جيل الانتماءات الضائعة
أنا من جيل الثمانينيات، جيل لم يعش النكسات الكبرى. جيل شبّ في مطلع الألفية مع الانفتاح في سورية الذي تبيّن فيما بعد أنه لم يكن سوى مجرد قشرة جميلة لثمرة مرّة. جيل لم يختبر النكبات التي مرت على الآباء. أنتمي لفئة في هذا الجيل نشأت في بيئة توصف بالعلمانية أو التقدمية أو اليسارية ذات دخل متوسط موجودة في أرجاء سورية، وبخاصة في مدنها الكبيرة، تربّت على قيم ظنّ الآباء، ونحن من بعدهم، أنها قابلة للتحوّل إلى حقيقة. فئة ترعرعت على حبّ وطن استحال اليوم، ولأسباب شتى، إلى بوتقة لحرق الروح الإنسانية وتمزيق ما تبقى من هوية سورية جامعة.
نحن الفئة التي كنّا واجهة أنيقة مثقفة في دولة تبيّن أنها فاشلة، فتحوّلنا إلى قلّة متواطئة مع عجلة الزمن في بلاد الاغتراب. تزامن انطلاق الثورة مع مرحلة بناء حيواتنا وتكوين العائلة والبحث عن أرض صلبة لعيش ربيع العمر. فأتت الثورة ومآلاتها لتهدم قيماً وتنقض مسلمات وتعيدنا إلى المربع الأول في رحلة البحث عن هوية ومجتمع ووطن.
نحن الشباب المنبوذ من الجميع: من نظام مستبد أدرك منذ اللحظة الأولى أن الحراك الشبابي يشكل خطراً داهماً عليه فضربه، وما يزال، بيدٍ من حديد ونار؛ ومن معارضة تقليدية، داخلية كانت أم خارجية، لا تمثيل لنا فيها إلا بشكل صُوَري؛ ومن معارضة مسلحة، إسلامية كانت أم غير إسلامية، للسلاح فيها الكلمة الفصل؛ ومن مجموعات جهادية تضطهد أمثالنا، إن لم تقتلهم، بداعي الكفر والردة أو حتى لمجرد الاختلاف.
نحن فئة خرجت من سورية قبل الثورة وبقيت بعيدة مجبرة أو تشّردت قسراً بعد انطلاقها. أصبحنا الآن أكبر سنّاً من أن ننسى الوطن وأصغر من أن نقف منفردين أمام كل هذه الأهوال. اعتقدنا يوماً أننا من النخبة التي ستبني سورية بأحلام كبيرة فانتهى بنا المطاف مشردين في بقاع الأرض، فلا نحن قادرين على اجتثاث جذورنا المتغلغلة “هناك”، ولا نحن قادرين على زرع بذور راسخة في مدن غريبة “هنا”. كِيلت لنا كل أنواع الاتهامات بالعمالة لدول العالم المختلفة، بينما نحن في الحقيقة أسرى أبديين لوطن ظنناه أجمل وأكثر عدلاً ورحابة.
نحن فئة لم يعد يمثلنا أحد. مستعدون للتضحية في سبيل وطننا، ولكن ليس للموت دون معنى في أتون مقتلة سورية التي لا ترحم. كنا سوية في الوطن متشابهين بنظرتنا للأمور وبأحلام مشتركة اعتقدنا أنها قابلة للتحقق، فأتت مصائرنا متماثلة وما اختلفنا عن بعضنا سوى بدول الاغتراب واللجوء. سرعان ما فرط عقد مسبحتنا فتوزعت حباتها في مدن العالم وتحوّلنا سفراء لوطن لم يعد موجوداً، أو ربما لم يكن أصلاً.
نحن الذين كانت السماء لا تتسع لأحلامنا مع انطلاق ثورة آذار 2011، فأصبحنا نخشى أن يكون حديث الأجيال المقبلة عن نكبة آذار 2011، وتحوّلت كل البديهيات التي آمنّا بها إلى نظريات مشكوك بقابليتها للتطبيق وتفنّدها وقائع الأرض شهيداً تلو آخر، ونكسة إثر أخرى، ودمعة بعد دمعة.
نحن الآن أبناء مجتمعات جديدة لا تفهمنا. فلا بلداننا الجديدة شكّلت البرّ الذي نرسو عليه ولا الإبحار عائدين للوطن هو خيار مطروح حالياً، فأصبحنا هائمين في فضاءات لا تشبهنا، مشتتي الانتماء بين ذكرى وطن بعيد ممزق ودول غريبة على أرواحنا. أمسينا دون بوصلة نهتدي بها، فلا نحن قادرون على الإبحار لليابسة، أية يابسة، وإكمال الرحلة وفتح صفحة جديدة في حيواتنا، ولا مجاراة بحر يهوج ويموج مِن حولنا.
نحن فئة لا يبهرها الغرب ولا ننتمي إليه. جيل لا زال يشعر بالولاء لوطن تحوّل إما إلى إقطاعيات أسدية أو إمارات حرب لا تقبلنا على ما نحن عليه. اعتقدنا أن التغيير ممكن وأنه حق بشري. دوّا النفير لكي ننخرط في بناء وطن جديد، فما لقينا سوى الموت محيطٌ بنا من كل حدب وصوب.
نحن الذين لم نتخيل أن نستمع إلى فيروز في شتاءات الخليج الحارة وليالي اسكندنافيا التي لا تنتهي ونهارات أوروبا الصناعية المثقلة بالهموم وحياة الأمريكيتين الاستهلاكية والقاتلة للروح. نحن الذين انتقلنا من فقاعتنا الجميلة في سورية إلى قوقعتنا القاتلة للروح في بلاد الاغتراب واللجوء. نعم، نحن مشوهو الهوية والانتماء، فاعذرونا لأننا ورثنا نكبات الماضي ونحيا آلام وجنون الحاضر ويبدو مستقبلنا مسخاً غير واضح المعالم.
* اللوحة للفنان السوري أنس حمصي
أول مرة بحس واحد حكا يلي بقلبي. او حكاه متل انا مابدي .. مابعرف اذا هيك عم يفكرو غيري
بس انا موافق على كل حرف وكل نقطة مكتوبة أو موحى اليها .. شكرا إياد
شكرا جدا
تحدثت عن كل ما في داخلنا و ليس لنا الا الامل بالعودة يوما و نكدح لنبقى احياءا الى ذلك اليوم