عن مثيله السوري ) ,لم تُستكمل فيها عملية الاندماج الوطني التي بدأت قبل الوحدة مع مصر، ثم تعطلت مسيرتها إبان الوحدة تحت شعارات عروبية ومحاولات التماثل بين الإقليمين الشمالي والجنوبي، وضغط عملية التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل .
وحصل الانفصال ولم تحصل متابعة عملية الاندماج الوطني، فبقيت فكرة الوحدة العربية إحدى أكبر العوائق في هذا الاندماج، والسبب أن العروبيين ينظرون بعين الاحتقار إلى الدولة القطرية، ما أدى إلى تأجيل العمل بل عدم الانتباه إلى أهمية تطوير بُنى الدولة لتكون حاضناً حقيقياً وجامعاً لعملية الاندماج الوطني .
لم تكن الدولة القطرية في أية مرحلة من مراحلها مثار اهتمام العروبيين، بمن فيهم أصحاب النباهة الفكرية أمثال ياسين الحافظ، لقد أهمل ياسين الحافظ عن قصد الاهتمام بالسلطة واهتم بالمجتمع والنخبة (الانتلجنسيا). لم يفرق بين الدولة والسلطة، فأهمل الدولة والسلطة معاً. نقد البُنى الاجتماعية من دون نقد بنية الدولة فتجنى على المجتمع في كثير من جوانبه. ونحن إذ نذكر الحافظ فنذكره كنموذج معارض، لنقول إن التيار العروبي بشقيه السلطوي والمعارض يتحملان مسؤولية احتقار الدولة . وهنا يصبح من الطبيعي، عند تعرض الدولة والمجتمع إلى خطر حقيقي، أن يلتصق كل تيار بأصوله الاجتماعية والفكرية الماقبل وطنية، لأن عملية الاندماج الوطني قد تم تعطيلها منذ عقود .
2- التيار السلفي الذي بدأ دعوي على يد محمد عبدو والأفغاني انتهى به المطاف إلى راديكالي جهادي.
إن النَفَس الدعوي للتيار السلفي (والإسلامي عموماً ) هو جانب مهم يجب إعادة تقييمه وإعطاؤه حقه، النَفس الدعوي هو بالضبط المعبر الحقيقي عن أصالة الأمة والثقافة العربية، ويجب احترامه في هذا السياق، فهو بالمحصلة ضمان عدم شطط التيار الليبرالي والعروبي (أقصد الشطط الاستلابي الاستشراقي) .
إن تخلي هذا التيار عن نَفَسه الدعوي وتحوله إلى الراديكالية الجهادية هو من أهم عوامل إضعاف مسيرة الأصالة والتأصيل، وبالتالي مسيرة المعاصرة، نظراً للارتباط الموضوعي بين الأصالة والمعاصرة .
نحن نرى أن المرحلة الناصرية تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن هذا التحول، والمسؤولية لا تنحصر في الممارسات البوليسية لنظام عبد الناصر بحق التيار الإسلامي عموماً، إنما تتعداها إلى مستوى (الحرب ) الثقافية والإيديولوجية التي شنتها التيارات ضد بعضها، ورعت دولة عبد الناصر هذه ( الحرب ) وأججّتها . ونظراً لأن عبد الناصر كان يشكل تهديداً حقيقياً للنظام السعودي، وجدنا أن الجزيرة العربية قد أعدت العدة لخوض هذه (الحرب ) الثقافية، فكان أن تحول الأفغاني الدعوي إلى سيد قطب (الذي جهل المجتمع ) ثم حصل التحول الأخطر بظهور تنظيم القاعدة .
مؤسف أن نصل إلى نتيجة مفادها أن محمد عبدو والأفغاني قد تمخضا الآن عن ابن باز وابن عثيمين؟
والمؤسف أكثر أن ندرك أن نظام عبد الناصر الذي صفقنا له مطولاً، كان المسؤول الأكبر عن هذا التحول. خصوصاً عندما نعلم أن سيد قطب لم يكن وحيداً في تنظيره للتيار الإسلامي في زمن عبد الناصر، إذ كان هناك منظرون إسلاميون آخرون، يكفي أن نذكر مصطفى السباعي في سوريا , ويكفي أن نسأل لماذا ساد نَفَس سيد قطب ولم يسد نَفس السباعي؟ لنعلم حجم مسؤولية عبد الناصر ونظامه .
3- لم يكن حال التيار الليبرالي أفضل من سابقيه.
فالليبرالية منذ لحظة تشكلها عربياً كانت تياراً نموذجه الأمثل من إنتاج ثقافة أخرى، لا شك أن مجمل عملية النهضة الأولى بمقولاتها وتياراتها وحتى ثورتها (الثورة العربية الكبرى)، كانت بسبب الصدمة الحضارية التي أحدثتها الحملة الأوربية على المنطقة. وبالتالي كان ينتابها جميعاً الشعور بالدونية، لكن كانت حظوظ التيار الليبرالي هو الأكثر في التغرب والاستلاب، ابتعد عن الأصالة واصفاً إياها بالأصولية، واجتنب التيار العروبي معتبراً أنه شكل من أشكال التوفيقية، فكان أن وقع بغربة حقيقية لم يستطع معها أن ينقل المجتمع إلى الحداثة، لأنه لم يرَ الجوانب الاجتماعية التي يمكن أن تكون حامل حقيقي للحداثة، بسبب عدم احترامه بل احتقاره لبنية المجتمع عموماً، البيئة التي نشأ فيها التيار الليبرالي كانت في لبنان في بلاد الشام، وفي الصالونات في مصر. لم تكن بيئة اجتماعية بالمعنى الواسع كما هو حال سابقيه، في لبنان نجد نتائج ومآلات هذا التيار بوضوح .
4- يمكن لنا أن نضيف ملحوظة أخيرة علها تشكل تنبيهاً ما للعاملين بالشأن الثقافي.
عبد الرحمن الكواكبي من كبار مفكري النهضة، وهذا ما شهد له به كل من قرأه أو عاصره. قُرّاؤه المحدثون متعددو المرجعيات الإيديولوجية، قرأه السلفي والماركسي والليبرالي والقومي ..الخ. اللافت للنظر أن كل قارئيه يستطيعون نسبته إليهم , فالإسلامي يراه إسلاميا , والليبرالي يراه ليبرالياً , والعروبي كذلك , حتى الماركسي أيضاً . واللافت للنظر أيضاً أن مفكر بحجم الكواكبي لم يستطع أن ينتج تياراً لا في عصره، ولا الآن!
كذلك أن من يقرأه بتجرد يدرك أنه (ربما الوحيد) الذي استطاع أن ينتمي للإسلام والعروبة والليبرالية والواقع والمستقبل والماضي، فيدخل ويخرج إليها جميعاً دونما أي حرج أو إحساس بالتلفيق آو التوفيق . الكواكبي كان ملتصقاً بواقعه (واقع الأمة)، قابضاً على ماضيه (ماضي الأمة)، ناظراً لمستقبله (مستقبل الأمة)، وربما لذلك لم يتشكل كتيار!
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...