كوجيتو السويداء الجربوعي وأزمة العقل المشيخي


مضر رياض الدبس

خاص لموقع حزب الجمهورية

بالعموم، عندما نقرأ وصفاً يجمعُ الشيخ، حيث يُتَّبَعُ التسليم واليقين منهجاً، مع العقل، حيث يُتَّبَعُ الشكُ والنسبي منهجاً، تتبادرُ إلى الذهن حزمةٌ من الأسئلة: هل انحنى العقلُ للنيرِ فرضيَّ بأن يُسمَّى جاهلاً؟ أليس من الغريب أن يُوسَمَ مبدأُ الرِضى والتسليم بالعقل فيما من لايضع للفكر وللتفكير حدوداً أسطورية يُوسَمُ بالجهالة؟ هل يستوي أن يقبع العقل، مقتنعاً، بين التابوهات ويسلك مسلك الرضى والتسليم باعتباره نهاية العلم والتعليم ثم يُنعَتُ مَن ما زالَ قادراً على التفكير والربط المنهجي بالجاهل؟…((أنا أفكر إذن أنا جاهل وأنا لا أفكر إذن أنا عاقل))! هذا هو الكوجيتو الجربوعي الأمني الجديد (نسبةً إلى يوسف جربوع أحد مشايخ العقل) الذي حلّ مكان الكوجيتو الديكارتي الأصلي في عقلية المشيخة التي تصول وتجول في السويداء اليوم وقدّ طَغت باسم العقلِ على العقل، وباسم الله على تعاليم السلام. ألم يحن الوقت بعد لجميع أبناء السويداء الذين تُحبّذ عقليات المشيخة نعتهم بالجهلاء، أن يهتدوا إلى المقاربة التي تقود إليها أبسط أنواع المعرفة، والتي يكفي امتلاك اللغة للتعبير عنها، والتي تفيد بأنك إن لم تعرف فكر وتعاليم دينك (كما تفرض التعاليم المشيخية)، وبأنك درزي بالولادة دون العقيدة، فأنت غير مُلزم بأن تنحني لهذا الفكر، وإن فعلت، ولو تحت نير الثقافة، فإنك لا تقوم إلا بتحويل اللغة إلى كلمات؟… هكذا يُعلَّم الدين دون الكلام عن الإيمان، وهكذا يُكوَّن الجهل المقدس، وهكذا تُطلق الصفات من دون أهليةٍ لها، فتصبح مقاوماً وممانعاً من دون طلقة واحدة على العدو، وتصبح وحدوياً من دون وحدة، ومبشراً بالحرية من خلال منظومة استبدادية مافوية، واشتراكياً من خلال التشارك مع الطغمة الاقتصادية الحاكمة…

هذه الحالة التي تدَّعي فيها السلطة الروحية المتمثلة بمشايخ العقل في السويداء صفة نيابية عن الجميع، والتي يدير فيها الدين الجربوعي الأمني الجديد الأحداث من الخلف، هي حالة سياسية بالدرجة الأولى، تتكون فيها أيديولوجيا تُماهي قسراً وتعسفاً بين الثقافة والدين، فلا يعود الدين ديناً، ولا تعود الثقافة طبيعية. وبالتالي نحن أمام تشويهٍ ثانٍ لحالة مشوهةٍ أصلاً. وبالتأكيد يُشكِّل غياب انتماء وطني صحي، والإخفاق في صناعته وبلورته على المستوى السوري بالمجمل، فرصةً لنمو الانتماءات الهوياتية المريضة. لا يمكن مع حالة دينية كهذه: تحكمُ باسم الثقافة وتتماهى معها حتى يصعب تمييز ما هو ديني عمّا هو ثقافي، إلا أن يكون الأفراد بشكل عام غير قادرين على إدراك الطبيعة الحقيقية لواقع الحياة العامة، ولواقع المعطيات السياسية والاجتماعية المحيطة بهم، مِما يُسهِّل خداعهم وتأليف الأكاذيب على مسامعهم دون تردد، ومِما يجعل المجتمع مهزوماً أمام أي نوعٍ من أنواع الاستبداد، فما يسمى بمشيخة العقل خصوصاً وأدلوجة التجمع الدرزي في السويداء عموماً هي أيديولوجيا دينية وليست الدين: قامت بتسييس الدين والتعالي بهذا التسييس. هي أيديولوجيا ثقافية وليست الثقافة: ربطت الثقافة بالدين وبوهمٍ مؤسطر للتاريخ والحاضر. كانت ككل الأيديولوجيات الدينية، وإن بشكلٍ غير واضح تماماً، تقوم على ممارسة السياسة في الدين، وعلى تسييس المتعالي والتعالي بالسياسة على حد تعبيرات الجابري.

ما تقوم به مشيخة العقل بالباطن هو ما تفعله عقليات المشيخة بالظاهر، هو تفضيل أصالةٍ وهميةٍ مُستبدةٍ مُفتعلةٍ ومشوشة على أصالةِ الفرد بوصفه إنسان. والمشكلة التي تبدو أكبر أن هذا التفضيل يجعل من الصعب على مريدية استيعاب مفاهيمٍ كالحرية بشكلها الصحيح والموضوعي الذي ينتج رفاه الإنسان وسعادته، ويصبح المفهوم مشوهاً مؤدلجاً في الأذهان التي يسهل التلاعب بها من قبل عقلية الطغمة الأمنية المُسيطرة في السويداء. والحل يكمن في أن تعيش ثورة في قلب هذه الثقافة، تحولها لثقافة النقد لا التسليم، وتُعلي من شأن الإبداع بدلاً من التقليد، والحرية بدلاً من الاستبداد، والتفكير العقلاني بدلاً من التصفيق لتجهيل العقول، وأخيراً تُحكِّمُ العقل الشكِّي النقدي بدلاً من العقل المشيخي الأسطوري.

312 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *