رابعاً: نحو إعادة تأسيس المفاهيم السياسية الحديثة: الشعب والأمة والقومية

1- مفهوم الشعب
الشعب مفهوم سياسي يحيل على كينونة اجتماعية، ويتخطى مفهوم المجتمع والمجتمع المدني، أو يتجاوزهما جدلياً، أي إنه يحمل مفهوم المجتمع المدني بوصفه أساسه ومحتواه، ويعيد إنتاجه سياسياً، أو في المجال السياسي؛ أو لنقل إنه الصيغة السياسية للمجتمع المدني.
الشعب ليس مقولة بديهية، ولا واقعاً ناجزاً، بل هو ناتج تطور تاريخي وارتقاء من التشظي والتحاجز والتنافس والتناحر إلى الوحدة، ناتج تطور الفرد الطبيعي إلى كائن اجتماعي، ومن ثم إلى مواطن، وناتج تطور الجماعة البشرية إلى مجتمع، ومن ثم إلى مجتمع مدني، ومجتمع سياسي.
تحيل مقولة الشعب، في بلادنا، على مقولة الاندماج القومي والاجتماعي، أي على جميع العمليات أو السيرورات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية والأخلاقية التي ترقى بمجتمعاتنا من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة، أو التي ترقى بالجماعات المغلقة المتحاجزة من حالة الملل والنحل والطوائف والعشائر والإثنيات إلى الحالة الوطنية/القومية؛ من دون إلغاء الملل والنحل والمذاهب والأديان والإثنيات، فهذه لا يمكن إلغاؤها؛ الذي يمكن إلغاؤه هو العلاقات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية التي لا يجوز بحال من الأحوال أن تكون علاقات سياسية، وهنا تتضح جميع الدلالات السياسية لمفهوم الشعب. هذا الانتقال أو الارتقاء الضروري غير ممكن إن لم يتأسس على المساواة، وعلى الاعتراف المبدئي والنهائي بحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن.
يمكن الحديث عن مجتمعات في دولة واحدة، كالمجتمعات البدوية والمجتمعات الريفية ومجتمعات المدن .. إلخ، ولكن لا يمكن الحديث عن شعوب في دولة واحدة. فما أن نتحدث عن شعب وشعوب حتى نغادر علم الاجتماع الخالص إلى علم الاجتماع السياسي، وإلى علم السياسة، ونغادر من ثم مستوى الوجود الاجتماعي المباشر إلى أحد أشكاله أو تشكلاته الثقافية والسياسية.
الشعب جملة حية وكلية عيانية؛ لا يستقيم أن تكون حرة وسيدة وجزء من أجزائها منقوص الحرية والسيادة. فإذا انتقصت حرية الفرد وسيادته على نفسه انتقصت حرية الشعب وسيادته، وإذا كان في شعب من الشعوب جماعة ثقافية أو لغوية أو قومية أو إثنية لا تتمتع بحريتها وحقوقها، مهما قلَّ عددها، فإن حرية الشعب كله منقوصة، وكذلك حقوقه وسيادته.
يجب أن نمتلك الطاقة الفكرية للتمييز بين مفهوم الشعب ومفهوم السكان، تماماً كما نميِّز بين علم السياسة وعلم الإحصاء. ثمة ثلاثة أركان يقوم عليها مفهوم الشعب، هي: الحرية والمساواة والقانون. الحرية نقيض العبودية، والمساواة نقيض الامتيازات من أي نوع ومن أي درجة، والقانون هو الضمانة الموضوعية لهذه وتلك، أي للحرية والمساواة. وعلى هذه الأركان ذاتها يقوم مفهوم الوطن، وإلا تحول الوطن إلى مكان إقامة أو إلى مجرد بيئة طبيعية غريبة.
الشعب مفهوم سياسي يرمز إلى مواطنين أحرار، لا إلى مسلمين ومسيحيين ويهود، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، ولا إلى عرب وكورد وأثوريين وتركمان، ولا إلى عشائر وعائلات ممتدة. أي إن جمعاً حسابياً لإثنيات وعشائر وأديان ومذاهب لا يساوي شعباً، ولا يساوي أمة حديثة.
كثيراً ما يردِّد المثقفون والسياسيون والأكاديميون أن الشعب هو مصدر السيادة والمشروعية، وهذا صحيح نظرياً منذ أن كف الناس عن النظر إلى السلطة على أنها تفويض إلهي، أو هبة من السماء. بيد أن هذه الحقيقة تغدو فارغة من أي معنى ما لم يكن الشعب الذي يفترض أنه مصدر السيادة سيداً حراً مستقلاً، ومن ثم فلا معنى للمشروعية إذا لم تكن مستمدة من هذه السيادة وهذه الحرية وهذا الاستقلال، وقائمة عليها، أو مؤسسة عليها. إن سيادة الشعب وحريته واستقلاله لا تحتاج إلى تسويغ، فالشعب يستمد قيمته ومشروعيته ومسوغاته من ذاته وليس من أي عنصر خارجي (السيادة عند بعض الإسلاميين، هي “حاكمية الله” أو “ولاية الفقيه”، بحسب المتكلم، وسيادة العرب على غير العرب عند القوميين).
الشرعية كالسيادة في العموم والإطلاق والوحدانية والثبوت والسمو، لأن صاحب السيادة هو مصدر الشرعية. فحين تكون السيادة مرادفة لحاكمية الله، أو ولاية الفقيه، تكون الشرعية “إسلامية” تستمد من صاحب السيادة، أي من الله. وتكون “قومية” تستمد من الأيديولوجية القومية عند القوميين، أو “ثورية” تستمد من الماركسية اللينينية عند الاشتراكيين. في مقابل الشرعية المستمدة من الأمة أو من الشعب، صاحب السيادة، بوصفه مصدراً وحيداً للشرعية ومصدراً لجميع السلطات.

2- مفهوم الأمة والقومية
لا بدّ من إعادة تعريف الأمة والقومية أو الوطنية، (ولا فرق)، انطلاقاً من الحاضر والراهن أولاً، وبدلالة المجتمع المدني الحديث والدولة الحديثة، بوصفهما حدين جدليين في كلية عينية، ثانياً.
الأمة تجريد نظري مثالي، ثقافي وأخلاقي، يحيل على وجود اجتماعي متعين في المكان والزمان، ليس له من اسم آخر سوى المجتمع المدني، والدولة الوطنية هي شكله السياسي. إذن، تتعين الأمة واقعياً في المجتمع المدني والدولة السياسية بالتلازم الضروري، إذ ليس هنالك مجتمع مدني بلا دولة وطنية، ولا دولة وطنية بلا مجتمع مدني.
لا ينفصل مفهوم الأمة الحديثة عن مفهوم الدولة الحديثة. الأمة الحديثة كالدولة الحديثة تقوم على مبدأ المواطنة وتتقاطع مع مفهوم الشعب بصفته مفهوماً سياسياً، وتتجسد بالفعل في المجتمع المدني. الأمة هي المعادل الثقافي والأخلاقي للمجتمع المدني، والشعب هو المعادل السياسي للمجتمع المدني والأمة على السواء. ومنها الأمَّوية أو القومية أو الوطنية، وترادف الجنسية، وهي سمة حقوقية تلازم الأفراد بوصفهم مواطني الدولة المعنية.
القومية فضاء ثقافي أو حضاري مشترك بين جميع قوى الأمة وتمثيلاتها، تتقاطع فيه وتتجابه جميع التيارات الفكرية والأيديولوجية والسياسية، ولذلك هي صفة للدولة المعنية منظوراً إليها من الخارج، أي من غير مواطنيها؛ لذلك فإن جميع التيارات والأحزاب “القومية” والإسلامية والاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وغيرها هي أحزاب وتيارات قومية تعبر عن قوى الأمة المختلفة والمتعارضة.
ومن ثم فإن مفهوم المجتمع تعبير سوسيولوجي، ومفهوم الأمة تعبير ثقافي، ومفهوم الشعب تعبير سياسي عن حقيقة واحدة هي الدولة الوطنية أو القومية؛ وهذه الأخيرة أي الدولة الوطنية لا تبدو لمواطنيها إلا في صيغة النظام العام والمصلحة العامة والإرادة العامة، أي في صيغة دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز.
ما كان للقومية أو الوطنية أن تكون صفة للدولة لولا عنصر العمومية في الصفة والموصوف؛ والصفة في العربية تابعة للموصوف في جميع أحواله؛ القومية أو الوطنية صفتان تابعتان لموصوف هو الدولة، أما في الفكر السياسي العربي بوجه عام وفي الفكر القومي بوجه خاص فإن الصفة، الوطنية أو القومية، أكلت الموصوف حتى لا نكاد نلمح له أثراً، ولذلك اكتسى مفهوم الوطنية أو القومية طابعاً قيمياً خالصاً. فإذا كانت الدولة تعبيراً عن الكلية الاجتماعية أو المجتمعية، بكل ما تنطوي عليه هذه الكلية من تنوع واختلاف وتعارض، فإن الوطنية أو القومية التي نصف بها الدولة هي صفة هذه الكلية، بغض النظر عن الفروق الإثنية واللغوية والثقافية والدينية والمذهبية والطبقية وما إليها.
القومية ليست أيديولوجية، كما حاول الفكر القومي التقليدي أن يصوغ أصالتها، وهي ليست تجميعاً كمياً لوحدات وكيانات مجزأة. القومية هي تحقيق لذات الأمة، وبالدرجة نفسها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها. وعلى هذا فإن “الأمّويّة”، ليست شعوراً متمحوراً حول السيادة القومية إزاء الخارج فحسب بل إنها “شعور ووعي متمحوران حول سيادة الأمة في الداخل، سيادتها على نفسها”.
إن لمفهوم القومية ومفهوم الأمة، في الخطاب السياسي العربي، بعداً إثنياً أو عرقياً يتخفَّى في اللغة والتاريخ وغيرهما مما يسمى “مقومات القومية العربية”، ويخرج الجماعات الإثنية واللغوية والثقافية من دائرة الأمة، أي من دائرة المجتمع المدني والدولة القومية؛ وبعداً دينياً مذهبياً يخرج غير المسلمين ومعهم أتباع المذاهب الإسلامية (الأقليات المذهبية) من دائرة الأمة ومن دائرة الدولة؛ وهذه أمارة أخرى من أمارات تشظي الحقل الثقافي والسياسي، لا بفعل التجزئة الاستعمارية أيضاً، بل بفعل التكسر المجتمعي ونقص الاندماج القومي.
الأمة عند الإسلاميين هي “الأمة الإسلامية”، النقية دينياً، بحسب المتكلم أيضاً، وهي “الأمة العربية” النقية عرقياً ولغوياً عند القوميين، ولا يخفى تداخل مقولتي الأمة العربية والأمة الإسلامية، بحكم تداخل العروبة والإسلام. فلمفهوم الأمة في الخطاب السائد دلالة دينية، بل مذهبية، إسلامية أو عرقية، في مقابل الأمة بصفتها جماعة سياسية وأخلاقية هي مضمون الدولة وقوامها وأساسها وعمادها، يتساوى في عضويتها، أي في عضوية الأمة، المسلم وغير المسلم والمؤمن وغير المؤمن والعربي وغير العربي، ولهذا توصف الدولة الوطنية بأنها الدولة/الأمة، ودولة الشعب.
أما في الخطاب القومي العربي، فيلاحظ أن معاني “الأمة العربية” و”الشعب العربي” و”القومية العربية”، تستمد أرضيتها الفكرية انطلاقاً من لحظة تدشينية تقع في الماضي البعيد، وتستمد قيمتها من مبدأ “الأصل” المبارك أو المقدس، مما يجعل الحاضر لحظة فارغة، إلا من الماضي وأمجاده، ويجعل العروبة مجرد ذاكرة، يتحدد في ضوئها وعي “الذات القومية”. يؤطر هذا الوعي نفسه بإطار من تاريخ “عربي إسلامي” هو سلسلة من الانتصارات والأمجاد، وثقافة “عربية إسلامية” كانت ولا تزال “مشعلاً للهداية” وموئلاً للحكمة والعقل والأخلاق ومعياراً للحقيقة.

3- الدولة الوطنية والدولة القومية

أ- إشكالية القومي والقطري
لعل المسألة الأساس المطروحة اليوم على الفكر السياسي، نظرياً وعملياً، تتعلق بالدولة القائمة بالفعل هنا والآن، في سورية أو في العراق أو في غيرهما، وبإمكانات تحولها إلى دولة وطنية لجميع مواطنيها، وصيرورتها من ثم دولة/أمة. في هذه الحال يغدو من البديهي الحديث عن أمة سورية وأمة عراقية، كما نتحدث اليوم عن مجتمع سوري ومجتمع عراقي، وشعب سوري وشعب عراقي، خاصة وأن مفهوم الشعب هو المعادل السياسي لمفهوم الأمة.
لم يمنح الفكر القومي العربي والأحزاب القومية والإسلامية والاشتراكية الدول “القطرية” أي مشروعية، رغم أنها كانت تتعزز وتترسخ عاماً بعد عام، وقد تحول معظمها، بدرجات مختلفة، إلى دول شمولية، تسلطية أو أمنية، أجهزت في كل مكان من العالم العربي على جنين الدولة الوطنية، التي كانت آخذة في النمو.
كما أن الحديث عن شعب واحد في دولتين، أو في عدة دول، يضمر عدم الاعتراف بإحدى هاتين الدولتين، أو بهما، وبتلك الدول. وتلكم هي إشكالية “القومي والقطري” في الفكر السياسي العربي المعاصر، الإشكالية التي لم تجد لها حلاً حتى يومنا، وقد نجم عنها موقف وجداني أو شعوري قوامه رفض الدولة القائمة بالفعل، وعدم الثقة بها، ومن ثم عدم احترامها، والنظر إليها على أنها انحراف تاريخي وعرض زائل عما قريب، ومعارضتها بدولة ليست موجودة سوى في الذهن. ربما رأى كثير من المثقفين والسياسيين العرب أن صيرورة أي من هذه الدول دولة وطنية حديثة أو صيرورتها جميعاً دولاً وطنية حديثة تعني ضياع المشروع الوحدوي وخسارته نهائياً، وكأن المشروع السياسي الوحدوي لا يقوم إلا على أشلاء هذه الدول القطرية.
القوموي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بـ “الدولة القومية”، “دولة الأمة العربية” النقية، والإسلاموي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بدولة إسلامية نقية، بحاكمية الله أو ولاية الفقيه، والاشتراكي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بدولة اشتراكية، أو بدكتاتورية البروليتاريا وبالأممية البروليتارية. الغائب الأكبر في الفكر السياسي العربي هو الواقع العياني؛ لذلك لم يعن الفكر السياسي العربي المعاصر بمسألة الدولة ومسائلها عناية جدية، ومن البديهي وهذه الحال ألا يعنى بمسألة المجتمع ومسائله، ولا سيما بمسألة المجتمع المدني وما ينتمي إليها ويتعلق بها من مسائل كالإنسية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية.
من هنا فإن الافتراض الأكثر واقعية هو أن أي حالة اتحادية مستقبلية قد تكون نتيجة لتقدم الدول العربية القائمة، أي لتحسن حياة شعوبها في مختلف الميادين، وصيرورتها دولاً وطنية وديمقراطية تدفعها مصالح شعوبها إلى نوع من وحدة أو اتحاد فدرالي، على غرار الاتحاد الأوروبي، بعد أن فشلت أشكال التوحيد القسري البسماركي أو البونابارتي.
فالاتحاد، كما أكدت تجربة القرن الماضي، ليس مجرد رغبة عاطفية أو فعلاً من أفعال الإرادة السياسية فحسب، وضرورته لا تنبع من “التحديات الخارجية” فحسب، بل هو فعل مجتمعي يعبر عن اتجاه سير المجتمع وعن خياراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذا فهو ليس تعبيراً عن إرادة “الأحزاب القومية”، ولا يمكن أن يأتي إلا في سياق تطور سياسي اقتصادي للدول المعنية بالاتحاد. كذلك، فقد ظهر بوضوح أن رهن التغيير السياسي وبناء نظام اقتصادي حديث بالوحدة العربية وبالقضاء على النفوذ الإمبريالي وإسرائيل والرجعية كان ولا يزال يصب في مصلحة الطغم المستبدة التي نهبت البلاد وأذلت شعوبها.
لا بد أن نقيم حداً معرفياً ومنطقياً وتاريخياً بين الإثنية والقومية، بمعناها الحديث والمعاصر. والمدخل إلى ذلك هو إعادة الاعتبار للدولة القائمة بالفعل، هنا والآن، والعمل على صيرورتها دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، أي العمل على صيرورتها دولة المجتمع وتعبيراً فعلياً عن كليته، وحينئذ فقط يصبح طرح أي مشروع وحدوي أمراً مشروعاً وممكناً، لأنه سيغدو تعبيراً عن المصلحة العامة والإرادة العامة، لا عن مصلحة أو أوهام هذا الحزب أو ذاك وإرادته.

ب- العروبة والأيديولوجية القومية
كان الخطاب القومي العربي خطاباً أيديولوجياً حافلاً بالأوهام، ويتغذى على أوهامه الذاتية، وهو ما أنتج نظماً سياسية استبدادية، شعاراتها ما فوق وطنية وممارستها ما دون وطنية، فأعادت إنتاج العنصرية والمذهبية وانحطت بالممارسة السياسية والقيم الأخلاقية إلى أسفل سافلين، وكانت وبالاً على العرب والعروبة.
لا بدّ من التمييز بين العروبة والقومية العربية، على اعتبار الأولى فضاء روحياً، ثقافياً وأخلاقياً، مشتركاً بين العرب والناطقين بالعربية، والثانية مذهب سياسي مستند إلى بنية أيديولوجية محددة.
لقد قام الفكر القومي العربي بتسييس العروبة عبر تحويل إرثها الثقافي إلى ثقافة سياسية وفرضها على المجتمع بالقسر والإكراه، وبالتالي تحولت الثقافة إلى كيان لا تاريخي يحل محل العرق أو العنصر في الفكر العنصري. لذا يجدر بنا التفريق بين الفكر العربي والفكر القومي، وبين الثقافة العربية والثقافة القومية، فالفكر القومي لا يستنفد الفكر العربي ويستغرقه، والثقافة القومية لا تستنفد الثقافة العربية وتستغرقها، كما يتوهم القوميون العقائديون. الجماعات غير العربية لا تشذ عن هذه القاعدة، إذ يصطنع قوميو كل منها نموذجاً ثقافياً، يميزهم من غيرهم، ويحل محل العرق المسكوت عنه، أو يقنِّعه. هذا يعني أن هناك فرقاً بين الثقافة العربية أو الكوردية أو الآشورية، أو غيرها، بما هي ثقافة تواصلية وتبادلية، وبين “الثقافة القومية” التي يصطنعها قوميو هذه الجماعات، بما هي ثقافة تفاصلية وإقصائية، ولا تعدو كونها تعبيراً عن النزعة العنصرية في أي قومية.
يعتقد القوميون أن هذا التسوير الثقافي للذات “القومية” هو ما يحفظ بقاءها ويصونها ويحميها من الذوبان والتلاشي، لكنه في الحقيقة يحبسها ويحولها إلى ثقافة عنصرية ويعوِّق نمو الثقافة وتطورها.
في سورية، ينبغي الانتقال من النزعة القومية، لدى العرب وغير العرب، إلى الوطنية السورية التي تشكلت في خضم الكفاح الوطني من أجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة، ومن الثقافة القومية إلى الثقافة الوطنية، بما هي فضاء روحي مشترك بين جميع السوريين وحاضنة لتطور الثقافات واللغات العربية وغير العربية، بقدر انفتاحها على الثقافة الإنسانية ومنجزاتها الفكرية والفنية والعلمية والتقنية.

61 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *