في اللحظة السورية الراهنة: هل من سبيل؟

خلال السنوات التي تلت انطلاق الثورة السورية، دفع السوريون أثمانًا عالية للظفر بالحرية وإنهاء الاستبداد، وللخروج من حالة الهامشية التي فرضتها عليهم طغمة غاشمة، ظلت تنكمش تدريجًا، طوال نصف قرن، من مجموعة عقائدية إلى جماعة ضيقة نهّابة، فاسدة ومفسدة، أخذت الدولة رهينة، إلى أن ظهرت عارية خلال فترة الثورة السورية كعصابة أطلقت تهديدًا بحرق البلد وأهله في سبيل تأبيد حكمها وامتيازاتها، وطبقته حرفيًّا، ما فتح الباب واسعًا لحدوث تدخلات إقليمية ودولية متعدّدة، لتتحول سورية إلى ساحة صراع مفتوحة، ولتصبح البقعة المكثفة لفهم تعقيدات أساسية في الصراع الدولي، والمكان الحافل الذي تختلف فيه المصالح وتتلاقى.

 

تحوّلت سورية إلى ساحة صراع لدول كبرى وصغرى تجذبها طموحاتها أو تدفعها هواجسها أو رغبتها في اقتناص المكاسب وتجنّب الخسارة والتراجع؛ والعامل المحفز الأساسي هو “إعادة التموضع الأميركي”، فبعض الدول ترى في التغير النوعي في إستراتيجية وسلوك الإمبراطورية المهيمنة دوليًّا فرصة مواتية لتثبيت وجودها ومصالحها بسرعة، وبعضها الآخر يخشى أن يكون من الخاسرين المهدَّدين بحكم اعتماده لزمن طويل على الدور الأميركي.

 

أولًا: قصف حلب، والسعي القديم الجديد لحسمٍ عسكري

كان التفاهم الأميركي الروسي “اتفاق الهدنة السورية” الذي دخل حيز التطبيق في 12 أيلول/ سبتمبر مبهمًا وغير متوازن، وبدا وكأنه هندسة روسية بدمغة أميركية. التباساته وتعويله على نيات موسكو و”النظام السوري” وإيران وقبول واشنطن به بوصفه “أفضل” الموجود، يجعله بالضرورة غير قابل للحياة والتطوير باتجاه إيجاد مخرج للكارثة السورية.

 

جاءت المشاركة الروسية في قصف شرقي حلب، وفي قصف قافلة مساعدات الأمم المتحدة في بلدة “أورم الكبرى” الذي راح ضحيّته 12 مدنيًّا جميعهم من أفراد عمال الإغاثة وسائقي الحافلات، في باب المفاوضات الساخنة مع الولايات المتحدة التي يدفع ثمنها السوريون من أرواحهم ودمائهم؛ وقد جاء القصف ردًا، على ما يبدو، على قصف أميركا في 16 أيلول/ سبتمبر لموقع تابع لقوات “النظام السوري” راح ضحيته أكثر من 80 عسكريًا، يُعتقد أن بينهم روس وإيرانيون.

 

في جلسة مجلس الأمن في 21 أيلول/ سبتمبر 2016، قدم المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، إطاره التنفيذي للمرحلة الانتقالية، أطاح فيه الرؤية التي قدمتها “الهيئة العليا للمفاوضات” أخيرًا، وكذلك المبادئ الأممية التي جاءت في بيان جنيف1 لعام 2012، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، خصوصًا القرار 2254 لعام 2015، ولا سيّما ما يتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. كما ظهر في هذه الجلسة خلاف أميركي روسي واضح، وتبادل للاتهامات في شأن خروقات الهدنة المتفق عليها، لتنتهي الجلسة بعلائم انسداد الآفاق وبعدم ظهور إرادة جدية لإنقاذ وقف إطلاق النار الهش.

 

بدأ “النظام السوري” وحلفاؤه الروس والإيرانيون، بعد أسبوعين من إعلان موسكو وواشنطن وقفًا لإطلاق النار، في 23 أيلول/ سبتمبر عملية واسعة لتحقيق نصر عسكري حاسم في حلب، بعد أن شدّدت قوات “النظام السوري” حصارها البري عليها مانعة دخول المساعدات الإنسانية والغذائية التي أُقرّ تمريرها عبر ممرات إنسانية وفق اتفاق الهدنة بين لافروف وكيري. وتشهد حلب اليوم مذبحة بشرية بفعل القصف العشوائي للطائرات الروسية والسورية، وكذلك المدفعية بعيدة المدى والبراميل المتفجرة، وقد أوقع القصف على حلب خلال الأيام الماضية (23-25 أيلول/ سبتمبر)، بحسب أرقام “الدفاع المدني السوري”، نحو ثلاثمئة وثلاثين قتيلًا، وأكثر من ألفٍ وثلاثمئة جريح.

 

جدير بالذكر أن العملية العسكرية الروسية قد تزامنت مع تصريح للجنرال يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، بأن “هناك اتفاقًا أميركيًّا – روسيًّا يجري تحت الطاولة بشأن سورية يتجاهل مصالح إيران”، ولعل هذا يفسر مشاركة إيران في العملية العسكرية، لنقض الاتفاق الأميريكي الروسي الذي لم يكن قد جفَّ حبره بعد.

 

ثانيًا: البيئة الدولية والإقليمية

لا يظهر أن هناك ميلًا دوليًا في اللحظة الراهنة لحلّ الصراع في سورية، كما كان الحال طوال السنوات الماضية، والسبب الرئيس هو عدم وجود إرادة بذلك لدى الإدارة الأميركية الحالية؛ فقد انكفأت الإدارة هذه عن القيام بالدور القيادي المعروف في الشرق الأوسط، وكانت طوال خمس سنوات ونصف تدير الأزمة السورية من دون كثير اهتمامٍ بطرح رؤية سياسة حاسمة، وظهرت في البداية متردِّدة تجاه مسألة رحيل الأسد؛ لكنها مالت بوضوح منذ النصف الثاني لعام 2012 نحو تعويم ما تبقّى من “النظام السوري”، والتراجع عن خطوات سحب الشرعية الدولية منه، عن طريق إعادة توزيع المساعدات الدولية عبره، ثم عادت وأدمجته في “المجتمع الدولي” بعد مجزرة الكيماوي في 21 آب/ أغسطس 2013، والسبب الظاهري هو القناعة الأميركية التي لا تزال ثابتة بغياب بديل ترضى عنه.

 

وبحكم ذلك، اتبعت الإدارة الأميركية طريق الحلول الجزئية، فاستمرت في إدارة الصراع بحيث تستنزف أعداءها، وترك الجميع ينهكون بعضهم بعضًا، والاكتفاء بقصف تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومساندة “وحدات الحماية الكردية” في قتالها له، لكن من دون السماح بسقوط سلطة الأسد أو الفصائل العسكرية المعارضة، ومن دون السماح بانتصار أي طرف، بانتظار أن تكون الأطراف مستعدّةً للشروع في بناء نظام جديد يناسبها إلى هذا الحدّ أو ذاك؛ فهي تسعى للاستفادة من وجود جميع القوى والفصائل العسكرية في المفاوضات لرسم معالم النظام الجديد، وربما لرسم خطوط فصل بهدف التقسيم.

 

في إطار تسويقه للتفاهم الأميركي الروسي الأخير حول سورية، قال جون كيري “إن هذا الاتفاق يشكل الفرصة الأخيرة لإنقاذ وحدة سورية”، ما دفع محللين ومتابعين للتشكيك بوجود نية أميركية لتقسيم سورية؛ لكن السياسة الأميركية، في اللحظة الراهنة، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، تعمل -على ما يبدو- على ترحيل “المسألة السورية” إلى ما بعد تولي إدارة أميركية جديدة المسؤولية في البيت الأبيض، ولا تجد نفسها معنية إلا بمحاولات خفض سقف العنف إلى أدنى حدّ ممكن.

 

أما روسيا، فقد عملت على فرض واقع عسكري جديد في سورية، بعد تدخلها العسكري المباشر ابتداءً من 30 سبتمبر/ أيلول 2015 بهدف حماية سيطرة النظام على الساحل السوري ووسط البلاد وصولًا إلى العاصمة دمشق، وتمكين قواته بمساعدة حلفائها من استعادة أبرز المناطق الإستراتيجية التي خسرتها؛ وقد أربك التدخل الروسي معظم الفاعلين الدوليين والإقليميين باستثناء إيران و”إسرائيل”؛ ويأتي قصفها لحلب اليوم، بعد فشل الهدنة استنادًا إلى الاتفاق مع أميركا، كمسعى لفرض واقع جديد في مصلحتها قبل مغادرة أوباما للبيت الأبيض.

 

يلاحظ أيضًا غياب سياسة خارجية أوروبية موحدة تجاه سورية، وتخبّط قرارات الاتحاد الأوروبي في مواجهة أزمة اللاجئين والنازحين على حدود الاتحاد الشرقية والجنوبية، فضلًا عن أن أوروبا نفسها ليست في موقع مرجِّح أو حاسم أصلًا من دون قرار أميركي واضح. وقد ظهر بوضوح في الآونة الأخيرة أن أميركا تستفرد بالتفاوض مع روسيا، وتتفادى التصعيد السياسي أو التهديد بإجراءات ضغط على الأسد أو على روسيا وإيران لفرض تنحِّيه خلال المرحلة الانتقالية.

 

أما القوى الإقليمية، فهي منشغلة بأولوياتٍ تحدّ من قدراتها على التأثير في الوضع السوري: تركيا منشغلة بتداعيات الانقلاب العسكري الفاشل، وبإعادة ترتيب علاقاتها بروسيا و”إسرائيل” بعد العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة؛ وبعملية “درع الفرات” ذات السقف المحدود أميركيًا والموجهة بشكل خاص ضد مساعي “وحدات الحماية الكردية” لبناء حكم ذاتي أو ما يشبهه على الحدود الجنوبية لتركيا؛ فيما السعودية منخرطة في الحرب اليمنية ومواجهة إيران بعد تحسن علاقاتها مع “المجتمع الدولي” في عقب الاتفاق النووي؛ ولم يرشح عن هاتين الدولتين الأكثر تشددًا تجاه نظام الأسد ما يوحي بقدرتهما على تجاوز السقف الموضوع أميركيًّا، إن لجهة تسليح بعض فصائل المعارضة بما يسمح لها بمواجهة قوات النظام وحلفائه أو حتى لجهة التدخل المباشر في حلب ضدّ قوات النظام السوري وداعميه أو لجهة تحريك الجنوب السوري عسكريًا.

 

تتزامن هذه البيئة الدولية والإقليمية مع التراجع العسكري لقوات المعارضة المسلحة، فقد تمكنت قوات النظام السوري، بمساعدة الضربات الروسية لمواقع المعارضة المسلحة في حلب وريفها من تشديد الطوق على جيوب المعارضة في مناطق عدة، خصوصًا بعد أن زادت إيران من إرسال وحدات من جيشها النظامي إلى سورية؛ وفي وقت سابق استطاعت قوات النظام والميليشيات الداعمة لها إخراج المعارضة المسلحة والمدنيين من داريا التي لها مكانة رمزية عالية، ودخلت في مفاوضات مباشرة مع أهالي المعضمية وحي الوعر بهدف تصفية جميع الجيوب المعارضة الخطرة، وإجراء تغييرات ديموغرافية استعدادًا لأي احتمالات مستقبلية.

 

ثالثًا: إستراتيجية النظام السوري وداعميه

ظهر جليًّا أن النظام السوري ومن خلفه المسؤولون في موسكو وطهران يتبعون الاستراتيجية التالية:

أ- الاستمرار ميدانيًا في مسعى الحسم العسكري عبر التجميع الدائم للقوات النظامية والميليشيات الحليفة والاستعداد لمعارك جديدة من أجل قضم مواقع مهمة للمعارضة المسلحة تدريجيًا، وبما يهدف إلى الإبقاء فقط على “تنظيم الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة” (إضافة طبعًا إلى المناطق التي تسيطر عليها “وحدات الحماية” الكردية). وهذا يعني أن المطالبة برحيل الأسد لم تعد محمولة من قوى وازنة عسكريًّا ومقبولة دوليًّا ومسيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية.

ب- تعميم صفة الإرهاب على جميع فصائل المعارضة المسلحة، ورفض أي حديث حول الانتقال السياسي في سورية أو حول رحيل الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به بعدّه “شأنًا سوريًا خالصًا”.

ج- التشدّد في الملفات الإنسانية عشية كل جولة تفاوضية، ثم إظهار “النيات الحسنة” عبر السماح للأمم المتحدة بتمرير قافلة مساعدات إلى واحدة من المناطق المحاصرة، ما يعني استخدام الحصار والتجويع لخدمة استراتيجية الإخضاع البطيء لبعض المناطق من جهة، واستخدام الاتصالات الدولية والأممية الساعية لفكّ الحصار وإدخال المساعدات لإضفاء “مشروعية دولية” على وجود “النظام السوري”، على الرغم من أن إدخال بعض المساعدات لا يغير من واقع الحصار إلا بدرجة بسيطة وموقّتة.

 

أخيرًا: هل هناك إمكانية لحل قريب؟

يظهر من البيئة الدولية والإقليمية، ومن مجمل التطورات الميدانية داخل سورية، ومن إستراتيجية “النظام السوري” وداعميه (روسيا وإيران) أن لا حلَّ سياسيًّا في المستقبل القريب، ولا إمكانية لحدوث انتقال سياسي، وأن الاحتمال الأرجح والمسيطر هو استمرار الصراع في سورية بأدوات وآليات متنوعة. مع ذلك، لا بدّ من أن يكون هناك حلّ سياسي بالتأكيد، في مرحلة ما؛ الأمر الذي يعني ضرورة اهتمام قوى المجتمع السوري بتقديم رؤاها وتصوراتها بشكل مدروس وتفصيلي حول عملية الانتقال السياسي المأمولة في سورية.

 

تبدو الحالة السورية اليوم استثناء من حيث شدة العنف والتدمير الممنهجين، وحجم الكارثة الناتجة، وزمنها الطويل، ومن حيث إصرار الطغمة الحاكمة وحلفائها على تحقيق انتصار عسكري مطلق عبر الإنهاء الكامل للبيئة المعارضة، وليس لتشكيلاتها السياسية والعسكرية فحسب، ما يؤكد همجية هذه الطغمة، ويقدم دلائل دامغة على طبيعة “الحل السياسي” الذي تريده وتسعى لفرضه عسكريًا.

 

هناك حاجة إلى التعامل مع الوقائع والبحث في الممكنات لدخول المستقبل؛ فمهما كان الواقع مريرًا، فإنه يحتوي دائمًا على إمكان القيام بعمل إيجابي لمصلحة سورية والسوريين، وربما يكون ذلك عبر إنتاج مراكز عمل سياسية جديدة تنتمي إلى الإجماع الوطني السوري، وتجتهد للتعبير عنه، مع إدراك أهمية التشبيك والتحالف في تكريسه نظريًّا وعمليًّا، لأنه لا غنى عنه في الحصيلة كي نتمكن من القول بإمكانية بناء سورية جديدة ونظام سياسي جديد.

 

 

المكتب السياسي لحزب الجمهورية                26 أيلول/ سبتمبر 2016

127 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *