الائتلاف البعثي لقوى الثورة والمعارضة


مضر رياض الدبس

خاص بموقع حزب الجمهورية

تُشكّل نهاجية التفكير التي تُؤثر في طبيعة الوعي وتتأثر به الجذرَ الفكري الذي يحدد طبيعة السياسة وسلوك السياسيين. ولقد اتصف هذا الجذر في سورية، وفي المنطقة العربية عموماً، بالطابع الدوغمائي: أي الطابع الذي توجه سلوكه الفكرة العقائدية الثاوية في العقل العربي، بما تتضمنه هذه الفكرة من افتراض امتلاكها للحقيقة المطلقة التي اجتُرِحَت في مرحلة ما من الماضي وإلى الأبد. وتتعارض هذه النهاجية مع النهاجية العلمية الحداثوية التي ترى نسبية كافة الحقائق وإمكانية تجاوزها الدائم بفعل النشاط العقلاني. تُنتِجُ الأولى التعصب، وضمور الواقعي في عين السياسي على حساب تضخم الخيالي والأيديولوجي، فيما تُنتج الثانية بيئة خصبة للتطور والديمقراطية والتسامح والحوار. وعند تطعيم الجذر الدوغمائي ببراعم ذات جذر حداثوي: أي عند محاولة تبني الفكر الحديث دون تغيير في منهجية التفكير وبالتالي دون انعكاس على الوعي، وهذا هو الغالب في الاجتماع السياسي العربي، تتوالد خلطات هجينية مشوَّهة من الأفكار السياسية، وتتكون عقول سياسية تائهة ومشوّشة. وقياساً على ذلك يمكن استنتاج وتفسير الطبيعة الإيمانية للأحزاب الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية العربية. وقد كان حزب البعث بهذا المعنى حزب إيماني يشبه في نمط تفكيره العميق أي حزب ديني وهكذا كانت جميع الأحزاب اليسارية السورية…

ولم تكن المعارضة السورية الحالية استثناءً في أغلب تمظهراتها، اشتركت في هذا الجذر الدوغمائي، ولم تكن حداثوية إلا بتحديث التقليد البدوي القابع في الرؤوس، وتجديد الفكر الرومانسي الحالم على قاعدة بعيدة عن الواقع ومتغيراته، لا تأخذ مفاعيل الزمن وفعل المراكمة بعين الاعتبار، فتجررها الأحداث وتتسم مواقفها بالزعبرة والنطنطة. الفكر الدوغمائي فكر غير ديمقراطي بطبيعته، ذلك أن الفكر الديمقراطي يرتكز على نهاجية علمية تنظر في تاريخية المعرفة، عقلانيتها، نسبيتها، والديمقراطية نظام علمي دنيوي يقوم على الفكر النقدي، وليست نظام فتاوى يقوم على العقائد المطلقة. يفسر الفكر الدوغمائي سبب افتقار المعارضة السورية للتشبع بمبادئ التعددية والتعامل مع اختلاف الرأي، ويفسر الرؤية السطحية التي تصدِّرُها عند الحديث عن ((وحدة المعارضة)). ويفسر أيضاً اختزال معنى السياسة إلى الصراع على السلطة والاستحواذ على أماكن صناعة القرار دون الأخذ بالمحتوى المدني للسياسة المتمثل في المساواة وتحقيق المصلحة العامة. فتجد أن أغلب وقت الساسة في هيئات المعارضة يُصرف على الانتخابات والتكتلات للفوز بسباق الرئاسة، والأنكى أنهم يعتبرون هذا السلوك ديمقراطياً وليس بدوقراطياً.

إن السياسة اليوم بحاجة ماسة لتغيير المنهج وتطوير الوعي، بحاجة للتغلب على ثقافة الكسل وعلى ثقافة ((عجّل نصرك يا الله)) بشكلها التواكلي القائم. بحاجة إلى إدراك دقيق للواقع، والقدرة على الفصل بين الرغبة والواقع: أي أنها لا بد أن تستبدل منهجية ((الشلف التأويلي)) بمنهج التدقيق العقلاني و((التقاط الطفّ))، على حد تعبيرات ياسين الحافظ، أي الانتقال من التقليد والببغائية إلى العقلانية ومراكمة المعرفة وبذل الجهد في التنقيب والتحليل انطلاقاً من عناصر الواقع وعلاقته الجدلية مع الفكر، والاهتمام بـ((التدقيق المطفف)): أي الذي يدرك الفروقات الطفيفة بين الأفكار وبين الأشياء.

بهذا المعنى وبهذا السياق، لا نجد حرجاً في تسمية هيئات المعارضة: الائتلاف البعثي لقوى الثورة والمعارضة، هيئة التنسيق البعثية، حركة الإخوان البعثيون… كما لا نجد حرجاً في أن نطلق على حزب البعث: حزب الإخوان العربي الاشتراكي السلفي، وقس على ذلك. فالجذر المنهجي لكل هذه التجمعات واحد وإن اختلفت الأهداف:  جذر العقل الدوغمائي التقليدوي. والعقل الدوغمائي يهجو الواقع إلى الحد الذي يغيب فيه الواقع لصالح الأيديولوجي. وكل من يتبنى رأياً مخالفاً، وفق هذا العقل، يعتبر كافراً/خائناً، وجميع مآسينا حسب محاكماته سببها القَدر/المؤامرة. العقائدية تنتج تخويناً وهذا ما يفسر التخوين المستمر بين الائتلاف وهيئة التنسيق مثلاً، والعقائدية اتكالية على قوى غيبية، فتُنتج كَسَلاً وكُسالى، وهذا يفسر الاستمرار في تغييب التحليل العقلي الذي يتطلب الجهد والمثابرة واستبداله بالتقليد الأسهل الذي لا يحتاج تحليلاً ولا يحتاج حتى عقلاً، لا يحتاج أكثر من مزاودة وزعبرة. الثورة على الاستبداد البعثي يجب أن تترافق بثورة سياسية واجتماعية على الجذر المنهجي المتخلف للبعث وتطعيماته المتنوعة، فقطع الغصن لن يكفي ما دام الجذر قادراً على إعادة الإنتاج. وأخيراً إن هذا النقد يأتي على المستوى الفكري السياسي. ولم يتطرق، رغم صحة المقارنة، لـ((السياسة البرميلية)) التي ينتهجها الطرفان، من كلٍ حسب طاقته وعلى كلٍ حسب حَظِهِ. هي براميل التصريحات المُعارِضَة المتخمة بالديماغوجيا، وبراميل البارود المتخمة بالهمجية، وما بينهما من براميل لا يُدرس هدفها وتقتل خبط عشواء. وتبقى براميل البارود إجراماً لا يوازية إجرام.

154 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>