قصي الهويدي

جنيف 3.. أمريكا وروسيا والاتفاق المستحيل


قصي الهويدي     

 

 

تتباين التقارير التي ترصد الوضع السوري، إلى حد التناقض أحياناً، تبعاً للأهواء السياسية والانتماء الأيديولوجي للجهة التي ترصد، وكذلك لحالة (المعركة) الراهنة، التي يتم رصدها، لكنها على العموم، تقر بحقيقة الحرب القائمة، دون اختلاف كبير: أن أكثر من ثلاثة أرباع سوريا خارجة عن سيطرة النظام، وأن الربع المتبقي تحت تلك السيطرة، هو –عملياً- خارج (النظام) كمفهوم عام للكلمة. وقد لا نختلف على عدم قدرة أي طرف من الأطرف المتصارعة، على إحكام سيطرته الكاملة على كل سوريا، لذا يجب الإنتباه إلى أن هذا التوصيف ينطبق على كل القوى المتصارعة على الأرض، وليس فقط على النظام؛ أي أنه ليس هناك من طرف قادر على فرض سيطرته على حيّز جغرافي متصل، يمثل نسبة مئوية حاسمة راهناً، ويمكن أن تكون نواة لحسم الصراع على الجزء الخارج عن سيطرته لاحقاً.

 

هنا يصبح التساؤل مشروعاً: “ماذا يعني “وقف العنف” بالنسبة للقوى المتصارعة، وللقوية منها على وجه الخصوص؟ وهل هو لصالحها؟ ولصالح من يكون وقف العنف، أو من هي الجهة صاحبة المصلحة الحقيقية في وقف العنف؟ وبالتالي ماذا يعني وقف العنف بالنسبة للجهة صاحبة المصلحة تلك؟

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، لابد من إعادة ترتيب المشهد، بما يتيح لنا إمكانية الإجابة بشكل أكثر دقة. يمكن أن نعتمد التصنيف/النسق، الذي جرت عليه العادة، والذي يختزل المشهد أو الحدث السوري إلى:”ثورة – نظام”،  وبالتالي إلى “مؤيدي الثورة – مؤيدي النظام”. وهو تصنيف لن يقدم لنا شيءً جديد، إذ أنه استنفد كامل طاقته، خلال السنوات الماضية، إضافةً إلى طابعه الأيديولوجي الحاد. أو يمكن، اعتماد النسق الآخر، والذي يتعامل مع الحدث السوري، على أنه صراع متعدد المستويات والقوى، والتي يمكن إجمالها فيقوى محلية – قوى إقليمية – قوى دولية

ولكنه في هذه الحالة، يلغي مفهوم الثورة بشكل شبه كامل، ورغم حياده الآيديولوجي؛ إلا أنه قاصر عن تغطية كامل خارطة الصراع.كذلك يمكن الدمج بين النسقين السابقين، لينتج لدينا النسق “التوفيقي” التالي:

1-ثورة – مؤيدوا الثورة وأصدقاؤها (المحليين والإقلميين والدوليين).

2-نظام – مؤيدوا النظام وأصدقاؤه (المحليين والإقليميين والدوليين).

3-الحياد.

تكمن أهمية هذا النسق، في شموليته وقدرته على تغطية كامل خارطة الصراع، لكنه واقع تحت التأثيرات الآيديولوحية؛ وهنا يكمن مقتله. ورغم شموليته، إلا أنه يبتعد عن الدقة في التصنيف والتوصيف؛ حيث أنه صوّر الطرف الثالث (أي: الحياد) على أنه طرف “ذو فاعلية”، ولكنه هو من يعطلها بإرادته، أي أنه هو الذي اختار الحياد، وهذا ليس دقيق: إذ أنه -وعلى الأقل في قطاعه الأوسع- مغلوب على أمره، وربما لا يمتلك الوعي السياسي الكافي أو غير الناضج، كما أنه يضم أصحاب الوعي السياسي الكافي والناضج، لكنهم مغيبون، إما قسراً أو طوعاً، وليس لهم فاعلية أو أثر، إنهم بكل بساطة: “مهمشون”، وهم يشكلون الغالبية العددية الساحقة.

إذاً، كيف يمكن لنا أن نضع نسقاً بديلاً، يستفيد من الأنساق السابقة، ويتلافى عيوبها؟

يمكن الاستفادة من حيادية النسق الثاني، دون الالتزام بمحتواه، كما يمكن الاستفادة من شمولية النسق الثالث، في تغطيته لخارطة الصراع،بعد تخليصه من الطابع الآيديولوجي، وبعد تصويب حده الثالث (أي: الحياد)، حيث يمكن الخلوص إلى نسق ثنائي الحد –مبدئياً- بدمج الحدين: الأول والثاني (أي: ثورة-نظام)، في حدٍ واحد، ليصبح:

-القوى المتصارعة:

وهو يشمل كل القوى الفاعلة (العسكرية والسياسية) والداعمين والمؤيدين لها.

أما الحد الثاني، فيكون من هم غير ذلك، ويمكن تسميتهم بـ:

-المهمشين.

لنحاول الإجابة عن التساؤلات السابقة، من خلال هذا النسق المقترح.

إذا رصدنا ماذا يعني: وقف العنف، بالنسبة لإحدى القوى المتصارعة، ولتكن: روسيا-النظام، على سبيل المثال، سنجد في ضوء ما تقدم، أن هذا يعني: تجميد عملياتهما العسكرية، وقسر تواجدهما على أقل من ربع مساحة سوريا، ومنعهما من أي عمل عسكري خارج الجغرافيا الواقعة تحت سيطرتهما. لكن روسيا لا تمتلك تلك الجغرافيا المحدودة وحسب، إنها تمتلك ما هو أهم بكثير: النفوذ الكبير في “الدولة العميقة” السورية؛ الذي يصل إلى شبه الكامل في الحرب، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية/العميقة بينها وبين المعارضة وحلفائها، (أمريكا على وجه الخصوص)، فروسيا بعد أن فشلت في إنجاز تغيير حقيقي على الأرض، من خلال تدخلها العسكري المباشر، سعت جاهدةً إلى إنشاء تحالف دولي تحت قيادتها، ينجز ما عجزت عنه منفردةً، وفشلت أيضاً في ذلك، الأمر الذي أدى إلى رفع تكلفة هذه المغامرة العسكرية –غير المحسوبة- إلى الحد الذي يدفعها دفعاً للبحث عن مخرج مشرف من الأزمة؛ وهنا يكمن اللبس، إذ أن روسيا تسعى للحفاظ على الدولة العميقة في سوريا، وإعادة إنتاجها، وهذا لايمكن إنجازه على أقل من ربع مساحة الدولة دون السماح لها باستمرار عملياتها العسكرية ضد جميع معارضي النظام: المحليين والإقليميين و الدوليين، وبشكل شرعي، هنا تبدوا مسألة الحرب على الإرهاب، مناسبة للاستثمار ومحاولة الاستفادة منها إلى أقصى حد ممكن، وكانت أولى المحاولات من خلال إعطاء الحرب على الإرهاب الأولوية على التسوية السياسية؛ وفشلت في فرض ذلك على أمريكا، ثم تلتها محاولة توسيع قائمة “المنظمات الإرهابية” لتشمل فصائل عسكرية تقبل بالحل السياسي: كأحرار الشام وجيش الإسلام، وفشلت أيضاً في فرض ذلك على الولايات المتحدة. هنا يكون المأزق الروسي المتعدد المستويات، قد بلغ ذروته: استنزاف الزمن المفتوح؛ العجز عن تحقيق شيء ذو أثر بشكل منفرد أو بقيادتها؛ فرض رؤيتها للإرهاب على العالم. لم يبق أمامها إلا الرضوخ والتنازل عن كل مكتسباتها واستثماراتها في “الدولة السورية/النظام”، أو الغرق في استنزاف الزمن المفتوح.

ما عجزت عن تحقيقه بنفسها، يجب على الولايات المتحدة والتحالف الدولي إنجازه لروسيا، وتقديمه لها على طبق من الذهب، دون أي مقابل أو جهد، حتى لو تعارض مع مصالحهم الاستراتيجية!

ما قيل قبلاً، ينطبق على جميع القوى المتصارعة القوية وصاحبة الطموح في الحلول بديلاً عن النظام، وبأشكال متفاوتة بالدرجة وليس بالنوع. إنه مأزق الجميع.

 

بداهةً، لا يبقى أمام المأزومين، والعاجزين عن تجاوز أزمتهم، وكذلك عن التنازل عن مكتسباتهم، إلا التلويح بـ: “التقسيم”.

 

يبقى “المهمشون” –الذين هم الأغلبية العددية الساحقة- ضحية هذا الصراع “العبثي”، وبالتالي: هم أصحاب المصلحة الحقيقية، في وقف العنف، ومنع تقسيم البلاد، والبدء في إعادة إعمار “دولة الجميع”: الدولة التشاركية.

 

نكون بذلك قد رصدنا الواقع، ورصدنا التوقعات/الممكنات، والمآلات، وكذلك المكتسبات، أي:

  • الواقع: القوى المتصارعة والمهمشين.
  • الممكنات: استمرار العنف العبثي، ألى أن ينهك الجميع.
  • المآلات: مزيد من النزيف والدمار، وصولاً إلى احتمال التقسيم.
  • أما المكتسبات من التسوية، فهي:

-وقف حمام الدماء؛ إعادة الأمن والحياة الآمنة؛ منع التقسيم؛ البدء ببناء البديل الحقيقي: “الدولة الحديثة التشاركية”.

 

خاص حزب الجمهورية

272 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *