شهرا عسل روسيان


عمر قدور

في اليوم الواحد والستين من بدء العدوان الروسي، قصفت الطائرات الروسية سوقاً شعبية في مدينة “أريحا” السورية، موقعة أكثر من 60 قتيلاً مدنياً. قبل ذلك بيوم واحد كان الطيران الروسي قد ارتكب مجزرة في مدينة “بنّش”، وثمة إنذار على صفحات موالي النظام مفاده أن المجازر ستتصاعد لتبلغ أرقاماً غير مسبوقة. أَسْفَهُ ما قد نطالعه في تبرير هذه المجازر أنها تأتي رداً على إسقاط الطائرة الروسية من قبل الجيش التركي، فذلك يكرس الضحايا السوريين بوصفهم مجرد أدوات للأخذ والرد بين جهات دولية وإقليمية، والأكثر انحطاطاً على الصعيد الأخلاقي أنه يجعل منهم مسؤولية تركية، لا مسؤولية روسية بموجب اتفاقيات جنيف لحماية المدنيين أثناء الحرب، ولا مسؤولية دولية عامة بموجب القانون الإنساني الدولي.

إسقاط الطائرة الروسية قبل أسبوع استهلك معظم التحليلات التي تخص الشأن السوري بحيث بدا كأن العدوان الروسي انطلق رداً على إسقاطها. وحتى إذا تجاوزنا سفاهة هذا المنطق، من ناحية استهتاره المطلق بأرواح السوريين، فهو لا يستقيم لجهة ما كان يفعله الطيران الروسي قبل إسقاط الطائرة؛ الطيران الذي استهدف من قبل ما يزيد عن عشرة مستشفيات والعديد من الأسواق الشعبية والمناطق السكنية الخالصة؛ الطيران الذي استهدفت نسبة 90% من غاراته مناطق لا يسيطر عليها داعش. إذاً، لماذا تستهلك منابر إعلامية كبرى، دولية وعربية، الوقت لربط تلك المجريات بما يُزعم أنها مبارزة بين “القيصر” و”السلطان”؟

ما بات واضحاً، بعد مضي يوم واحد من إسقاط الطائرة الروسية، أن الأمر لا يفتح صفحة جديدة من الصراع حول سوريا، فالإدارة الأمريكية وحلف الناتو اتخذا مسار التهدئة. إعلام بعض الدول الخليجية لم يقصّر في إبداء الامتعاض من الحادثة منذ اللحظات الأولى، ويمكن فهم ذلك على أن تطوراً مهماً لم يحدث فيما يخص رؤية الطرفين إزاء مصر. يُفترض بناء عليه أن يكون الحادث برمته عرضياً، وألا يكون له تأثير على المجريات الميدانية السورية، التي يُفترض أيضاً أنها باتت خاضعة لتفاهمات الحد الأدنى التي توافق عليها المجتمعون في فيينا2، إذا شئنا تصديق وجود تفاهمات حقيقية لا تتعدى استهلاك المزيد من الوقت.

ما يزيد الأمر ابتذالاً اعتبار إسقاط الطائرة رداً على زيارة بوتين إلى طهران، وكأن تركيا هي الطرف المتضرر من التمدد الإيراني في أربعة بلدان عربية. الأهم أن إثارة موضوع الرد على هذا النحو يتجاهل ما أعلنته موسكو وطهران عن اتفاقهما على التمسك ببشار الأسد، بعد أن كان الأخير قد صرّح خلافاً لبنود فيينا ألا انتخابات في سوريا قبل القضاء على الإرهاب، وهو ما عاد الناطق باسم الكرملين لتأكيده بعده بثلاثة أيام. فإما أن هناك استهتاراً من قبل المعنيين الآخرين بتلك التطورات، أو أن الحكومة التركية هي الطرف الوحيد في مجموعة فيينا الذي يعارض بقاء الأسد.

قبل ذلك، كان الكثير قد قيل عن سعي روسي لإبرام تسوية بالتزامن مع بدء الغارات الجوية، وقيل الكثير أيضاً عن عدم رغبة الروس بتورط طويل الأمد في سوريا، حتى بدا من الضروري مساعدة الروس على عدم التورط ومن ثم التصلب في الموقف السياسي! كارثة هذه التحليلات أنها لا تبقي احتمالاً آخر له وجاهته، وهو سعي الروس إلى إشغال بعض الدول بالمفاوضات بينما يسير مخطط القضاء على المعارضة ميدانياً، وهو احتمال يفسّر استمرار العدوان قبل فيينا وبعده، بل تصاعده بعد فيينا، وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن الدول تعكف على التمييز بين الفصائل المعتدلة والإرهابية.

بخلاف مختلف الذرائع والتلفيقات، الأقرب إلى الواقع أن العدوان الروسي حظي بشَهْري عسل من قبل طيف واسع من القوى الدولية والإقليمية. ولا يجوز تبرئة أصحاب القرار من فهم النوايا الروسية، ولا حتى تبرئتهم من فهم الدبلوماسية الروسية في الملف السوري، الدبلوماسية التي نالت جزءاً مما تريد في فيينا2، وتفاوض الآن بدماء السوريين على الإقرار ببقاء الأسد في فيينا3 الذي يُفترض انعقاده بعد أسبوعين من الآن. وعندما نشير إلى شهري عسل فالروس أصلاً كانوا يتوقون إلى ثلاثة أشهر، ينجز خلالها طيرانهم المهمة الأكبر من القضاء على ما يسمى المعارضة المعتدلة. عين موسكو الآن على فيينا3، لا لشيء سوى استهلاك مزيد من المفاوضات في الجدل حول تصنيف المنظمات الإرهابية، بينما تستهدف غاراتها تلك التي تراها دول أخرى معتدلة.

وإذا كان المخطط الروسي لم ينفذ أهدافه حتى الآن فهذا لا يُحسب لأيّ من القوى الإقليمية بقدر ما يُحسب لمقاوميه على الأرض. إذ من الواضح أنه حتى جرعات التاو التي وصلت إلى المعارضة كانت محسوبة ولا تمكنها من إيقاع خسائر فاضحة بقوات النظام. الفضل الآخر في إعاقة المخطط الروسي يعود إلى النظام والميليشيات الشيعية المتحالفة معه، فموسكو لم تقدّر جيداً مقدار الإنهاك الذي وصلت إليه، ولم تدرك معنى عدم قدرة تلك القوات على تحقيق النصر رغم السيطرة الجوية التي احتكرها النظام طوال الوقت.

لقد تواطأت كافة القوى على النفخ في البالون الروسي، لا لتوريطه وإنما توسماً بأن يقبل ويفرض تسوية تحفظ ماء وجوه الجميع. الطريف أن موسكو باتت تطمح إلى أبعد من ذلك، فالتهديدات التي يروّجها الإعلام الروسي وصلت إلى حدّ الحديث عن محو دول من الخارطة. أما فحوى ما تبطنه التهديدات فهو: عليكم تقديم المزيد من العسل للدب الذي باركتم قدومه.

 

المصدر: المدن

16 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *