داعش التي لن تموت


محمد صبرا

تأخذنا السياسة بعيدا عن الحقيقة، فنطلق أحكامنا على عجل ونرتاح لبناء منظومتنا استنادا لهذه الأحكام، “داعش” كانت اختبارا ليس لصدقيتنا فقط، بل ربما للنسق الفكري الذي يحكم نظرتنا لوجودنا ولتعريف شرطنا الإنساني، ظهرت “داعش” فكانت إجاباتنا محددة سلفا وناجزة، أعفتنا من كثير من الجهد المعرفي ومواجهة الذات، قلنا ببساطة إنها صنيعة أجهزة استخبارات واختلفنا على تحديد هذه الأجهزة، أمريكا، إيران، النظام السوري، العراق، تركيا، الغرب، اسرائيل، والقائمة تطول، البعض بذل جهدا استثنائيا وقال أنها حصيلة كل أولئك، البعض الآخر بذل جهدا معرفيا وقال: أنهاردة فعل على  العنف الوحشي الذي قامت به الأنظمة، لكن لا أحد يريد أو يرغب بالاعتراف أن داعش هي بنت فكرنا وهي موجودة منذ ظهور الإسلام كأحد القراءات المتعددة للنص المقدس سواء النص القرآني أو النص الحديثي، داعش ليست طارئة وليست استثنائية، بل هي موجودة على الدوام، تغيب فترات طويلة وتظهر بقوة في فترات أخرى، غيابها يرتبط دوما بفترات الاستقرار السياسي والرفاه الاقتصادي، وتظهر في فترات الاضطرابات السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية الكبرى، فداعش لا تموت، هي تعيش حية في الكتب التي نتداولها يوميا وتعيش في ضمير البعض، أيا كان تسميتها، ففي كل عصر وفي كل مناسبة تظهر باسم جديد لكنها هي نفسها منذ القدم، نفس المنظومة العقدية والفكرية، الأسماء ليست مهمة فالقاعدة الأصولية تقول ” العبرة بالمعاني وليست بالمباني “.
وداعش ليست حكراً على الإسلام فلكل دين أو أيديولوجية دواعشها، للمسيحية دواعش ولليهودية كذلك، حتى الأيديولوجيات البعيدة عن الدين لها دواعشها، كالشيوعية مثلا.
وعلى الدوام هناك قراءة متشنجة وأكثر راديكالية لأي نص سواء كان مقدسا أم غير ذلك، هذا حدث على مر العصور وفي كل الأديان، وهذه القراءة لا تموت أبدا، اليوم هناك قراءة داعشية لنصوص التوراة متمثلة بحركات متطرفة ربما آخر تجلياتها كانت حركة ” كاخ ” وهناك أيضا قراءة داعشية لنصوص العهد الجديد، وما تزال هذه القراءة تقدم بين الفينة والأخرى دواعش كما حدث في النرويج وفي السويد وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
ما يهم في هذا السياق أن القراءة الداعشية لأي نص تبقى دائما هامشية ومحصورة في بطون الكتب الصفراء التي لا تنزل عادة عن رفوف المكتبات إذا كان المجتمع يعيش حالة من حالات الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فقط عندما تضطرب الموازين تنزل هذه الكتب من الرفوف وتتمظهر بشكل حركي عنيف عبر أشخاص متشبعين بها، هذا حصل على مر التاريخ الذي أفرزت كل حقبة منه دواعشها، ففي صدر الإسلام مثلا ونتيجة للاضطراب السياسي الذي حدث بمقتل الخليفة الثالث ودخول الخليفة الرابع في حرب مفتوحة مع والي دمشق، ظهرت داعش تحت اسم ” الخوارج “، لكنها لم تمت عند نهاية العصر الأموي، رغم كل ما بذلته الدولة الأموية من محاولات للقضاء عليها، لسبب بسيط أن القضاء على داعش لا يمكن أن يكون بالحرب فقط، بل ربما إذا كانت وسيلة القضاء هي الحرب فإن هذا سيعطي داعش مبررات وجودها لأنها تعيش بالحرب وعبر الحرب.
القضاء على داعش يأتي بخلق مجتمع مستقر، تسوده العدالة الاجتماعية وينعم بحد أدنى من الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي، ساعتها فقط ستنسحب داعش إلى مكانها الطبيعي إلى رفوف المكتبات العتيقة.
إن الحديث عن القضاء على داعش بالحرب فقط هو أكثر من وهم وخداع للذات، يستفيد منه السياسيين وتموت فيه الشعوب دون جدوى أو أمل بالخلاص الحقيقي.
كيف يمكن القضاء على داعش في العراق من دون تفكيك البنية الطائفية البغيضة للنظام العراقي، كيف يمكن قتل الشبيه وشبيهه الآخر حيا يمارس كل عنفه وغقصائه الطائفي الذي لا بد سيواجهه إقصاء آخر من جنسه ولكن باتجاه مختلف.
كيف يمكن القضاء على داعش في سورية دون القضاء على الفكر الأسدي الذي مارس القتل والإقصاء والتمييز استنادا لنفس الأسس التي اتبعتها داعش ومن منظور ديني مختلف، هل يمكن التمييز بين خطاب ” سهيل الحسن ” و” أبو محمد العدناني ” ؟؟!! بالطبع لا ، فكلاهما ينطلق من نفس الأسس ونفس المنهجية التي تسقط إنسانية الإنسان الآخر لمجرد اختلافه بالدين أو المذهب.
إن مجرد الحديث عن إمكانية بقاء نظام الأسد ولو دون بشار هو يعني بالضرورة بقاء داعش ولو استطعنا القضاء على البغدادي وكل قيادته، فلا الأسدية ولا الداعشية يمكن اختزالها بالمجموعة الموجودة اليوم، هي منهج تفكير ونسق سلوك لا يمكن تغييره إلا بتغيير شامل لجملة الظروف والمعطيات المنتجة لكلا الخطابين، وهذا التغيير الشامل لن يكون إلا بتبني قيم الحرية والكرامة الإنسانية التي لا تميز بين البشر على أساس الدين أو العرق أو الجنس.
إن المأساة السورية المستمرة لن تنتهي إلا إذا اقتنعنا جميعا أن الثورة السورية ليست ثورة لتغيير نظام حكم بنظام آخر، وليست ثورة لتبديل مذهب الحاكم إلى مذهب آخر ، إنها ثورة من أجل كرامة الإنسان ومن أجل حرية الإنسان، هي ثورة كل السوريين حتى الذين وقفوا ضدها، حتى الذين قاتلوها، ستبقى ثورة الجميع لأنها تهدف لتحرير الجميع، تهدف لتحرير الأسدي من لوثة الوحشية المزروعة فيه، وتهدف لتحرير الداعشي من جنون الوهم بالسيطرة على العالم وحركة التاريخ بالسيف، وتهدف لتحريرنا من الخوف الكامن فينا، لتحريرنا من ثقافة الكهف التي ما زالت تفرض نفسها علينا عند كل منعطف.
سورية التي لا مكان فيها للأسديين ولا الدواعش هي سورية دولة كل المواطنين دون تمييز، هي سورية دولة العربي والكردي والتركماني والآشوري والشركسي والأرمني، هي دولة المسلم والمسيحي، هي دولة السني والعلوي والشيعي والدرزي والاسماعيلي والمرشدي والإيزيدي، هي دولة كل السوريين الذين يجب أن يعلموا أن قيم المواطنة هي فقط التي تساوي بينهم، وأن الهوية الوطنية السورية الجامعة هي فقط من يحمي حقوقهم ويصون تفتحهم الإنساني بكرامة وإباء.

 

المصدر: أورينت نت

28 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *