1_952954_1_3

في الفردية وحرية الفرد

موقع الأوان – 25 آذار / مارس 2007

الفرد وجود عيانيّ مباشر؛ هذا لا مراء فيه، بدهية لا تحتاج إلى برهان. الواقع، ببعديه المادي والاجتماعي، واقع أفراديّ بطبيعته؛ هذا لا يحتاج إلى برهان أيضاً، لكننا لا نستطيع التعبير عن الفرد والمفرد إلا بالكلّي: سقراط إنسان. المسند إليه أو الخبر (إنسان) هو التحديد الأوّل والأخير للفرد الإنسانيّ، يحمل جميع التحديدات الأخرى. ولو لم يكن تحديداً أوّل لما أمكن أن يكون التحديد الأخير والنهائي. بين التحديد الأوّل والتحديد الأخير سيرورة | سيرورات تاريخية طويلة ومضنية ومعقّدة اغترب في خلالها الفرد عن ناتج عمله وعن عالمه وعن نفسه.
هذا يحيل بالضرورة على عنصر الكلّية أو العمومية في الفرد، وعلى الكلّية والعمومية المتواريتين خلف الواقع الأفراديّ، الذي تدركه الحواسّ، والذي لا يمكن معرفته وفهمه، كما هو، إلا بالذهاب إلى تينك الكلية والعمومية، أي إلى ما خلف الواقع الأفراديّ أو ما فوقه، وهذا مطَّرد في الأشياء والأحياء، بلا استثناء. هذا الـ ما فوق الواقع الأفراديّ هو الفكر. الفكر شكلُ العالم، مضمونُه صورُ الأشياء والأفراد وعلاقاتهم الداخلية والخارجية، في الذهن. وهو، أي الفكر، لا يعمل إلا بالكلّيات. ليس بوسعنا معرفة الفرد (س) إلا بالذهاب إلى العامّ والكلّي، اللذين ينطويان على جميع خصائصه النوعية، ثم بالعودة إليه، لنرى كيف تتجلّى فيه أو تتعيّن هذه الخصائص النوعية، فإنّ شكل تجلّيها أو تعيّنها ينطوي على جميع خصائصه الفردية. الفردي هو شكل وجود الكلّي، في الزمان والمكان، والكلّي هو تجريده الأخير. أشكال الوجود الإنسانيّ المفردة مختلفة اختلافات لا حصر لها، لذلك لا قيمة لحقوق الإنسان إذا لم تكن حقوق الفرد، ولا قيمة لحرية الإنسان إذا لم تكن حرية الفرد، في حياته الخاصة والعامّة، المادية والأخلاقية.
على صعيد آخر، الفرد هو الوجود العيانيّ، المباشر، لكون عامّ، أعني المجتمع والدولة، بوصفهما كلّية عينية، أو وحدة جدلية، تنطوي على ما لا حصر له من التعارضات والتناقضات. المجتمع والدولة، على نحو ما وصفناهما، هما شكل وجوده الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، وتجريده.1 (الدولة هي الحياة الأخلاقية للشعب، وهي التحديد الذاتي للشعب، وهي تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، بعبارات ماركس). فما كان ممكناً أن يكون اجتماعا بشريّا وتواصلا إنسانيّا لولا عنصرا الكلية والعمومية في أفراد النوع البشري، بلا استثناء. وليس من الممكن أن يعيش الفرد خارج المجتمع والدولة، فيستمد منهما هوية ما، والاستثناء، كالنساك والغجر السعداء، يؤكد القاعدة. لذلك أكّدنا مراراً أنّ الفرد أساس المجتمع والمواطن أساس الدولة، وأنّ الفرق بين المجتمع والدولة هو نفسه الفرق بين الفرد الطبيعي والمواطن. عنصر الكلية هو ما يجعل التواصل بين الأمم المختلفة وبين أفرادها ممكناً، فليس من أمّة خارج هذه الكلية الإنسانية ومن دونها، وليس من أمّة خارج التاريخ العامّ للبشرية، وليس من خصوصية تستحق اسمها إلا الخصوصية بوصفها تجلّياً خاصّاً للحياة الإنسانية العامّة ولكلّية الإنسان وكونيته. وهنا تتكشف مخاطر النزعات الخصوصية الحصرية، كالنازية وأمثالها، إثنية كانت أم دينية أم مذهبية.
هل خطر لأحدنا أن يتساءل لم لا نستطيع التعبير عن المفرد إلا بالكلّي (سقراط إنسان)؟ ولم كانت جميع مفردات اللغة، أيّ لغة على الإطلاق، كلّيات، ولم كان الفكر لا يعمل إلا بالكليات، وأنه لا معرفة إلا بالكليات؟ سأغامر بالقول: لأنّ مَلَكَةَ الحكم واحدة من أبرز الخصائص النوعية في الفرد الإنساني، وأنّ عملية |عمليات تعرّف العالم والإنسان تسفر عن نتائج هي بمنزلة الحقائق الكونية، للبشر كافّة، فلا عجب أن تتشابه أساطير الجماعات والشعوب وعقائدها وآدابها وفنونها وعلومها التجريبية خاصة، في مبادئها المؤسّسة، على الأقل. ولذلك يقال إنّ في تجربة أيّ جماعة وفي ثقافتها عناصر كونية عامّة، هي منجزات لبني الإنسان جميعاً، وإنّ ما هو خاصّ في تجربة أيّ جماعة وفي ثقافتها إنما هو محصّلة اختلاف الأفراد واختلاف اللغات واختلاف البيئات واختلاف الشروط. “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس”، بتعبير ديكارت، هنا تتجلّى على نحو لا لبس فيه وحدة الفرد والنوع.
لولا ذلك لما أمكن أن تستفيد الجماعات والشعوب والأمم من تراث أسلافها، مهما أوغل في القدم، ولما أمكن أن تستفيد أيّ أمّة من ثقافة أمّة أخرى وعلومها ومنجزاتها التقنية. الذات الإنسانية واحدة، في كلّ مكان وزمان، وموضوع معرفتها واحد أيضاً، هو الطبيعة أو الكون والإنسان ومنتجاتهما. هنا ينكشف بوضوح تهافت مقولة “صراع الحضارات” وصدامها، فإنّ التنافس وتعارض المصالح والميل إلى الاستيلاء على ما لدى الآخرين والاستئثار به، بالقوة أو باللّين، بالحرب أو بالتبادل والتجارة، تجري في إطار جماعة معيّنة أو أمّة معيّنة، مثلما تجري على الصعيد العالميّ. المبادئ واحدة والأساليب مختلفة، وكذلك الوسائل. أجل هنالك اختلافات وتعارضات ومنافسات ونزاعات تجري باطّراد بين الأفراد وبين الجماعات وبين الأمم والشعوب، نحن من نضفي عليها صفات عرقية أو لغوية أو ثقافية أو دينية .. لا تمتّ إلى حقيقتها بأيّ صلة موضوعية. الناس لا يقتتلون لأنّ لغاتهم مختلفة، فلا أحد يريد لغة غير لغته، ولا لأنّ ألوان بشراتهم مختلفة، فلا أحد يريد لبشرته لوناً غير لونها، ولا لأنّ عباداتهم ودياناتهم مختلفة، فلا أحد يريد ديناً غير دينه أو عبادة غير عبادته، الأيديولوجيات العرقية والدينية وغيرها أقنعة للواقع وأقنعة للمصالح بوجه خاص، الناس لم يقتتلوا يوماً على الجنّة أو على عمل الخير والأخلاق الكريمة. الحرب والتبادل أو التجارة يقبعان في أساس العلاقات الاجتماعية وفي أساس العلاقات الدولة القائمة على مبدأ القوة و“حق الأقوى”، واستبدال التجارة والتبادل بالحرب كان دوماً الطريق المؤدّية إلى التقدّم، وإلى نموّ البعد الإنساني، الكونيّ، في الأفراد والجماعات والأمم المختلفة. الأنانية التي نجدها في الأفراد، هي ذاتها في الجماعات والشعوب، وكذلك الغيرية والذاتية. أليست الأنانية حبّ الذات والميل إلى الاستيلاء على ما لدى الآخر والاستئثار به، باللين أو بالقوة؟ ألا تنطوي الأنانية دوماً على ميول عدوانية؟ ليس في الجماعة أو المجتمع والدولة شيء ليس موجوداً في الفرد، بالقوة أو بالفعل. وليس من شيء مادي أو معنوي أنتج أو يمكن إنتاجه إلا وهو موجود في العمل البشري، عمل الأفراد، بالفعل أو بالقوة. لعلّ تأمّل العمل البشريّ ومحاولة فهمة يكوّنان مدخلاً لفهم الفرد والمجتمع. مرّة أخرى، العمل البشريّ أبو المعرفة والطبيعة أمّه.
الفرد وجود عياني مباشر وبدهي، لكنّ الفردية ليست كذلك؛ الفرد شكل طبيعيّ للنوع؛ لكنّ الفردية ليست كذلك، الفردية ليست وجوداً مباشراً وبدهياً أو مجرّد شكل طبيعي، بل هي وعي الذات، هي أن يعي الفرد ذاته، بوصفه كائناً إنسانياً عاقلاً وأخلاقياً، حراً ومستقلاً، وأن يحبّ نفسه ويحترمها ويثق بها، بقدرٍ يعادل أو يفوق ميله إلى كسب محبّة الآخرين واحترامهم وثقتهم. فمن لا يثق بنفسه لا يثق بأحد، ولا يثق به أحد، ومن لا يحترم نفسه لا يسعه أن يحترم الآخرين وأن يحظى باحترامهم وتقديرهم، ومن لا يحبّ نفسه لا يستطيع أن يحبّ أحداً، ولا يحبّه أحد. وتبيّن لنا الخبرة العملية أنّ الأشخاص الذين نحترمهم ونقدّرهم ونحبّهم ونثق بهم يتوفّرون على درجة من الوعي بذواتهم جعلتهم يستحقّون محبّتنا وتقديرنا وثقتنا.
لا مفرّ من اعتبار الإنسان كائناً نوعياً، هو ذروة التطوّر الطبيعي، بغضّ النظر عن عوامل نشوئه وارتقائه وتاريخ ذينك النشوء والارتقاء، فما يهمّنا هنا أنّ كلّ فرد من أفراد النوع البشري كائن فريد، إذ مثلما يتعيّن النوع في أفراد مختلفين شكلاً، في كلّ شيء، تتعيّن الخصائص النوعية للإنسان في الخصائص الفردية المختلفة اختلافات لا حصر لها، بدءاً من البصمة الجينية. ومن ثمّ فإنّ الخصائص الفردية، لكلّ فرد على الإطلاق، هي الخصائص النوعية وقد تعيّنت في الفرد على أنها ماهيته وجوهره. الجوهر واحد وأشكال وجوده مختلفة أيما اختلاف، وكل اختلاف هو حدّ وفرق، في كلية عينية قوامها جدل الوحدة والاختلاف. ذلكم ما وضع تعارضاً جدلياً مقيماً بين الفرديّ والخاصّ والعامّ، على اعتبار الخاص (الجماعة والمجتمع) هو المركب الجدليّ من الحدّين، الأوّل والثالث.
فإنّ عملية أو سيرورة تكون الخصائص الفردية تبدأ من تشكُّل المصفوفة الجينية ولا تنتهي إلا بموت الفرد، وإنّ كلّ ما يكتسبه الفرد من معارف وخبرات لم يكن اكتسابه ممكناً لولا أنّ الفرد يحمل، كسائر أفراد النوع، استعدادات وقابليات لاكتسابها. جميع البشر يتوفّرون على استعدادات وقابليات وإمكانات متساوية، أمّا الاختلاف والتفاوت فمردّهما إلى الشروط الطبيعية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، التي يولد فيها الفرد. وإنّ ما نقرأ عنه وما نلاحظه من تفوّق ونبوغ مردّهما إلى هذه الشروط وإلى تركيز قوى الفرد وطاقاته في اتجاه معيّن، فضلاً عن شروط الصحة والسلامة أو المرض والاضطراب.
الفردية ليست بديهية، بل هي، بالأحرى، كلّ ما يكتسبه الفرد من معارف وخبرات ومهارات وما يقوم به من نشاط، في نطاق علاقاته بعالميه الطبيعي والاجتماعي، وفق درجة نموّ خصائصه النوعية وتفتحها وانبساطها. وتنطوي الفردية على ثلاثة مستويات متداخلة ومتعارضة جدلياً هي: 1 – الأنانية، وتعني حبّ الذات، على وجه الإطلاق، والميل إلى الاستئثار والاحتكار والميل إلى العدوان (الآخر في هذا المستوى عدوّ). 2 – الأنوية، وتعني حبّ الذات في الآخر وبدلالته، وتنطوي على التعلّق بقيم الخير والحقّ والجمال، ونشدان الحرية والمساواة والعدالة، ولكنها تنطوي على ميل متفاوت الشدّة إلى جعل الآخر موضوعاً لها، وهو ميل مقيّد بالقانون ومبادئ الحقّ والأخلاق، (الأخر منافس وشريك). وتنطوي، في الوقت نفسه، على المستوى الثالث، أي على الذاتية، التي هي حبّ الآخر في الذات وبدلالتها، وتعني الاستقلال والحرية والشفافية والانفتاح والتواصل (الآخر هنا شريك). والشخصية هي هذه المستويات، منظوراً إليها في وحدتها التناقضية. ومن الضروري أن نشير إلى أنّ الأنانية تدلّ على الجذر الطبيعي للفرد، الجذر التي تتكفل الحياة الاجتماعية بصقله وتهذيبه، بدءاً من الأسرة، بوصفها مؤسسة طبيعية من جهة، ومؤسسة أخلاقية هي نواة المجتمع، من جهة أخرى. ففي كنف الأسرة يبدأ استقلال الفرد عن الطبيعة باستقلاله عن جسد أمه أوّلاً ثم باستقلاله عن والديه واستغنائه عن رعايتهما وحمايتهما له وتحرّره من سلطتهما، وتحريرهما في الوقت نفسه من مسؤولية إعالته والإنفاق عليه. هذا الاستقلال هو الخطوة الأولى في طريق تكوّن الفردية.
فإنّ نسغ الحياة الإنسانية، المادية والأخلاقية، ينطلق، في كلّ لحظة، من الذات إلى الآخر وإلى الموضوع، مادّياً كان الموضوع أم أخلاقياً، ثم إلى الذات، وهكذا، في ما يشبه الدورة الدموية في جسم الفرد. نسغ الحياة هذا هو الحبّ: حبّ الذات، ثم حبّ الذات في الآخر ثمّ حبّ الآخر في الذات. والحبّ، في جميع الأحوال، مقترن بالكره والنفور اقترانَ الحياة بالموت. الكره والنفور يتحوّلان إلى تنافس، والتنافس نفسه يتحوّل إمّا إلى شراكة، بتغيّر أشكاله وموضوعاته، وإمّا إلى كره ونفور وعداوة. هذا ما نحن عليه اليوم، لكنّ حبّ الآخر في الذات وعد لمستقبل بعيد، لا تخلو حياتنا من أجنته وإرهاصاته، ولكن بومة منيرفا لا تطير إلا في الظلام.
في خلال هذه الدورة، التي لا تتوقّف إلا بتوقّف حياته، ينسج الفرد شبكة من العلاقات الضرورية والإرادية، ويكتسب منها ما يسعه من المعارف والخبرات تصير جميعها جزءاً لا يتجزّأ من نسيج الشخصية أو بنيتها، وتتّحد بخصائصه النوعية، بوصف الأخيرة جملة حيّة من القابليات والملكات والدوافع، مؤلّفة ما يسمّيه أفكاره وآراءه وتطلّعاته ومحدّدة تفضيلاته وانحيازاته ومواقفه من ذاته ومن عالمه الطبيعي والأخلاقي، ومن الآخر | الآخرين بوجه خاصّ، ومن الجنس الآخر بوجه أخصّ. ومن البديهي أنه كلما اتّسعت دائرة علاقات الفرد وتنوّعت، وكلّما نمت معارفه وخبراته تصير شخصيته أكثر غنى وثراء.

93 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>