kolonasoryoun

حوار مع حازم نهار


جريدة «كلنا سوريون» - آذار 2014

الجزء الأول من الحوار

حازم نهار، طبيب وباحث في الفكر السياسي وحقوق الإنسان، أخصائي في الطب الفيزيائي والتأهيل، وربما في السياسة السورية، حاول أن يختص بما يشبه إعادة التأهيل… ساهم بجدية في بدايات الثورة، في تشكيل أجسام سياسية للمعارضة السورية، لكنه سرعان ما انسحب منها واتخذ موقف المراقب، لكنه ما زال يعتبر أن الفعل السياسي هو الأهم والضروري.

يثير حازم نهار خلال مقالاته وكتبه الكثير من الإشكاليات، ويطرح العديد من التساؤلات، ويبدو أنه مصرٌ أن يكون مغرداً خارج السرب، بالإصرار على خطاب سياسي عقلاني جديد.

جريدة «كلنا سوريون» وعبر حوارها الطويل مع حازم نهار، حاولت أن تناقش معه كل القضايا،  من جنيف2 إلى الحل السياسي، إلى القوى السياسة والعسكرية، مرورا بالقضية الكردية والحكومة الانتقالية، وصولاً إلى ضرورة العمل السياسي الحزبي. ولأن الحوار كان عميقاً ومباشراً وداخلاً في التفاصيل جاء طويلاً، فارتأت هيئة التحرير أن ينشر على عددين.

س1 ـ البارحة كانت جلسة الختام للجولة الأولى من مفاوضات جنيف 2، وكنت أنت ذكرت سابقاً أنك: لست متفائلاً البتة أنه بالإمكان التوصل الى اتفاق سياسي في اللحظة الراهنة مع النظام السوري في ضوء المعطيات الواقعية، ولا يحلم أحد من أهل المعارضة والثورة أنه بالإمكان تحقيق أي إنجاز مهما كان بسيطاً، وذلك لأسباب عديدة…

دكتور حازم، هل لنا أن نعرف رأيك بما جرى في جنيف 2، وهل نستطيع التعرّف إلى هذه الأسباب التي منعتك من التفاؤل؟

 إن التعامل مع جنيف مسألة دقيقة وحيوية، وتحتاج إلى وعي وإدراك خمسة مفاهيم أساسية في العمل السياسي، وهي: الخطاب السياسي، الموقف السياسي، الرؤية السياسية، التحليل السياسي، الأداء السياسي، وأستطيع أن أبسط الأمر كما يلي:

فعلى مستوى الخطاب السياسي، أعتقد من المعيب أن يخرج شخص ما في الإعلام ويقول “أنا ضد الحل السياسي، أنا مع الحسم العسكري”، مهما كانت الظروف. أي ينبغي أن يستند الخطاب السياسي في أي لحظة ومهما كان الوضع القائم على مقولة “نحن مع الحل السياسي من حيث المبدأ، لكننا نريد تحديد ماهية هذا الحل” حتى يكون الخطاب السياسي متوافقاً ظاهرياً على الأقل مع الأخلاقيات المعروفة والحقوق والقانون الدولي.

أما الموقف السياسي، فثمة معايير عديدة تحكم أي موقف تجاه قضية ما، لكن على العموم يمكن القول أنه من غير الشائع في عالم السياسة الاختيار بين الموقف الصائب والموقف الخاطئ، فالمنطق والواقع يقولان أن الاختيار يكون في الغالب الأعم قائماً على البحث عن الموقف الأقل سوءاً. موقفي الشخصي مثلاً اليوم هو المشاركة في جنيف، مع نصيحة أن لا نضع بيضنا كله في جنيف، بمعنى آخر فإن جنيف محطة إجبارية ويفترض استغلالها إلى الحد الأقصى الممكن، مع إدراك أن حل المشكلة السورية لن يكون في جنيف هذه اللحظة، وبالتالي يفترض إلى جانب جنيف البحث عن مخارج أخرى وتعديل ميزان القوى الكلي والشامل، فإذا كان الجهد المطلوب من المعارضة والثورة مثلاً هو 100 فإن 5 بالمائة منه لجنيف والباقي خارجه.

أما الرؤية السياسية فهي الرؤية الاستراتيجية التي يفترض أن تكون البوصلة التي تحكم الموقف السياسي، ومن دونها يصبح أي موقف سياسي معلقاً في الهواء. هذه الرؤية السياسية هي التي تجعلنا لا نضع البيض كله في سلة أي موقف سياسي، بل إنها تتيح لنا أن تستخدم رهاناتنا وقدراتنا الأخرى في مستويات عديدة، وهذه بدورها تحسن من موقفنا السياسي.

أما التحليل السياسي، فإنه يعتمد على قراءة الواقع وموازين القوى من دون تدخل الرغبات والأماني، واستناداً لتحليلي للواقع فإنني لا آمل من جنيف الكثير في هذه اللحظة السياسية.

ثم يأتي الأداء السياسي، وهنا يفترض التفكير بكافة العناصر التي تجعلنا نستفيد من أي موقف سياسي حتى لو كنا نكرهه ومرغمين عليه، بمعنى ضرورة المحاولة لتحويل الموقف السياسي الذي نكرهه أو لا نأمل منه خيراً (كالذهاب إلى جنيف) إلى نصر ما باستخدام عناصر عديدة كالإعلام، التواصل مع الأمم المتحدة، ابتزاز الدول، تقديم كوادر سياسية وإعلامية حقيقية، استغلال فرص لحظية سانحة…. إلخ.

لنلاحظ هنا: كخطاب سياسي أقول أنا مع الحل السياسي، وكموقف سياسي أقول يفترض أن نشارك في جنيف، وكتحليل سياسي أقول أنا غير متفائل بجنيف، وكرؤية سياسية أقول يفترض البحث عن مخارج أخرى إلى جانب جنيف.

أما سر عدم تفاؤلي بمؤتمر جنيف فأسبابه كالتالي:

أولاً: أن النظام السوري بنية مغلقة لا تتوافق مع أي حل سياسي حقيقي، فهو يعمل استناداً إلى قانون “الكل أو لا شيء”، ولو كان منطق التفاوض والتسوية متوافراً لديه لما دخلت سورية أساساً في هذا النفق المظلم.

ثانياً: أن المعارضة وقوى الثورة ما زالت صفوفها مهلهلة، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، وهذه الحال لا يمكن أن تخلق الأمان والثقة لدى المجتمع الدولي لاتخاذ ما يلزم من قرارات صارمة ومؤثرة.

ثالثاً: أن الدول الداعمة للنظام السوري موحدة ومتماسكة (روسيا وإيران وحزب الله)، فيما الدول التي تعلن أنها داعمة للشعب السوري مهلهلة ومختلفة فيما بينها ومترددة، فضلاً عن وجود مصالح ومقايضات لم تنتهِ بعد بين المعسكرين الدوليين، خاصة ما يتعلق بالكيماوي السوري والنووي الإيراني، وربما تطرح مستقبلاً قضية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي ومسألة مكافحة الإرهاب من المنظور الدولي.

أما أداء وفد الائتلاف في الجولة الأولى من المفاوضات فقد كان مقبولاً نوعاً ما، على الرغم من أن المطلوب أكثر من ذلك بكثير، إن كان على مستوى توحيد الصفوف داخل الائتلاف نفسه أو على صعيد تحقيق التماسك بين القوى السياسية والعسكرية، أو حتى على المستوى الإعلامي، فهناك الكثير مما يجب ويمكن القيام به في إطار المعركة السياسية التي تدور رحاها في جنيف.

س2 ـ المعروف عنك أنك تبتعد عن الشخصنة في أغلب كتاباتك وتحليلاتك، ولم يسبق لك الحديث عن شخصيات المعارضة لا مدحاً ولا ذماً، لذا استغرب الكثيرون مديحك لخطاب السيد أحمد الجربا رئيس الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية في جلسة الختام من الجولة الأولى لجنيف 2.

 في العموم لا أكترث كثيراً بالأشخاص بل بالأفكار والسياسات، فجميعنا كأفراد إلى زوال، فضلاً عن أن الحكم النهائي على أدائنا جميعاً في المستقبل هم البشر الذين ما عاد من السهل خداعهم أو تضليلهم.

لا يعني مدحي لخطاب الجربا أنني أمتدح الجربا ذاته كفرد بل الأفكار التي وردت في خطابه، وقد تأتي لحظة سياسية أخرى أنتقد فيها موقفاً أو خطاباً ما للجربا أو غيره.

لقد أردت أن ألفت الانتباه فعلاً لما جاء في خطابه أولاً، كما رغبت أن أقدم رأيي في مميزات وعناصر الخطاب السياسي الذي أراه مفيداً للسوريين ولعيشهم المشترك ولبناء دولتهم المستقبلية، ويمكن أن يجد أذناً صاغية لدى المجتمع الدوليكونه جاء متوافقاً مع منطق السياسة الحديث والقانون الدولي.

كلمة الجربا جاءت في الحقيقة كقفزة غير معهودة في الخطاب السياسي الإعلامي للمعارضة السورية خلال السنوات الثلاث الماضية التي حشرت نفسها في لغة غريبة تقوم على الصراخ والشتم والشحادة والعواطف الجياشة والشعارات أو على لغة باهتة وباردة ينفع أن تصدر عن جمعية حقوق إنسان تعيش في سيبيريا أو سويسرا وليس في سورية. وهي بهذه المعاني كلمة مهمة تحتاج إلى سياسات وممارسات تتوافق معها وتبني عليها.

س3 ـ كلنا تابع وعرف أن أجساماً سياسية تعتبر نفسها ممثلاً عن السوريين، كهيئة التنسيق الوطنية، أو المجلس الوطني، أو جماعة الأخوان المسلمون، أو المنبر الديمقراطي، أعلنت مقاطعتها لجنيف 2، كيف يمكن أن تقرأ هذا الفعل سياسياً؟

 أعتقد أنه من أغبى المقولات السياسية التي ظهرت على السطح خلال الفترة الماضية هي مقولة “تمثيل الشعب السوري”، إذ فضلاً عما تشير إليه من عقل استبدادي، فإن هذه المقولة من السهل دحضها في أي لحظة، والسياسي الحصيف لا يضع نفسه في موضع بالإمكان مهاجمته وكسره بسهولة، إذ لا أحد يستطيع أن يبرهن حقيقة على الادعاء بتمثيل الشعب السوري من دون وجود حياة سياسية طبيعية بما تتضمنه من آليات ديمقراطية على رأسها الانتخابات الحرة والنزيهة.

كل طرف من هذه الأطراف المعارضة رفض جنيف لأسباب تخصه، فهي لا تشترك فيما بينها من حيث سبب الرفض، ويفترض بنا عدم الإنصات لتعليلات الرفض التي تأتي بصيغ عامة يمكن أن يستخدمها أي فرد أو شخص، على شاكلة التذرع بالمصلحة الوطنية وغيرها، فكل طرف –كما أظهرت التجربة-يفصِّل هذه المصلحة على مقاسه ومصالحه الضيقة أو بما يتناسب مع أوهامه عن الواقع السياسي وقناعاته الأيديولوجية.

على سبيل المثال، أعتقد أن الموقف السياسي لبعض هذه الأطراف كان سيتغير بالضرورة لو وصلتهم دعوة رسمية من الأمم المتحدة للمشاركة في مؤتمر جنيف، ووقتها كانوا سيذهبون تحت الذريعة ذاتها، أي المصلحة الوطنية.

العقل التبريري هو السائد، فكل موقف سياسي يتخذه أي طرف يمكن له ببساطة أن ينسج حول هذا الموقف جملة من المبررات ذات الصلة بالمصلحة الوطنية كما يفهمها أو يدعيها.

بعض الأطراف رفضت المشاركة ظناً منها أنها قد تخسر تأييد الشارع الشعبي، على الرغم من أنها –باعتقادي- قد خسرته منذ زمن بعيد، وبعضها ينظر بشكل طفولي إلى مؤتمر جنيف ويظن أنه نهاية المطاف وبالتالي يتضمن تصفية من نوع ما للثورة السورية وأهدافها، وهذا باعتقادي وهم وقراءة خاطئة، فلا أحد يمنعك من المشاركة في المؤتمر والاستمرار بما تراه مناسباً من سياسات وممارسات أخرى على أرض الواقع.

س4 ـ من يتابع قراءة مقالاتك في الصحف المتعددة أو آراءك المنشورة على صفحتك في الفيس بوك منذ أكثر من سنتين، يجدك تدعو للبحث عن حل سياسي، والتعامل مع الحالة السورية تعاملاً سياسياً.. لماذا برأيك بقي هذا الطرح يتيماً ولم يُفلح في تشكيل رأي عام قوي حوله؟

 منذ البداية تخلى النظام السوري عن الممارسة السياسية وتحول إلى مجرد عصا أمنية، تطورت فيما بعد لتصبح أداة قتل وتدمير فحسب، وكردة فعل ساذجة اندرجت المعارضة السورية في السياق ذاته، إذ تخلت تحت ضغط العنف غير المسبوق للنظام من جهة، وهاجس كسب التأييد الشعبي من جهة ثانية، عن منطق العمل السياسي والحسابات السياسية واللغة السياسية المتوافقة مع العصر والقانون الدولي.

بعد الفيتو الروسي المتكرر في مجلس الأمن، طرحت مباشرة فكرة عقد مؤتمر دولي حول الوضع في سورية بمشاركة جميع الأطراف، وفي آذار 2012 طرحت أنه ينبغي على المعارضة السورية بكافة أطيافها، وخاصة المجلس الوطني، أن تعلن بوضوح أنها تؤيد وتدعم خطة كوفي أنان بنقاطها الست من الناحية المبدئية، فالعالم يحتاج للاطمئنان أن المعارضة السورية تتقن “فن السياسة” وليس مجرد تكرار الحديث عن النظام المجرم وضرورة إسقاطه. الموافقة على هذه المبادرة كانت تعني أيضاً أن المعارضة تتحلى بالمسؤولية الوطنية والحرص على كل نقطة دم سورية، كما تساهم بوضع المجتمع الدولي كله وليس بعضه أمام مسؤولياته في حماية المدنيين وإيجاد حل ذي تكلفة خفيفة على السوريين، وفي حال تم إنجاز بنود الخطة يجدر بالمعارضة الموافقة على الذهاب نحو تفاوض سياسي لا يستثني أحداً من القوى السياسية والمجتمعية في سورية، بما فيها أهل النظام ممن لم تلوث أيديهم بالدماء، وقد طرحت هذا الرأي آنذاك على الرغم من إدراكي أن النظام لن يوقف مسلسل القتل والمجازر والاعتقال، لكنني كنت أرى ولا زلت أن وجود شيء من السياسة لدى المعارضة لا يضر.

وفي أيار 2012 أكدت في مقالة لي حول مبادرتي كوفي عنان وجامعة الدول العربية، ورأيت أن هاتين المبادرتين تشكلان جوهر أي حل سياسي في سورية، إضافة بالطبع إلى ضرورة التوافق على طبيعة المرحلة الانتقالية وملامح سورية المستقبل بين القوى السياسية والمجتمعية والاقتصادية. وبالتالي نحن معنيون –كمعارضة- بإنجاح هذه المبادرات، على الرغم من معرفتي أن النظام لن يلتزم بها، لأنها ببساطة ستؤدي إلى سقوطه، لكن من الحكمة أن يصل العالم إلى القناعة التامة أن المعرقل الوحيد لهذا الحل هو النظام السوري. على كل حال هذه المبادرات هي ما قدمه العالم لنا في هذه اللحظة السياسية، والواضح أن هناك توافقاً دولياً وعربياً حولها، وبدلاً من شتم العالم والعرب، على المعارضة القيام بكل ما من شأنه فضح كذب النظام وخرقه للمبادرات من جهة، وتقديم المساعدة في المستويات كافة للمتظاهرين والثوار والنشطاء لتوسيع رقعة تواجدهم وتغيير ميزان القوى الداخلي لصالحهم أكثر فأكثر من جهة ثانية. وكنت أنطلق في مقاربتي للوضع آنذاك من مقولة الياس مرقص رحمه الله الذي كان يقول: “من لا يطرق الباب الضيق لا يطرق أي باب”، فمن يترفع عن القيام بالمهام البسيطة من المعيب أن يتنطع للقيام بالمهام الكبيرة، أي من لا يتعاطى بجدية مع المداخل الدبلوماسية والسياسية لا يحق له أن يتنطع لتمثيل شعب أو لقيادة بلد.

لم يفلح بالطبع هذا الأمر آنذاك، فالصوت الغوغائي كان طاغياً على ما عداه، خاصة أنه كان ممتلئاً بأوهام قرب سقوط النظام وتحقيق الانتصار، وللأسف كان مريدو هذا الصوت هم الأكثر انتشاراً آنذاك. مع ذلك لست حزيناً إزاء ذلك، فقوانين التاريخ تقول لنا بوضوح أن هذه الأصوات ستأخذ النصيب الأكبر من الوجود في ظل حالة الانقطاع عن السياسة لمدة نصف قرن التي عاش في ظلها الشعب السوري.

س5 ـ قرأت لك فيما معناه: أن الخطاب الوطني السوري ليس فعلاً أخلاقياً بل هو فعل سياسي بعيد النظر.. هل يمكن أن نعرف ماذا تقصد بالخطاب الوطني السوري؟ ولماذا تصر على اعتباره فعلاً سياسياً؟

 ما أقصده أن الخطاب الوطني ليس فعلاً أخلاقياً فحسب، أي لا يجد شرعيته في طيبة وإنسانية ووطنية قائليه فحسب بل هو فعل سياسي يقوم على المصالح الحقيقية وينم عن قراءة دقيقة للمستقبل، فأياً تكن المسارات السياسية الواقعية فإن السوريين في المآل سوف يعيشون مع بعضهم في وطن واحد.

ما أقصده بالخطاب الوطني الخطاب الذي يستند إلى الثلاثية المكونة من المواطن السوري والشعب السوري والدولة السورية، فأي خطاب يمايز بين المواطنين السوريين على أساس الدين أو المذهب أو العرق هو خطاب غير وطني، وأي خطاب لا ينظر للسوريين بوصفهم شعباً واحداً موحداً هو أيضاً خطاب غير وطني، وأي خطاب يدعو إلى تقسيم الدولة السورية إلى دويلات متعددة مهما كانت الذرائع هو كذلك خطاب غير وطني.

هناك نمط من الخطاب السياسي حاول إرسال رسائل تطمين معينة لطوائف أو فئات مجتمعية سورية، فكانت رسائله مبتذلة وتشير إلى منطلقات طائفية على الرغم من محاولته إخفاءها، ولذلك كانت رسائله منفرة وجاءت بنتائج عكسية.

س6 ـ كيف تستطيع أن تقرأ واقع العمل العسكري للمعارضة في سوريا، وخاصة بعد التموضعات الجديدة للقوى الكبيرة؟ وهل نستطيع أن نعتبر أن هذه القوى بشكلها الحالي تستطيع أن تقدم للسوريين انتصاراً عسكرياً بشكل أو بآخر؟

 من الطبيعي أن نجد في كل يوم اصطفافات وتحالفات جديدة على المستوى العسكري، وهذا ناجم من أسباب عديدة، أولها: تقطيع النظام لأوصال سورية بما جعل من الصعوبة حدوث تواصل حقيقي بين السوريين، وثانيها: العمل المخابراتي للنظام السوري وإيران في زرع عناصر تجسسية داخل القوى العسكرية المعارضة، وثالثها: وجود عدة مصادر للدعم العسكري والمالي لهذه القوى من دول إقليمية، وهو ما يجعلها رهينة توافقات أو خلافات هذه الدول، ورابعها: عدم وجود مظلة سياسية واحدة معترف بها من جانب هذه القوى بحيث تكون الأولوية للسياسة ولما تقرره وليس للعسكر وإنجازاتهم وما بأيديهم من عناصر قوة.

جميع العناصر السابقة تجعل من المستحيل أن تثبت القوى العسكرية المقاتلة على حالة محدّدة، وسوف نشهد دائماً تغيرات في تحالفاتها واصطفافاتها، وحتى في علاقاتها بين بعضها بعضاً. هنا يصبح تحقيق نصر عسكري على النظام أمراً مستحيلاً طالما بقيت العناصر السابقة هي المحددة لسلوك القوى العسكرية، إلى جانب بالطبع أن تحقيق الانتصار العسكري على النظام ومجموعاته المسلحة هو أمر يحتاج إلى قرار دولي واضح، وهو غير متوفر اليوم، ولا أعتقد أنه يمكن يتوفر في المدى القريب، فضلاً بالطبع عن الدعم الإقليمي عسكرياً للنظام من إيران وحزب الله والميليشيات العراقية.

في ظل الحالة الراهنة، وفي حال استمرار عناصرها المحدِّدة لها، فإن حصيلة المعارك العسكرية ستكون صفرية، بمعنى أن ما يحدث على أرض الواقع هو كسب معارك صغيرة هنا وهناك سواء من جانب القوى العسكرية المعارضة أو من جانب النظام، وهذه الحالة يمكن أن تطول ولا يربح فيها أحد، وسيكون عنوانها هو المزيد من الكوارث والتفسخ المجتمعي ودمار المدن والبنى التحتية.

س7 ـ كيف تنظر لدور التشكيلات السياسية المعارضة (الرسمية منها) وطريقة تعاطيها مع ظاهرة تفشي الكتائب الإسلامية على الأرض السورية، وأنا لا أقصد هنا جبهة النصرة وداعش فقط وإنما أغلب القوى العسكرية التي باتت لاحقة الإسلامية لازمة لها، واللون الأسود لا يفارق شكل شعارها المرسوم.

معظم التشكيلات السياسية القائمة منفعلة بالحدث ولا يحكمها سوى رغبتها بإسقاط النظام، ولا تتعاطى مع الواقع من خلال إستراتيجيات وخطط قريبة المدى وأخرى بعيدة، ولا تأخذ بالاعتبار ضرورة أن تخدم التكتيكات السياسية الأهداف الإستراتيجية.

هذا يجعل من القوى السياسية خاضعة للمزاج الشعبي، متخليةً بذلك عن إحدى مهامها المركزية في تنوير الشارع، بل على العكس تنتظر الشارع الشعبي وتغيراته ثم تصدر خطاباً سياسياً شعبوياً متناغماً معه بقصد كسب تأييده.

ولذلك وجدنا كثيراً من القوى المعارضة التي صمتت عن أفعال بعض الجماعات المسلحة المعارضة أو عن الخطاب المتطرف لبعضها الآخر تحت حجة أن المهمة الأولى هي لإسقاط النظام، لتكتشف هذه القوى فيما بعد أن هذا التستر قد أثر على سمعة الثورة السورية وتمثيلاتها السياسية داخل سورية وخارجها، وخاصة لدى الغرب.

من جهة ثانية، لم تتجرأ بعض القوى السياسية على الدخول في حوار صريح مع الجماعات الإسلامية المسلحة، كما ترفع بعضها الآخر عن هذا الحوار، وتعامل بنظرة فوقية لا تخفي “احتقارها”.

يمكن للحوار والتواصل أن يقدم بعض النتائج الإيجابية، بخاصة إن انتبهت هذه القوى إلى أن التطرف الظاهر في جزء منه مصطنع، وفي جزء آخر منه نتيجة طبيعية ومنطقية لغياب السياسة عن المجتمع وغياب العمل المدني، والأهم هو الدور المركزي للنظام السوري في إذكاء التطرف بحكم العنف غير المسبوق الذي استخدمه.

س8 ـ وهذا يقودنا لسؤال: لماذا لم تستطع هذه التشكيلات السياسية أن تقدم رؤية برنامجية واضحة للحالة السورية، واكتفت بلحظة نشوة مفترضة أنها تمثل الأرض والثوار والشباب في الداخل، وبالتالي بقيت مستلبة الإرادة لمن أسمتهم ثوار الداخل ولم تسع لطرح برنامج سياسي واضح المعالم ولا ورؤية جديدة للحل.؟

 ببساطة لأن هذه القوى تفتقر إلى الفكر والسياسة، وهذا انعكس على قراءتها للواقع السياسي ومساراته وبشره، فضلاً عن ضعف معرفتها بتاريخ سورية وطبيعة النظام الحاكم، إلى جانب نقص اطلاعها على تجارب الأمم المختلفة، والجهل بمنطق التاريخ وحركة الشعوب.

غياب الفكر يؤدي بالضرورة إلى قراءة الواقع بشكل سطحي، وإلى التعامل مع إشكالاته وتعقيداته بخفة سياسية، وهذا يؤدي بالضرورة إلى اتخاذ مواقف سياسية متسرعة تقوم على العواطف والحدس والمشاعر فحسب من جهة، وإلى الغرور والادعاء الفارغين.

ظنت هذه القوى والتشكيلات أن الأمور سهلة وسريعة في سورية، وبنت علاقات دولية ساذجة، واندرجت في إطار تكرار مقولات الشارع السوري طمعاً برصيد شعبي ما بدلاً من الدور المنوط بها والمتمثل بقيادة الشارع من خلال برنامج سياسي ورؤية سياسية، ولذلك من الطبيعي أن تفشل وتصطدم بالحائط.

إنها من دون هوية واضحة تتلاعب بها تارة الدول الإقليمية والدولية، حتى لو لم تكن ترغب بذلك وترفضه من منطلق وطني مستقل، وتارة أخرى المزاج الشعبي والمشاعر والعواطف، ولذلك مآلها بالضرورة الانتهاء عاجلاً أم آجلاً على الرغم مما ستخلفه وراءها من كوارث.

الجزء الثاني من الحوار

 في القسم الأول من حوارنا مع الكاتب والباحث السياسي حازم نهار تحاورنا حول جنيف وحول العملية السياسية وتداعياتها، ناقشنا أمور الجيش الحر والكتائب الإسلامية. نتابع في القسم الثاني حوارنا معه في قضايا إشكالية جديدة، كالحكومة السورية المؤقتةوالوضع الكردي، والعمل السياسي المنظم….نعترف أن الحوار طويل، لكننا نستطيع أن ندّعيأنه حديث إشكالي وهام، ويسلط الضوء على كثير من المواضيع الهامة والآنية.

س9 ـ كلنا تابع أخبار تشكيل الحكومة السورية المؤقتة في نسختها الأولى مع الأستاذ غسان هيتو والتي لم تر النور، والحكومة الحالية للدكتور أحمد طعمة، كيف تقرأ سياسياً تشكيل هذه الحكومة؟ وهل برأيك يمكن لها أن تعمل وتنجز فعلاً ما في المدى القريب؟

 ظهرت النية الأولى لتأليف حكومة مؤقتة في أواخر تموز 2012، أي قبل تشكيل الائتلاف الوطني ذاته، وقد كتبت مقالاً حول ذلك في صحيفة الحياة بتاريخ 3 آب 2012 بعنوان: “الحكومة الانتقالية… قفزة في الهواء”، ثم جاءت حكومة هيتو بعد تشكيل الائتلاف الوطني، وبعد ذلك حكومة طعمة، ولا يزال رأيي كما هو، أي أن تشكيل حكومة في ظل المعطيات القائمة لن يكون له وزن مؤثر.

لعل أهم ما يميز تجربة القسم الأكبر من المعارضة السورية هو استناده إلى منطق التجربة والخطأ في الممارسة السياسية، وقد تجلى ذلك في طرح شعارات ومبادرات متلاحقة من دون دراسة واقعيتها وإمكانيات تحقيقها، وكلما انسدت الآفاق أمام أحدها تردفه المعارضة بالجديد، لكن استناداً إلى المنطق ذاته.

لسان حال معظم المؤيدين لتشكيل هذه الحكومة الانتقالية يقول: طالما لم ينجح المجلس الوطني والائتلاف الوطني فلنجرب إذاً تشكيل حكومة انتقالية. بالتالي، بدلاً من التفرغ لإنجاز المهام المتعلقة بحل إشكاليات المعارضة والثورة، يجري القفز فوق هذه المهام الملحة نحو خطوة غير محسوبة، ولن تحل الإشكاليات الموجودة.

منطقياً، ثمة مهمتان كان لهما الأولوية على تشكيل أي حكومة انتقالية، وهما: تحقيق توافق سياسي على مستوى المعارضة، تحقيق تجميع للقوى العسكرية، وضمان التزامها بالمظلة السياسية للمعارضة، وإلا فإن الذهاب في طريق التشكيل لا يعدو أن يكون مجرد قفزة في الهواء.

أما إذا أردنا مقاربة موضوع تشكيل الحكومة من زاوية التوقيت السياسي، فهناك ثلاث نقاط مفصلية في تحديد الموقف من هذا الأمر، واستشراف مدى قابلية أي حكومة للحياة والاستمرار. النقطة الأولى: إن تشكيل مثل هذه الحكومة يحتاج باعتقادي إلى ظهور أفق مؤكد لسقوط النظام، بعد أن تأكد بالطبع سقوطه عاجلاً أم آجلاً بالمعيار التاريخي. أما النقطة الثانية فتتعلق بطبيعة اللحظة الراهنة التي تشير بوضوح إلى عدم إمكانية مشاركة شخصيات من داخل البلد في هذه الحكومة المزمعة، سواء من أطراف معارضة أخرى، أو من الهيئات والمجالس الثورية والمدنية، بحكم الظرف الأمني المعقد. النقطة الثالثة تتعلق باستقراء الوضع الدولي والإقليمي قبل الإعلان عن تأليف أي حكومة، إذ لا أعتقد أننا مررنا بلحظة زمنية طوال الفترة الماضي كان فيها احتمال ما للاعتراف بهذه الحكومة. أما النقطة الرابعة فهي مدى الدعم المالي المتوقع لهذه الحكومة المنوط بها مسائل عديدة تحتاج إلى تحالف دولي إقليمي داعم على المستويات كافة.

بالتالي لا يمكن القول أن أي حكومة، مهما كانت النيات خاصة، يمكن أن تعيش وتلعب دوراً مؤثراً طالما لا يوجد اعتراف دولي بها، ولا يتوافر لها الدعم المالي المطلوب، كما لا يوجد أفق مؤكد لرحيل النظام الحاكم، ولا يتوافر لها مقدار ما من الشرعية الشعبية في الداخل السوري، فضلاً عن أن المطلوب من هذه الحكومة أن تعمل في ظل ظروف سيئة أساسها الشقاق السياسي داخل المعارضة وفوضى الكتائب وجماعات المعارضة المسلحة.

خلاصة القول أن موضوع الحكومة الانتقالية ونجاحها مرتبط بالمهمات الأساسية التي يفترض بالمعارضة السورية إنجازها قبل تشكيلها، وبانتقاء اللحظة السياسية المناسبة لإطلاقها، كي لا تكون هذه الحكومة عبئاً جديداً على كاهل ثورة السوريين، ويكون مآلها الفشل بالضرورة.

س10 ـ أنت من المهتمين ومنذ زمن طويل بالقضية الكردية في سوريا، وناقشتها في أكثر من دراسة أو بحث، كيف نستطيع برأيك أن ننظر إلى مساهمة الأكراد في الثورة السورية؟ وكيف نستطيع أن نقرأ أداء القوى السياسية الكردية؟

 مع الثورة السورية شرع السوريون بالتعرف على بعضهم بعضاً للمرة الأولى، من دون حواجز، وصاروا يعرفون أنفسهم ويتواصلون، وينهون حقبة طويلة من الاغتراب والانعزال والجهل ببعضهم، وأخذوا يتفاعلون معاً ويتبادلون هوياتهم الجزئية ومعاناتهم وآلامهم، ويستردون ذواتهم التي بددها القمع والاستبداد، ولم يكن السوريون الأكراد في أي لحظة بعيدين من هذه الحالة الجديدة، فقد شاركوا منذ الأيام الأولى في جميع فعاليات ونشاطات الحراك الشعبي، ورفعوا شعارات وطنية تؤكد انتماءهم للوطن السوري، وكانوا حريصين على وحدة الحراك الشعبي في سورية،  وأفشلوا خطة النظام آنذاك التي عملت على تحييد الكرد، وبث الفتنة بين العرب والكرد. ولم يكن هذا غريباً على الكرد، فتاريخ سورية لم يكن في أي لحظة تاريخ عرق بعينه أو دين أو مذهب دون سواه، بل كان تاريخ كل التنوُّع الثقافي والسياسي والعرقي والديني والاجتماعي الموجود على الأرض السورية.

 القضية الكوردية في سورية جزء من المسألة الوطنية الديمقراطية، وقضية أساسية من قضايا الدولة الوطنية الحديثة، فهي قضية وطنية عامة لا تخص المواطنين الكورد وحدهم، بل تخص جميع المواطنين السوريين كغيرها من القضايا الوطنية.

أما على مستوى القوى السياسية الكردية، فأعتقد أنها كالقوى السياسية العربية في سورية، تستحق النقد فيما يتعلق بطرق وآليات التعاطي مع القضية الكردية، والقضية الوطنية السورية برمتها، خاصة ما يتعلق بتغليبها دوماً للأيديولوجية على السياسة. فأيديولوجيات الأحزاب القومية العربية استبعدت الأكراد وأقصتهم من دائرة رؤيتها في السابق، ولم ترَ فيهم سوى مجموعة من الغرباء أو الوافدين، وبالتالي رأت في عدم الاعتراف بوجودهم الواقعي، ومن ثم بحقوقهم، هو الحل الأمثل والنهائي للمشكلة، لذلك لم تعترف بوجود مشكلة كردية في الواقع. كذلك فإن أيديولوجيات الأحزاب القومية الكردية لم ترَ في العرب سوى محتلين لجزء من “وطن الأكراد”، ولا يتورعون عن اغتصاب حقوق الكرد واضطهادهم. في الحقيقة لا يمكن الحوار بين هاتين الرؤيتين. كما لا يمكن الوصول إلى حل مشكلة بهذا المستوى من الأهمية والتعقيد حلاً أيديولوجياً أو بدلالة الأيديولوجية، ولابد من التفكير بتلمس حلول سياسية واقعية.

أعتقد أن الثلاثية القائمة على الدولة الوطنية السورية، والشعب السوري، والمواطن السوري، ينبغي اليوم أن تكون أساس ومنطلق التعاطي مع أي قضايا أو إشكالات مطروحة على السوريين، كما أرى بالتالي أن الدّولة الوطنيّة الديمقراطية الحديثة هي الإطار السياسي والحقوقي الأرقى لتنظيم الحياة العامة في سورية، والذي يمكن أن يضمن حقوق جميع السوريين في المستويات كافة، وهذا معناه أن أيّ نظامٍ سياسي يستمد شرعيتَه من هيمنة أغلبية دينية، أو طائفية، أو أيديولوجية عرقية، إنما يقوّض الديمقراطية وينتهكُ الأساس الذي تقوم عليه هذه الدولة، دولة المواطنة المتساوية والحريات.

 

س11 ـ وفي هذا المجال كيف يمكن لنا مقاربة مبادرة حزب الاتحاد الوطني الديمقراطي (byd) بالإعلان عن مجالس الإدارة الذاتية المرحلية في كل من القامشلي وعين العرب وعفرين، وانتخاب حكومات محلية لهذه المجالس؟

 أعتقد أن مفهوم الدولة هو تعبير عن المركزية والوحدة والقانون، بينما المجتمع المدني هو ميدان الحريات والتعددية، وبالتالي ففي الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي أشرت إليها يقوم فيها جدل صحي بين الدولة والمجتمع المدني، أي بين المركزية والتعددية، أو بين القانون والحرية.

هذا معناه أنه من حق الجميع أن يقيموا ما يشاؤون في المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات، لكن يفترض أن تظهر الدولة دائماً لأبنائها وللعالم الخارجي على أنها دولة واحدة وقوية. بالتالي، لا يمكن أن أقبل أي مبادرة أو فعل لا يضع هدف الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة كأساس ومرجعية.

كذلك يفترض التخلي عن كافة الأوهام التي لا تجد ولن تجد لها أي رصيد واقعي: دولة كردية، دولة علوية، دولة إسلامية …. فالفرصة الوحيدة أمامنا هي الدولة الوطنية السورية، وهذه الدولة يمكن أن تدرس أوضاع أبنائها في كل منطقة وتقيم ما شاءت من حكومات محلية وإدارات ذاتية.

بالتالي فإن تصرف حزب الاتحاد الديمقراطي خاطئ وقصير النظر، وموافقة هيئة التنسيق عليه أكثر خطأ، فهذا الأمر هو من صلاحيات الدولة الوطنية السورية المستقبلية المعبرة عن الشعب السوري، ولا أحد سواها.

س12 ـ أنت من المعارضين الأوائل الذين دعوا لتشكيل قوى سياسية تجمع المعارضة، كما نعلم أنك من مؤسسي هيئة التنسيق، وكذلك من مؤسسي المنبر الديمقراطي، وشاركت بجد في التحضيرات نحو تشكيل المجلس الوطني السوري… اليوم نجدك خارج هذه الأطر كلها، هل كفرت بالعمل السياسي؟ أم بالآلية التي يعمل بها السياسيون هذه الأيام؟

 العمل السياسي هو أساس أي عمل يحاول الانتقال بسورية إلى دولة وطنية ديمقراطية، لكن هذا شيء وموقفي من التشكيلات السياسية القائمة شيء آخر.

صحيح أنني ساهمت في الدفع –قدر استطاعتي- باتجاه التشكيلات السابقة لكنني كنت أتراجع مباشرة، للأسف، ومن دون ضجة إعلامية أو إثارة أي غبار ضد أحد، عندما أجد أن مسار هذه التشكيلات سيذهب باتجاه الاصطدام بالحائط، لكن بالطبع بعد أن أبذل كل مسعى ممكن وأعرض كل هواجسي أمام الآخرين شفاهة وكتابة.

هناك حالة عامة من عدم النضج السياسي، وسعي فردي حثيث للظهور والبروز، وهو ما شكل عقبة حقيقية، وهناك تسرع في قراءة الواقع السياسي ينم عن عدم معرفة بالتاريخ والواقع السوريين، وعن جهل بالنظام السوري ذاته، وكذلك عن سذاجة في فهم العلاقات الدولية.

هناك عشرات الدراسات والمقالات التي قدمتها لكل التشكيلات السابقة، وهي منشورة كذلك، فأنا لا أقول هنا كلاماً فوق الأساطيح كما يقال، أو بعد أن تبدت الصورة الواقعية للجميع، فهناك العديد من المقالات والدراسات التي كتبتها خلال تلك المحطات التي أوضح فيها هواجسي ورؤيتي.

س13 ـ أذكر أنك كتبت مرة: لا توجد قوى سياسية قبل الثورة أو بعدها تستحق اسم مؤسسة سياسية حديثة، ماذا تعني بمؤسسة سياسية حديثة؟

 قبل الثورة، كانت هناك أحزاب معارضة صغيرة، مارست عملها على مدار ربع قرن على الأقل في الغرف المغلقة، وهي في معظمها أحزاب أيديولوجية متكلِّسة، اشتراكية وماركسية وقومية، محدودة الامتداد، ومعظمها قد تهشم مع الثورة إلى مجموعات صغيرة.

بعد الثورة، تشكلت العديد من الأحزاب والتيارات والمجموعات السياسية بطريقة سريعة تدلِّل بوضوح على الخفَّة السياسية والضحالة الفكرية وقصر النظر، حتى أصبحنا أمام ركام من الأحزاب والتيارات التي لا نستطيع حفظ أسمائها أو التمييز بينها، فكلها تتشابه في التشكّل والإعلان والبيان التأسيسي وفلوكلور الانشقاق، ومن ثم الانحلال.

بعض هذه القوى لا يزال مستمراً، بحكم عاملين اثنين وحسب، الأول هو “ماركة الاسم”، والثاني وجود بعض الشخصيات السياسية الإعلامية داخلها. في ما عدا ذلك لا تمتلك أي مؤهلات أو عناصر للاستمرارية في المستقبل. وبحكم افتقارها لكل مقومات الحزب السياسي يمكن ببساطة الاستنتاج بأنها مجرد “هلام سياسي” لا يمتلك رأياً ثابتاً أو مستقراً تجاه أي حدث أو واقعة سياسية.

إن بناء المؤسسة السياسية الحديثة لا يستجيب للرغبات والإرادات فحسب، بل هو أمرٌ في غاية التعقيد، وله معاييره وشروطه، التي يفترض العناية بها وإعطاؤها الأولوية على حساب الاهتمام بالمهرجانات الإعلامية الصاخبة. فبناء أي مؤسسة سياسية هو عملية تراكمية مستمرة، ولا يمكن القول في أي لحظة أن بناءها قد اكتمل وانتهى. لكن كل مؤسسة تحتاج إلى الحد الأدنى من الأساسيات الضرورية كي نقول إنها موجودة على الأقل، والتي تتمثل بوجود أرضية فكرية جامعة نسبياً بين أعضائها، ونظام داخلي يعبر عن القانون الذي تستوحى منه الحقوق والواجبات وآليات العمل، إلى جانب رؤية سياسية مرحلية وعامة، وهيئة قيادية منتخبة تدير حياة المؤسسة وعلاقاتها وفقاً لقانونها الداخلي.

لا يكفي إذن أن يجتمع بعض الأفراد في فندق ما ليقرروا إنشاء مؤسسة سياسية استناداً لرغبات ذاتية، فلحظة الإعلان عن مؤسسة ما تعني أن الحوار العميق في الجوانب كافة بين أعضائه قد وصل إلى درجة من النضج تتطلب اندراجهم في تشكيل سياسي واحد، وهي أيضاً اللحظة التي يبدأ فيها عملهم على الصعد كافة. أما العمل العشوائي السائد فيتجه نحو الإعلان عن تشكيلات سياسية ومدنية من دون تعب أو جهد، لتصبح لحظة الإعلان هي الأساس وما عداها فارغ لا قيمة له، فلا قيمة للحوار ما قبل الإعلان ولا أهمية للعمل والبناء بعده.

كانت التشكيلات السياسية الموجودة أقرب إلى الدكاكين أو القبائل منها إلى المؤسسات السياسية الحديثة، فالعيوب الموجودة أكثر من أن تحصى، فهناك افتقاد للرؤية السياسية الواضحة التي تشكل مرجعية لأعضاء الحزب، وهناك حالة من الفقر الفكري وهو ما يجعل مسار المؤسسة يميل مع اتجاه الريح، وهناك ضحالة في الإدارة والتنظيم وحضور القانون بما يجعل كل شيء خاضعاً للمزاج والحب والكره الشخصي، وتصبح الحياة الداخلية للمؤسسة قائمة على “الشللية”، وليس على العلاقات المدنية الحديثة. إلى جانب ذلك، هناك اختزال للمؤسسة السياسية في شخوص بعض الأفراد، وشكل من أشكال الإدارة الإقطاعية والتحكم المالي، إضافة إلى ضمور الأخلاق السياسية أو الجهل بها، واختلال مصادر الشرعية، فقد سمحت الثورة لبعض الأفراد بالحصول على عدد من المكتسبات التي يعتمدون عليها في فرض وجودهم وشرعيتهم، خاصة ثالوث المال والإعلام والعلاقات الخارجية، ويعتقد هؤلاء أن هذه المكاسب تمنحهم أفضلية في المجالات كافة، فضلاً عن تحكم العيوب الشخصية بالعمل السياسي.

تلك بعض ملامح التجربة الواقعية كما أراها، وأعتقد أن الاستفادة من الأخطاء الحاصلة يمثل أحد الأبواب التي تسمح بإنتاج تجارب سياسية حديثة أكثر جدية وأقل أمراضاً وأعظم قدرة على الفعل والاستمرار.

س14 ـ كتبت على صفحتك: نتساءل اليوم، كالكثير من السوريين، أين هو الحزب الذي يمكن أن يبنى استناداً لأسس مدروسة؟ أين هو الحزب الذي يمكن أن يقدِّم رؤية فكرية سياسية متكاملة، وبرنامجاً سياسياً لسورية المستقبل، ونظاماً داخلياً حديثاً ومرناً، وخطة عمل واضحة الأركان والمهمات، ويحتوي بين ظهرانيه على معظم من ينسبون أنفسهم للتيار الأوسع في سورية، التيار الوطني الديمقراطي؟ هل يمكن أن يتشكل هذا الحزب ويقلب اتجاه المسيرة نحو التجمع والالتقاء بدلاً من خط التذرّر والتشظي الذي ظهر واضحاً منذ بداية الثورة وحتى الآن؟

وأنا بدوري اسألك نفس السؤال، هل نجد له جواباً عندك؟

 لقد كتبت هذا الكلام لسببين هما، الأول هو إشارة مني إلى أن ما هو موجود من قوى وتشكيلات سياسية اليوم لا يرتجى منه خيراً، والثاني هو تشجيع السوريين، بخاصة الشباب، على السير في طريق بناء قوى سياسية جديدة.

لا أعتقد أنه يمكن تأسيس هذا الحزب السياسي الحديث من دون نقد الأحزاب التي عرفناها في السابق، فمن خلال هذا النقد تتكشف لنا ملامح الحزب السياسي المأمول على نحو أكثر وضوحاً وتحديداً، وهنا يمكن أن أستعرض بعض تلك الملامح بهدف تجاوزها جدلياً:

1- أحزاب غير وطنية، فجميع الأحزاب التي تشكلت في سورية خلال قرن من الزمان لم تعترف بسورية كدولة قائمة بذاتها ولذاتها، بل تنظر لسورية باعتبارها حالة مؤقتة ينبغي الذهاب إلى ما هو أكبر منها، سواء أكان دولة القومية العربية أو دولة الإسلام أو دولة الأممية الاشتراكية، وهذا ما يجعلنا نقول أنها جميعاً لم تكن أحزاباً وطنية سورية، والوطنية هنا ليست صفة قيمية (أي أن معناها لا يكافئ العمالة) بل صفة قانونية مرتبطة بوجود الدولة الوطنية والاعتراف بها كفضاء سياسي.

2- الحزب القبيلة، فقد كان الحزب السياسي أقرب إلى مفهوم العشيرة أو الطائفة الدينية وليس تنظيماً مدنياً يستمد هويته من الدولة الوطنية بمعناها العمومي، فالمبدأ الناظم للعلاقات الداخلية بين الأعضاء في الأحزاب التي تشكلت هو العصبية، حتى لنشعر أننا أمام عصبة مغلقة ومتكورة على نفسها تماماً كالعشائر والقبائل التي نعرفها في تاريخنا.

3- أحزاب أصولية غير سياسية، إذ تحضر الأيديولوجية في الحزب بكثافة هائلة، وهذه الأيديولوجية أصولية بحكم ارتكازها إلى النصوص بدلاً من الواقع، وبطريقة لا تختلف عن أصوليي أي دين من الأديان، ويكون الهمّ الأساسي للحزب وأعضائه هو في توكيد صوابية معتقدهم وأن الحوادث الواقعية لا تأتي إلا متطابقة معه، لتسود بالتالي حالة من الانفصام عن الواقع الحي المتغير.

4- انفصال الفكر عن التنظيم، إذ إن بناء الحزب السياسي ليس مسألة تقنية أو عملية فحسب، بل لا بد لكل حزب أن يتوافر على أرضية أو رؤية فكرية. بمعنى آخر لا بد أن تتمظهر رؤية الحزب الفكرية في نظامه الداخلي الذي يصوغ العلاقات بين الأعضاء والهيئات. في الغالب الأعم كان هناك انفصال بين الرؤية الفكرية والنظام الداخلي، إذ كثيراً ما يقول الحزب بحرية الفرد لكننا لا نجد لديه تجسيداً قانونياً لتلك الحريةمثلاً.

5- أحزاب إرادوية وشمولية، إذ نكاد لا نذكر حزباً تعامل واقعياً على أنه جزء من المجتمع، فكل حزب لا يقبل بأقل من تمثيل جميع فئات المجتمع وكل الشعب، وهذا التمثيل بالضرورة صفة ادعائية غير واقعية، ويجعل منه مشروع حزب مستبد بداهة حتى لو كان في المعارضة.

6- أحزاب بلا قيمة للفرد، إذ يضع الحزب الشمولي نصب عينيه إعادة تدوير وإنتاج أعضائه من خلال الأيديولوجية والأوهام وطرائق العمل غير الديمقراطية، وتكون الحصيلة طمس الفروق الفردية بين أعضاء الحزب ومحو التباينات، تماماً كمعمل الزجاج الذي ينتج كاسات بمقاس واحد، ليصبح أعضاء الحزب بالتالي، طوعاً أو قسراً، متشابهين، ويتحولون إلى مسوخ أو أرقام لا قيمة لها، يرددون شعارات الحزب ويحفظون مقولاته، عاجزين عن التفكير خارج الصندوق الحزبي وتعاليم الأمين العام.

7- أحزاب عنفية، فالاستغراق في الأيديولوجية وسيادة روح العصبية العشائرية في الحزب يجعلان من خطابه السياسي خطاباً متشنجاً وموتوراً ومتطرفاً على الدوام، ويتمظهر ذلك في المواقف السياسية القصوية رفضاً أو قبولاً على طول الخط، ويحضر في الوعي العام مفهوم “العدو السياسي” بدلاً من مفهوم “الخصم السياسي”، وتغيب المعاني الحقيقية للعمل السياسي كالتوافق والتسويات والتشارك والقواسم المشتركة وغيرها، وتلكم هي إحدى جذور إنتاج العنف بين الفرقاء السياسيين في المجتمع، والذي يبقى باطناً إلى أن يجد متنفساً له.

تلك هي بعض ملامح التجربة الحزبية السابقة، وهي بحاجة لدراسات تفصيلية معمقة، يمكن أن نخرج منها بتصورات جديدة ومثمرة تستجيب لأسئلة العقل والواقع، وتقدم لنا بشكل مستمر تطويراً لمفاهيمنا وأفكارنا ونحن في سياق بناء أحزاب جديدة تساهم في تغيير المعادلات السياسية القائمة.

س15 ـ هل لنا أن نتعرف قليلاً على حزب الجمهورية الذي تتشارك وآخرون في عملية إنشائه، أين وصلتم في ذلك؟ وهل تعتبر أنه سيقدّم حلاً ما؟

 منذ بداية الثورة كانت هناك محاولات لتأسيس حركة سياسية جديدة، وقد كُتبت أوراقها ووثائقها في نيسان 2011، لكن كانت وجهة النظر الغالبة آنذاك أن الوقت غير مناسب من أجل تشكيل حزب سياسي جديد، وأن المطلوب تجميع ما هو موجود والتوفيق بين أركانه من أجل إسقاط النظام، وفي الحقيقة كنت ضد هذه الرؤية لأنني –كما يقال- أعرف البير وغطاه جيداً، بمعنى أنني أعرف واقع المعارضة والقوى السياسية جيداً، كما كانت قراءتي السياسية تقول أن الأمور في سورية معقدة وستستغرق وقتاً طويلاً، وقد كتبت ذلك مراراً وتكراراً.

منذ حوالي السنة شعرت أن هناك تغيراً في آراء الكثيرين بعدما لمسوا الفشل الذريع للتشكيلات الموجودة، ولذلك بدأنا كمجموعة نسير بهدوء نحو تشكيل حزب سياسي جديد، وجرت حوارات عديدة طالت الفكر والسياسة والتنظيم، وكُتبت وثائق أولية جدية، وهذه تعرضت لنقاش واسع ومستفيض، ونحن الآن في سياق طرح المشروع على جميع السوريين الراغبين بالمشاركة في بناء هذا الحزب.

نأمل من هذا الحزب، الذي سنبقى نشير إليه كحزب تحت التأسيس إلى أن تستقر الأوضاع، هدفين اثنين، الأول أن يتحول إلى مركز جاذب للخبرات والكفاءات، ويشارك في بنائه الشباب السوري خصوصاً، ويكون لهم الدور الأبرز، والثاني أن يشكل هذا الحزب الجديد أنموذجاً يحتذى من جانب القوى السياسية الموجودة لإعادة النظر في أفكارها وأيديولوجياتها وآليات عملها على المستويات كافة، وكذلك دفع السوريين لتشكيل أحزاب أخرى جديدة في حال لم يجدوا ما يرضيهم فيما هو موجود.

لا ندعي أن هذا الحزب سيقوم بعمل خارق على الساحة السياسية السورية، بل سيكون جزءاً من الحركة السياسية الوطنية إن جاز التعبير، وسيساهم قدر استطاعته مع باقي القوى في الدفع بعجلة تحول الدولة السورية إلى دولة وطنية ديمقراطية، وليس بالضرورة أبداً أن يكون المبادرون لتأسيسه أعضاء قياديين فيه مستقبلاً.

أجرى الحوار: حسين برو

10 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *