

شكراً لاهتمامكم بالتبرع لدعم نشاطات الحزب، حيث يقبل الحزب التبرعات المالية الغير مثقلة بأي شروط مهما كان نوعها ومستواها.
لمزيد من المعلومات ، يرجى التواصل مع رئيس المكتب المالي على البريد الالكتروني cfb@rp-syria.com
كما يمكنكم التواصل مع الرئيس التنفيذي للحزب على العنوان pec@rp-syria.com
أطيب التحيات.
شكراً لاهتمامكم بالتبرع لدعم نشاطات الحزب، حيث يقبل الحزب التبرعات المالية الغير مثقلة بأي شروط مهما كان نوعها ومستواها.
لمزيد من المعلومات ، يرجى التواصل مع رئيس المكتب المالي على البريد الالكتروني cfb@rp-syria.com
كما يمكنكم التواصل مع الرئيس التنفيذي للحزب على العنوان pec@rp-syria.com
أطيب التحيات.
الانتشاء بالقوة الظرفية
في أثناء خدمتي العسكرية، جلسنا مجموعة من الضباط المجندين والمتطوعين، وبوصفي “المثقف” بينهم، من دون ادعاء أو فضيلة، كانوا يوجهون حديثهم إلي، خصوصاً أنني بدأت خدمتي العسكرية وهم على علم مسبق بأنني “معارض” لـ “النظام الحاكم”.
ما بين الكلام الهزلي والجدي صدرت من أحد الضباط “المعتزين” كثيراً بأنفسهم، والذي يشعر في قرارة نفسه أنه مالك البلد وما عليها، عبارة “نحن من يصنع التاريخ”، ودقّ على صدره بعنفوان، ثم نظر في عيني مباشرة منتظرًا ردّة فعلي البطيئة نوعاً ما، فاضطُره صمتي إلى أن يسألني مباشرة: أليس ذلك صحيحاً يا دكتور؟
أجبته بوضوح: لا. كان وقع الجواب مثل انسكاب سطل من الماء البارد عليه. أصرّ على معرفة رأيي، فأجبته: “التاريخ يصنعه العقلاء وليس الأقوياء”، فهزّه هذا الكلام وبدا عليه التوتر. وتابعت شارحاً رأيي: الأقوياء يصنعون التاريخ لفترة وجيزة من الزمن، حدودها هي حدود قوتهم، بينما العقلاء يبنون دولاً وعلماً وفكراً وفناً وأدباً يبقى أبد الدهر. لا أحد يذكر من كان رئيس وزراء مصر قبل مئة عام أو خمسين عاماً من دون أن يتعب نفسه أو يكون متخصصاً في التاريخ أو السياسة، لكن معظم الناس يعرف أم كلثوم؛ ويجد معظمنا صعوبة في تذكر اسم قائد الجيش في لبنان قبل خمسين عاماً، لكن معظم الناس يعرف فيروز.
بالطبع لم أكن لأنكر دور القوة في صناعة التاريخ، لكن ردّي كان محمولاً على فكرة “تنفيس” ذلك الضابط المنتشي بقوته، خصوصاً مع شعوره، ضمناً وعلناً، بأنه من ملاك البلد.
لكن يبدو أن الانتشاء بالقوة ظاهرة عامة، فمعظم العاملين في حقلي السياسة والثقافة في سورية، اليوم، يبنون خطابهم السياسي بالاستناد إلى مقدار القوة المتوافرة بين أيديهم. وخطابهم هذا تشتد وتيرته أو تضعف استناداً إلى تغير موازين القوى. بالنسبة لنا نقول إن الرؤى السياسية التي تستند إلى القوة الظرفية لا يُعتد بها، فهي متغيرة بتغير موازين القوى، وهذه القوة لا تبني أوطاناً ودولاً ومجتمعات، خصوصاً عندما تكون مقصورة على الذراع العسكرية. هي ليست أكثر من رؤى منفعلة أو منتشية بما لديها من قوة لحظية أو بحكم وضعها الجديد في المعادلات الدولية والإقليمية الحالية.
للأسف، هناك الكثير من القوى والفئات المجتمعية في سورية كان لها طموحات محدّدة قبل الثورة السورية، لكنها تغيرت بشكل غير منطقي، خلال السنوات الأربع الماضية، استناداً إلى ما حصلته من قوة عسكرية تدريجياً، وباتت سورية آخر همها، وهي تعمل وفقاً لمقولة “أنا ومن بعدي الطوفان”. لطالما كانت مثل هذه الممارسة السياسية خراباً على الجميع، والتاريخ شاهد كبير على ذلك.
اللاعقلانية السياسية
كارثة الانتشاء بالقوة الظرفية تزداد خطورة عندما تترافق باللاعقلانية السياسية. فقد بتنا اليوم نشهد وجود الكثير من “الأقوياء”، لكن مع قلة في العقلاء. القوة المتوافرة لدى البعض ينقصها الكثير من العقل، فمن دونه تتحول القوة عبئاً على أصحابها، وربما تقتلهم قبل غيرهم في لحظة من اللحظات أو عندما تتغير موازين القوى أو العلاقات الإقليمية والدولية في لحظة أخرى.
الخطاب السياسي الذي يريد ترسيم الحدود بالدم، انطلاقاً من وافر القوة لديه وإنجازاتها الميدانية على الأرض، ليوسع من خريطة دويلته أو إمارته أو كانتونه أو حارته، فإنما يؤسس اليوم لحرب دائمة، هي حرب الجميع ضد الجميع، لأن الحدود التي ترسم بالدم ستظل تجر المزيد من الدم، ولن تخلق الاستقرار والطمأنينة لأحد، بل ستنشر حقداً وكراهية مستمرين.
هذه الحدود مصطنعة في رأي الجميع، وهذا صحيح. وكانت في كثير من الأحيان قاسية، لكن لا أدري حقاً إن كان هناك دولة واحدة في العالم حدودها ليست مصطنعة، فحدود معظم الدول تغيرت عبر التاريخ، وستظل تتغير، وللجميع أسانيدهم “التاريخية” المختلفة عندما يتحدثون عن الحقوق والحدود والدول. ربما يرى البعض أن هذه الحدود، في المآل، ليست مقدسة، لكن من المهم أن نرى أيضاً أن أي تعديل في الحدود حالياً لن يرضي أحداً، مع أن ذلك قد يكون مقبولاً في لحظة أخرى نعيد فيها معاً نظرتنا إلى أنفسنا وتاريخنا وموروثاتنا في أجواء صحية.
في اعتقادي، ما يريده السوريون الطبيعيون اليوم هو دولة وظيفية حيادية فوق انتماءاتهم كلها، الدينية والطائفية والإثنية، تعيد لهم إنسانيتهم المهانة وحرياتهم المسروقة، كي يستطيعوا إعادة النظر في قناعاتهم وتاريخهم وهوياتهم وترهاتهم وأوهامهم وأحلامهم ونزواتهم. السوريون الطبيعيون هم السوريون غير الملوثين بالأيديولوجيات البائسة أو الموروثة من جميع الأشكال والألوان، القومية والدينية والمذهبية. أعتقد أننا، كسوريين، نحتاج في اللحظة الراهنة، إلى أن ننجو معاً من الكارثة، وهذه ليست مقولة أخلاقية صرفة بل مقولة سياسية عقلانية أولاً وأساساً.
حديث المظلوميات
لا يوجد جهة سياسية أو فئة اجتماعية (إثنية أو دينية أو مناطقية) في منطقتنا إلا ولديها “مظلومية تاريخية” تغنيها اليوم، وتطلب من الآخرين الاستماع إليها، وهذا طبيعي. ولذلك كان الحوار الجاري على صفحات التواصل الاجتماعي، خصوصاً في إطار ناشطين في حقلي السياسة والثقافة، أشبه ما يكون بـ “حوار المظلوميات”، يساهم فيه الجميع بنشر الكراهية. كذلك، للجميع كتبهم ومراجعهم “التاريخية” التي يبنون عليها مظلومياتهم وحقوقهم، بعضها أصيل وصحيح، وبعضها الآخر ملفّق وزائف، وهذا أيضاً أمر طبيعي.
يجب أن تكون معالجة المظلوميات كافة على جدول أعمال الجميع. لكن، من المهم الانتباه إلى أن بناء الرأي السياسي والخطاب السياسي بالاستناد إلى المظلومية فحسب لن يحلّ المظلومية، بل سيكون ذهاباً نحو كارثة مستمرة. هذا ما يحدث في “حوار المظلوميات” الجاري، والذي هو بالضرورة “حوار بين الضحايا”. أليس من العار أن يجري “حوار” متخم بالمرضية بين “مظلوميتين”، كالعرب والكرد في سورية مثلاً، هما ضحيتان لنظام سياسي واحد، وضحايا جهلهما ببعضهما بعضاً، وبدلاً من الذهاب معاً نحو معالجة السبب الرئيس في معاناة الضحيتين معاً، تذهب المظلوميتان الضحيتان نحو نهش لحميهما؟!
لا يوجد في سورية جماعات قومية بل إثنيات وأعراق، عرب وأكراد وتركمان وأشوريين.. إلخ، وحتى تتحول هذه إلى قوميات حديثة، فإنها تحتاج إلى الكثير من الجهد الفكري السياسي، يقع في أساسه تجاوز الانطلاق من شعور المظلومية في عملية بناء الهوية القومية. فعندما تكون المظلومية هي المنطلق سيبني أصحابها، مع الزمن، نزوعاً “قومياً” منتفخاً وعنصرياً بالضرورة، وستكون المظلوميات أرضية خصبة لتبرير الجور في حق بعضنا بعضاً.
كذلك، لا بدّ من تجاوز تعريف الذات بدلالة بناء علاقة عدائية مع الآخر، أو ادعاء تميز الذات وفرادتها في الوقت الذي يجري فيه تحقير الذوات الأخرى والحطّ من قيمتها. يقيناً، لا يحق لأحد ادعاء الفضيلة في منطقتنا، كلنا أبناء التخلف والتقليد والماضي والعجز وقلة الحيلة، أو كما يقال “كلنا في الهوا سوا”، وإن لم نكن، أشقاء في الدم، فنحن أخوة في الرضاعة، من حيث تفكيرنا المتأخر وغربتنا عن حضارة العالم.
في هذا السياق، يمكن القول إن “الخطاب القومي الكردي” شقيق “الخطاب القومي العربي” في الدم أو الرضاعة. كلاهما معجونان بادعاءات ذاتية لا قيمة لها بالتميز والتفوق والقوة، وكلاهما يرفعان من شأن الغلبة والعصبوية والعرق، وكلاهما يرسمان صوراً نمطية سلبية عن الآخر المختلف بهدف تنمية الوهم بقيمة الذات، وكلاهما ينهلان من بحر “المظلوميات التاريخية”، والأهم أن كليهما يعملان ضد نفسيهما، وضد الكرد والعرب على السواء، على الرغم من ادعائهما العكس لفظياً. جدير بالذكر، أن الكرد والعرب، كشعوب، ليسوا مسؤولين عن انحطاط “الخطابات القومية” لما يسمى “النخب” السياسية والثقافية، الكردية والعربية.
الثلاثي القاتل
من المهم، بالنسبة لنا جميعاً، أن ندرك خطر تضافر أركان هذا الثلاثي القاتل: الانتشاء بالقوة، حديث المظلوميات، اللاعقلانية السياسية، خصوصاً مع توافرها بدرجات متفاوتة لدى أغلبيتنا. من المهم أن نخفف من الارتكاز إلى القوة الميدانية في بناء نهجنا وخطابنا السياسيين؛ ومن المهم أيضاً أن نتفهم مظلوميات بعضنا بعضاً، وأن نتجاوزها عند تحديد خياراتنا السياسية، فما يحتاجه الجميع هو فسحة من الحرية والأمل لإعادة اكتشاف أنفسنا والآخرين، ومعالجة مظلومياتنا وتخليصها من أي رؤى ذاتية أو واهمة؛ وكذلك من المهم أن نوسِّع مساحة العقلانية السياسية في رؤوسنا، كي لا يكون الانفعال بالحوادث الراهنة، مهما كانت مؤلمة، هو كل أدائنا السياسي. قليل من الهدوء والتفكّر والتعالي على الجراح “التاريخية”.. والتواضع أيضاً، ينعش قلب المؤمن!
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...