عزام

سورية بين المظلومية العلوية والمظلومية السنية


عزام أمين

 

 

في مواجهة ثورة الشعب السوري استطاع النظام الحاكم في دمشق تطبيق استراتيجية التطييف وحقق عن طريقها، للأسف، الأهداف التي سعى إليها. فقد حصلت الاصطفافات الطائفية المطلوبة وتماهى جزء كبير من الأقليات مع سلطته الاستبدادية وعَلت أصوات المتطرفين من جميع الجهات وطغت لغة الغريزة على لغة العقل. وهكذا استطاع الأسد تحويل ثورة الشعب السوري على نظامه الشمولي الاستبدادي إلى حرب أهلية وإقليمية. بالطبع تتحمل قِوى المعارضة من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها جزءاً من المسؤولية.

تماهي بعض أبناء الأقليات (وخصوصاً الطائفة العلوية) مع سلطة الاستبداد، له أسبابه المعقدة البعيدة والقريبة وتعود، في جزء منها، إلى بنية النظام وتركيبته من جهة وإلى الدور الذي يلعبه الشعور بالانتماء إلى هذه الأقليات والشعور بالمظلومية من جهة أخرى.

تُتعتبر المظلومية و”لبس ثوب الضحية” استراتيجية هوياتية يلجأ إليها معظم أفراد الجماعات المتقاتلة في النزاعات والحروب الأهلية ولهذه الاستراتيجية عدة أهداف:

أولاً، الدفاع عن النفس.

ثانياً، تبرير السلوك الاجرامي الانتقامي الذي تقوم به الجماعات المقاتلة على الأرض.

ثالثاً، المطالبة بتعويضات وحقوق سياسية.

رابعاً، عدم الاعتراف بالمسؤولية لما وصلت إليه الحالة من فوضى وإجرام.

خامساً وأخيراً، وهو الأهم، عدم الاعتراف بالآخر الذي يُلبس “ثوب الجلاد”.

 

المظلومية العلوية: الذاكرة الجمعية وعودة المكبوت “المظلومية التاريخية”

في كتابه “الشائعة والجريمة” يقول ميشيل روكيت (1992): الأزمات الاجتماعية لا تأتي بشيء جديد ولا تخلق شيئاً جديداً وإنما تنقل ما هو موجود في اللاشعور إلى ساحة الشعور، من مرحلة الثبات إلى مرحلة النشاط. وهذا ما حصل، نوعاً ما، في سورية مع الأقليات بشكل عام ومع الطائفة العلوية بشكل خاص، حيث عادت انقساماتها العصبوية العامودية، لتطفو إلى السطح كهوية طائفية من خلال العودة إلى مخزون “الذاكرة الجمعية” بوصفه ذخيرة فعّالة.

هذه الذاكرة الجمعية المحكومةً بانتماء الفرد الاجتماعي، حيث تتماهى الهويات الفردية بهوية الجماعة، مما يجعل ذكرياتهم الفردية وتصوراتهم عن الماضي ذات طابع مرجعي-جمعي، حسب تعريف موريس هالبوكس (1950)، لها عدة وظائف، أهمها الحفاظ على هوية الجماعة وحشد أفرادها للدفاع عنها بحيث يبقى الفرد في حالة استعداد وتأهب. كما ولها أيضاً وظيفة تبريرية هدفها شرح سلوك ومواقف أفراد الجماعة.

كثيراَ ما برر أبناء الطائفة العلوية مواقفهم المؤيدة للأسد والمعادية للثورة بالحديث عن الماضي حيث كانوا (من وجهة نظرهم هم)، مضطهدين أو مهمّشين من قبل الأكثرية السُنية: “كنا نعيش في الجبال ولا نجرؤ على النزول إلى المدينة“، “كنا نعمل خدم في البيوت“، لم يكن لنا أي قيمة في سوريا“، “كان أبناء المدن يتعاملون معنا بفوقية“… إلخ. وعاد الحديث عن العهد المملوكي والعهد العثماني والامتهان الذي تعرضوا له خلاله وطبعاً لن ننسى في هذا السياق فتوى ابن تيمية الشهيرة التي أصبحت على كل لسان.

غالباً ما يتم استحضار الماضي المكبوت في اللاشعور الجمعي وإعادة بنائه بطريقة انتقائية تتناسب مع الموقف السلبي من الثورة في الأوساط الاجتماعية الضيقة (العائلة، الأصدقاء، المقربين… إلخ) عن طريق الحوارات والنقاشات وتناقل الأخبار والشائعات والأساطير التي تحتفل بها السرديات الأقلويّة. ولكن ابتداءاً من نهاية 2012 حيث اشتد الصراع المسلح بدأ هذا “الاجترار النفسي للماضي” بالظهور إلى العلن عن طريق صفحات التواصل الاجتماعي المؤيدة للنظام.

هذه “المظلومية التاريخية” والشعور القوي بالخوف من الإبادة والانتقام،  (انتقام منهم لأن قسما لابأس به من العلويين لديه شعور أن في رقبته ثأراً دموياً بسبب مجزرة حماه الشهيرة في شباط من العام 1982 وفي حال سقط نظام الأسد فإنه سيتم الانتقام منهم. راجع كتاب “استراتيجية سلطة الاستبداد في مواجهة الثورة السورية”، مجموعة من الباحثين، إعداد وتقديم يوسف فخر الدين (باريس، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية،2014) بالإضافة إلى جهل العامة وبعض الجرائم الطائفية التي ارتُكبت باسم الثورة وإن كان مشكوك بها (كحادثة نضال الجنّود في بانياس بتاريخ 11 نيسان 2011، شعار المسيحية عبيروت والعلوية عالتابوت…) استغلتها الأجهزة الأمنية بطريقة أصبح فيها بشار الأسد “مُخلّصا إلهياً” بالنسبة إلى الطائفة العلوية. وهذا ما يمكن أن يفسر لنا مثلاً السجود لصورته كقديس يُحيي ويميت، أو ما يراه البعض استماتة الكثيرين منهم وحتى المعدمين في الدفاع عنه وتقديم أولادهم بسخاء قرباناً له ولبقائه، وكذلك فهم الظواهر العنفيّة الغريبة التي برزت خلال الثورة السورية (امتهان المقدسات وتدميرها – حفلات التعذيب اللاآدمية – ذبح الأطفال بالسكاكين… إلخ) وسط ضحكات هستيرية، وهتافات إيمانية تنادي الحسين وعلي.

  • من المظلومية التاريخية إلى المظلومية السنيّة

في وجه وتيرة العنف المفرط الذي استخدمه نظام الأسد ضد المناطق الحاضنة للثورة وإضفاء طابع طائفي مقصودٍ، وتماهي الأقليات مع سلطته الاستبدادية، أو في أغلب الأحيان انغلاقها على نفسها وعدم رغبتها في المشاركة في الثورة، وتغاضي المجتمع الدولي عن جرائمه وعدم تدخله لحماية المدنيين من بطشه، تصاعد منذ بداية 2012 خطاب سُني طائفي مضاد يعتمد في جوهره على ما يمكن أن نسميه “مظلومية سنية”. هذه المظلومية المتمثلة بلبس ثوب الضحية ليست وليدة الثورة السورية فقد كان يتم الحديث عنها في الأوساط السُنية، ولو بشكل ضيّق وسري نوعاً ما، منذ أن بدأ نظام الأسد الأب في عام 1970 مشروعه في “عَلوَنة” الدولة والسيطرة على المفاصل الأساسية فيها، خاصةً المؤسستين العسكرية والأمنية، وتهميش الأغلبية السُنية سياسياً فقط، حيث بقيت السيطرة الاقتصادية بيد الطبقات البرجوازية في المدن، والتي كان غالبيتها من السُنة والمسيحيين.

في الأشهر الأولى للثورة، تأثُّرت بعض الأوساط الشبابية المعارضة بأفكار الشيخ السلفي عدنان العرعور وخطاباته الانفعالية المليئة بالإيحاءات الطائفية عبر قناة “صفا” وساعد ذلك في خروج هذه المظلومية إلى العلن وفي تبلور الخطاب الطائفي السني، ومع ذلك بقي هذا الخطاب خجولاً ومحصوراً في أوساط شعبية معينة، ولم يكن له صدىً في الشارع الثائر حينذاك كما هو عليه الحال الآن. الأمر الذي زاد من حدّة اتساع الخطاب السني الطائفي، وأعطاه مبرراته دخول التنظيمات الدينية الشيعية مثل حزب الله اللبناني ومقاتلين شيعة من العراق على خط المواجهة بشكل علني تحت مُسمى لواء “أبو الفضل العباس” وبإدارة إيرانية لحسم المعركة لصالح نظام الأسد.

إذا كان الخطاب الطائفي الأقلوي في جوهره يعتمد على “مظلومية تاريخية” كامنة في اللاشعور الجمعي وخوف مرضي يصل حد “الفوبيا” من السلفية التكفيرية التي هي حكرٌ على الأغلبية المسلمة السنية، كما يُشيعه نظام الأسد ومثقفوه، فإن الخطاب الطائفي السُني يرتكز في الوعي الشعبي على مشاعر غضب وإحساس بالظلم وردة فعل انتقامية على قمع وبطش النظام في المناطق الحاضنة للثورة.

غالباً ما يتم تفسير الظلم الكبير الذي نال هذه المناطق بعقدة الاضطهاد والتآمر: “الجميع يشارك في قتلنا، الجميع لا يريدنا، الدم السني رخيص ووحدهم أبناء السنة من يموتون، عندما يموت أحد من أبناء الأقليات الجميع يستنكر ويندد أما عندما يموت السُنة فلا أحد يهتم، لا أحد يساندنا… إلخ“.

يقع أصحاب خطاب المظلومية بشكل عام سواء كانت مظلومية علوية أو كوردية أو سُنية ضحية آلية نفسية معروفة باسم “التحيّز التوكيدي”. و تتمثل هذه الآليّة في رؤية وتفضيل الأدلة التي تؤكد صحة اعتقاد أصحابها وعدم القدرة على إدراك المعلومات التي لا تتوافق معها. فمثلاً أصحاب المظلومية السنية لا يرون أو لا يريدون أن يروا الآلاف من المعارضين وآلاف المعتقلين وعشرات الشهداء تحت التعذيب من أبناء الأقليات. ويرفضون الاعتراف بأن ظاهرة “التشبيح” لا تقتصر فقط على العلويين وأبناء الأقليات الأخرى وإنما تشمل أيضاً شريحة واسعة من أبناء الطائفة السُنية.

أما أصحاب المظلومية الكوردية فلا يرون أو لا يريدون أن يروا، الظلم الذي حل على أبناء وطنهم العرب والآشوريين وغالبا ما يقدمون أنفسهم على أنهم الوحيدين الذين عانوا من الظلم وأنه لم يتضامن معهم ومع قضيتهم أحد، وبذلك ينكرون وجود الألاف من أبناء وطنهم العرب الذين كتبوا وتضامنوا مع قضيتهم. والأمر نفسه ينسحب على أصحاب المظلومية العلوية، فهم لم يروا أو لا يريدون أن يروا مئات الشعارات التي تندد بالطائفية وتؤكد على الوحدة الوطنية، والتي رفعها ورددها المتظاهرون في شوارع حماه وحمص وســـليمة ودمشق وريف دمشق وبانياس ودرعا وإدلب وحلب ودير الزور وغيرها من المدن السورية.

لا خلاص لسوريا ولا تطور اجتماعي نهضوي سيتحقق فيها من دون تخلّص الأقليات من شعورهم الأقلوي والانطلاق نحو المواطنة باعتبارهم أيضاً حاملين لمشروع التغيير. فلا يمكن لأقليات منغلقة على أوهامها ومخاوفها ومظلوميتها أن تكوّن داعمةً لمشروع وطني. ولا يمكن لها مهما كانت درجة وعيها عالية أن تضع انتماءها الطائفي خلف الوطني، ومن الصعب على من يشعر أنه أقلية طائفية أن يتحرر أو يحيد -على الأقل- من المنظور الأقلوي في إنتاجه الفكري والثقافي والسياسي عن انحيازه الطائفي.

 

وبالمقابل أيضاً، لا خلاص لسوريا إلا بتخلص الأكثرية من الخطاب الطائفي السني ومن شعور أصحابه بالغبن والظلم والابتعاد عن تقسيم المجتمع السوري ل “نحن” الأكثرية السُنية و “هم” الأقلية، فهذه “النحن” تكون في كثير من الأحيان عبارة عن وهم لا أسس واقعية له.

 

 

 

549 مشاهدة
1 عدد الردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *