غبار التطرف لن يغطي الحقيقة


محمد صبرا

 

” إني أراك كسائح في القفر ضلّ عن الطريق

يرجو صديقا في الفلاة ، وأين في القفر الصديق

يهوى البروق وضوءها ويخاف تخدعه البروق

بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام

لا يستطيع الانتصار

ولا يطيق الانكسار ”

ربما كان هذا المقطع الجميل من قصيدة إيليا أبو ماضي ” المساء ” يشكل تكثيفا رمزياً لما تعيشه شعوب الربيع العربي بعد خمس سنوات من حراكها وتضحياتها ، لقد اختلط المشهد كثيرا على المتعجلين بقطف ثمار الثورات ، وبات البعض يتساءل هل ما قمنا به هو الصواب ، لقد أفرز الربيع العربي حالة غير مسبوقة من انفلات التطرف الكامن في بطون الكتب القديمة وخروجه هذه المرة ليمارس كل مقولاته الفظيعة على الأرض ، هذه الحالة التي أربكت ثورات الشعوب وجعلتها تظهر وبشكل خادع وكأنها حركة ارتدادية للخلف ، إنه المأزق الكبير بين عدم القدرة على الانتصار الكلي وفق أهداف الثورات وبين عدم إمكانية الهزيمة أيضا ، ولذلك يبدو المشهد شديد القتامة لمن ينظر لظاهر الأمور دون استبصار جوهرها الحقيقي .

لقد قامت الثورات ضد نظم سلطانية حاكمية تجذرت في قعر المجتمعات العربية وصاغت بنيتها الأساسية من خلال عملية تلفيق كبرى تشي بأن هذه السلطات حداثوية تسعى لتمثّل قيم العصر وتنبذ العلاقات التقليدية ،لكن الحقيقة أن هذه السلطات أكثر تمثلا لقيم الحكم القروسطي المملوكي وإن قامت بعملية تحديث لوسائل قمعها وسيطرتها على حركة المجتمع .

فالمجتمعات التي شهدت ثورات الربيع العربي ما زالت تعيش المرحلة المملوكية بكل تجليّاتها وبناها الإدارية والسلطوية الحاكمة ، لقد جاء المماليك باعتبارهم مجاميع عسكرية محاربة هدفها القتال وحماية الحدود ، لكن هذه المجاميع وجدت أنها قادرة على الحكم واستثمار خيرات المجتمعات لصالحها الخاص ، وهنا تحالفت مع القوى المجتمعية التقليدية وأنتجت ما يقارب ألف عام من نمط الحكم المملوكي الذي يدعي الجميع أنه انتهى منذ الاحتلال العثماني للعالم العربي .

إن تحليل بنية السلطات الحاكمة في دول الربيع العربي يدل وبشكل قاطع أن هذه السلطات العسكرية لا تشبه أي نمط حكم سوى الحكم المملوكي بكل أدواته ووسائل تدخله وحتى علاقاته البينية المتمثلة بتحالفات مافيوزية ناهبة لخيرات المجتمع والقائمة على توازنات القوة الخفية التي لا يعرف بالضبط من يمسكها .

لقد رفعت هذه السلطات جميعا في بداية حكمها شعار تصفية آثار الاستعمار الكولونيالي للشرق والتصدي لأطماع الامبريالية الغربية ، وهي في هذا السياق حافظت على البنية المجتمعية والفكرية المنتجة للتأخر من خلال شعارها رفض التغريب والحفاظ على الأصالة ، أو كما عبر عن ذلك المرحوم ياسين الحافظ في كتابه الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة حيث قال : ” تحت شعار أن الاستعمار هو وحده مصدر البلايا والفساد والتأخر ، أُعيد الاعتبار للمجتمع العربي التقليدي ماقبل الكولونيالي ، وكرست مجددا قيمه وعاداته ، ومُثلنت ( أي رفعت إلى مرتبة مثل أعلى ) تصوراته ومفاهيمه ، متجاهلين وجاهلين في آن أكثر من ألف عام من تاريخنا المملوكي والعثماني ، والتي رزح تحت وطئها شعبنا ، من هنا انبثق شعار العودة إلى الأصالة ، الذي جاء نقضا ونفيا للنزاعات الرامية إلى تبني وتمثل المناهج والقيم التي صاغت العصر الحديث ، فحولت عملية التقدم إلى سيرورة نحو الماضي ، ودعي الشعب العربي إلى اقتحام المستقبل وعيونه شاخصة إلى وراء ” .

إن عملية التخيير التي تجري الآن في خضم الربيع العربي بين نظم الحكم الاستبدادية وبين نظم حكم إسلاموية ماضوية هي عملية تخيير زائفة ومضللة ، فلا فارق في الجوهر بين هذه النظم وبين ما يتم إخافة المجتمعات العربية منه .

وفي حالتنا السورية تتم عملية التخيير هذه بشكل فاقع وحاد من خلال ترك داعش تنفذ مشروعها السلطوي في جزء من الوطن ، وكأننا أمام نظامين مختلفين واحد ينتمي للماضي هو ” داعش ” والآخر ينتمي للحاضر هو ” بشار ” .

هذا التخيير وقع البعض فيه و بدؤوا يترددون في خياراتهم الثورية ،  بل ويهولون من نتائج سقوط النظام والتي تعني برأيهم أن نموذج داعش وشبيهاتها هو الذي سيسود .

إن تحليل البنية الأساسية القائم عليها مشروعي داعش وبشار للسلطة يدل على أن الفارق بين المشروعين ليس جوهريا كما نظن بل هو في الشكل الخارجي فقط .

كلا المشروعين يسحقان الإنسان ويلغيان أي وجود حقوقي او معنوي له ، كلا المشروعين مارسا القتل للمخالفين في الرأي ،كلا المشروعين لا يقبلان الاحتكام لإرادة الشعب ، وكلا المشروعين ينظران لنفسيهما باعتبارهما يملكان الحقيقة المطلقة ،  يجب أن لا ننسى أن نظام بشار قتل إثني عشر ألفا من المعتقلين في السجون بتعذيب وحشي يمكن لنا أن نتخيل حجمه وإن لم يتم تصويره وبثه على اليوتيوب كما تفعل داعش في جرائمها .

إن جرائم داعش وشبيهاتها يجب أن لا تجعلنا نتوه في مفاضلة غير صحيحة بينها وبين نظام حكم في جوهره داعشي أكثر من داعش نفسها .

إن الثورة في حقيقتها كفعل اجتماعي هي ثورة ضد المفاهيم والقيم المملوكية التي ما زلنا نعيش فيها ، وبها ، وبهذا المعنى فإن الثورة ضد نظام بشار تعني بالضرورة الثورة ضد كل ما هو موروث من قيم الحكم السلطانية ، تعني تبني قيم الدولة الحديثة بكل ما تتضمنه من منظومات قانونية حامية للحقوق وميسّرة لتجليها الواقعي ، وتعني أيضا تبني منظومة العقلانية بكل ما أفرزته من نتائج على مستوى العلوم والمعارف والاجتماع السياسي .

إننا نشهد اليوم حالة تكامل طبيعية بين تطرف أسود واستبداد مجرم ، وبعيدا عن نظرية المؤامرة وأن الذي خلق التطرف هو الاستبداد ، فإن التكامل بين المشروعين المتطرف والاستبدادي ينبثق من أن كلا المشروعين ينبعان من نفس الجذر الثقافي والفكري وينهلان من نفس الأسس المتمثلة بقيم الحكم المملوكي واساليب إدارته للاجتماع السياسي للمجتمعات العربية .

إن هذه التكاملية بين المشروعين والتي تبرز في المنافسة بينهما على السيطرة على المجتمعات تثبت أننا ما زلنا بحاجة لتقعيد الثورة وفق ما طالب به المواطنون وليس وفق ما نظّرت له النخب السياسية والفكرية التي تنتمي إلى عقلية الحكم المملوكي وإن تغيّرت أزياؤها وشعاراتها وألوان الريات التي تحملها .

فلا يوجد فارق بين مثقف أو سياسي يساري يحمل علما أحمر وبين مثقف أو سياسي إسلامي يحمل علما أسود ، فكلاهما لا يؤمنان بحق المواطنين بالسيادة على قرار حياتهما وكلاهما يسندان فعل التفكير نفسه لمنظومة غيبية متعالية عن الناس ، في الحالة الدينية يتم إسناد منظومة القيم والتفكير إلى السلف الصالح ، وفي الحالة اليسارية يتم إسنادها أيضا إلى الأيديولوجيا الصالحة التي أنتجها الآباء الصالحون ايضا .

كلا المشروعين يلغيان فكرة الدولة القائمة على المواضعة الاجتماعية في إنتاج سلطة تحظى بالمشروعية من خلال آليات انتخابها ومن خلال غاية وجودها وهدفه  وأدوات ممارستها ، كما أن كلا المشروعين يرفضان التعيين الواقعي لمنظومة الحقوق الفردية التي يجب أن يستند إليها بناء السلطة بحيث تكون السلطة سلطة الفرد وليست سلطة على الفرد .

إن الثورة في سورية هي نقيض المرحلة المملوكية أيا كان اسم الحاكم وشعاره الذي يرفعه ، هي ثورة ضد أبو ” حافظ الأسدي ”  مثلما هي ثورة ضد أبو  ” بكر البغدادي ” ، وهي ثورة ضد إلغاء صوت الناس باسم المقدس كما هي ثورة ضد إلغاء صوت الناس باسم الأمة أو المقاومة أو الوطن .

إن الثورة في سورية هي ثورة لإنتاج الدولة الوطنية القائمة على المواطن الفرد والتي تفقد صفتها في حال بقي مواطن واحد خارج السياق العام المجرد لبنية السلطة .

وبالتالي فإن التخيير بين نظامي الاستبداد السياسي أو الديني هو تخيير بين ألوان الرايات وشكل الأزياء فقط ،وليس تخييرا بين منظومتي حكم ، ثورتنا ضد العصر المملوكي وهي فرصتنا الوحيدة للخروج من الأمس إلى الراهن اليومي وفق قيم العصر الذي نعيش فيه  من دون أن نعيشه .

 

110 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *