حوار صحيفة المدن مع حازم نهار

تدمر: جرس بافلوف


حازم نهار

كان بافلوف يرن الجرس لكلبه ويقدِّم له قطعة لحم فيسيل لعابه، ليقوم بعد ذللك بإسماع الكلب صوت الجرس من دون تقديم الطعام، فتسبب صوت الجرس وحده بسيلان لعاب الكلب توقعاً منه أن الطعام قادم. بافلوف علم الكلب أن يربط بين ظهور الطعام وصوت الجرس.

كان يكفي بالنسبة لأي سوري أن تذكر اسم “تدمر” أمامه لترتعد فرائصه خوفاً، فقد أراد الطاغية أن يحوِّل اسم “تدمر” إلى إشارة باقتراب عواقب الأمور، وكان مهتماً بأن يكون الاسم وحده في منزلة “البعبع” لمن هم خارج سجن تدمر أكثر ممن هم داخله، ليتسنى له إرساء دعائم مملكة القهر والخوف. في رواية مصطفى خليفة “القوقعة”، يخرج بطل الرواية من سجن تدمر الرهيب “القوقعة الصغرى”، ليكتشف القوقعة الكبرى المسمّاة “سورية الأسد”، تلك القوقعة التي يستحيل عليه العيش فيها.

الفعل الهمجي الأصل هو ذاك الذي حوَّل اسم “تدمر” إلى اسم معتقل استثنائي يضرب به المثل على مستوى العالم في همجيته، ربما ليلغي الاسم من الذاكرة أو ليصنع ذاكرة جديدة قوامها القهر وإذلال البشر. تحويل الأسماء المقدسة إلى أسماء مرعبة آلية من آليات عمل الطاغية، هنا نستطيع أن نفهم أيضاً دلالة إطلاق اسم “فلسطين” على أحد الفروع الاستخبارية التي أذاقت السوريين الويلات.

لقد اكتشف السوريون لعبة الأسماء هذه بوضوح بعد انطلاق ثورتهم، وعرفوا أن الكلمات في سورية ليست كالكلمات في بلدان الله الواسعة، فالمدرسة والجامعة ليسا بالضرورة مكانين للتعلم، والمشافي ليست بالضرورة أماكن للاستشفاء، والحدائق ربما لا يكون الهدف من إنشائها هو التنزه، والأنهار هي الأخرى ليست للسباحة أو المتعة. اكتشفوا ذلك بجلاء عندما رأوا طاغيتهم يحوِّل المدارس إلى مقار تعذيب، والجامعات إلى معتقلات، والمشافي إلى ثكنات عسكرية، والأنهار إلى مقابر، والحدائق إلى مأوى للمشردين، والوطن كله إلى بحيرة من الدماء والجنائز.

في ذاكرة كثير من السوريين، تعني تدمر مجزرة  27 يوينو/حزيران 1980 التي أودت بحياة نحو 2400 سجين، وتعني 15 ألف مفقود لا يُعرف إن كانوا أمواتاً أم أحياء، وتعني وقوف أهل المعتقل لساعات تحت شمس حارقة بانتظار السماح لهم بزيارة أبنائهم في سجن تدمر، وتعني إذلال أهل المعتقل المقصود من جانب عناصر الشرطة العسكرية هناك، وتعني الانتظار عند باب السجن لاستلام جثة أب أو أخ قتل داخل السجن تحت التعذيب، وتعني نفايات نووية دُفنت في أرضها من غير رقيب أو حسيب، وتعني سرقة المتنفذين في دولة “الصمود والتصدي” لآثارها وبيعها في دول العالم، وفضلاً عن ذلك تعني المنطقة السياحية المهملة والمتروكة لقدرها. هم لا يعرفون أهمية “معبد بل”، ولا قيمة “المومياء التدمرية”، ولا المقابر التدمرية “بيوت الأبدية”، ولو عرفوا في السابق لبكوا اليوم دماً ودموعاً، وإن كان هناك من فضيلة لما حدث فهي أن السوريين اليوم يعيدون اكتشاف أنفسهم وتاريخهم وآثارهم وأبطالهم، بعد أن جرى محو ذاكرتهم.

ألا يحتاج السوريون إلى تنظيف ذاكرتهم من هذا الأداء الهمجي للطغمة الحاكمة طوال نصف قرن، خصوصاً في السنوات الأربع الأخيرة؟! وهل تجوز محاسبة بعضهم على ضعف شعورهم وألمهم من جراء سيطرة المغول الجدد “داعش” على تدمر؟! وهل حقاً هناك فرق بين هؤلاء المغول وأهل البرميل الهمجي؟! أليس من الغريب أن نسمع إحدى مؤيدات النظام “المبجلات” تعلن بثقة أن أهم الموجود في تدمر هو سجنها؟! أي عقل “همجي” يقف وراء هذه “الرؤية”؟ وهل هناك فرق بين همجية داعش وهمجية هذه المؤيدة “الحضارية”؟! هذا إن اعتبرنا مجرد وجود مؤيدين ومؤيدات، بعد كل الذي جرى، أمراً طبيعياً.

تاريخ زنوبيا لا يعني أهل “الممانعة والمقاومة” من قريب أو بعيد، فهم لا يهتمون إلا لزينب التي لا يريدون لها “أن تسبى مرتين”، ولا يجدون أنفسهم معنيين سوى بتحويل الترهات إلى حقائق، والحقائق إلى أوهام وأكاذيب. في النظام التعليمي للبعث لا يوجد أبطال سوى الطاغية، لا زنوبيا ولا غيرها، فقد جرى ملء عقول السوريين، عبر نصف قرن، بترهات جعلتهم أميين، لا يعرفون تاريخهم، ولا آثارهم، ولا أبطالهم. الفقر الروحي والجهل بالرموز والآثار والتاريخ هي بعض من معالم التربية والتعليم في سورية البعث. لا تحاسبوا السوريين على عدم معرفتهم، بل حاسبوا سلطتهم الهمجية وأنظمتها التربوية والتعليمية، وحاسبوا “سياسييهم” و”مثقفيهم” بسبب جهلهم أو انتهازيتهم أو غرورهم أو لا إنسانيتهم.

سجَّل التاريخ أن الإمبراطور الروماني أورليان، قد عرض أسيرته زنوبيا في شوارع روما في عام 271، قبل أن تغيب أخبارها نهائياً، وسيسجِّل التاريخ أيضاً أن “الجنرال” السوري ابن “الجيش العقائدي” و”حماة الديار” قد وضع آثار زنوبيا بين يدي الهمج. قبل شتم داعش، وهو الفعل الذي يتقنه الجميع ولا ضريبة أو خسائر تترتب عليه، طالبوا بمحاسبة المهزوم، ذاك الذي لم يستطع أن يحمي الحمى والديار، وارفعوا أصواتكم مطالبين بإقالته في الحد الأدنى، بدلاً من الندب والرسائل الخفية المصطنعة والكاذبة التي يريد بعضكم إيصالها: انظروا كم نحن حضاريون، ومولعون بآثار تدمر، والياسمين الدمشقي. ألم تسمعوا أيها “الحضاريون” ببديهية معروفة في تجارب الأمم: محاسبة المهزوم ومعاقبة المسؤول. من يخاف على تدمر وغيرها، فليرفع صوته ضد الهمجية الأولى أولاً، ارفعوا صوتكم من أجل خيار ثالث فيه حياتنا ومستقبلنا جميعاً، خيار ثالث لا هو داعش ولا هو الطاغية.

لا أحد يستطيع أن يحمي تدمر، وسورية كلها، إلا السوريون. المجتمع الدولي (أميركا) مهتم بـ “أم سياف”، ومن أجلها يقوم بإنزال جوي. إنه غير مهتم بزنوبيا، وهو لم يهتم قبلها بكل الموت السوري المستمر. أما الطاغية فكل ما يستطيع فعله هو استكمال تدمير ما بقي من سورية، وإفساح المجال لداعش لطمس معالم جرائمه، جاعلاً منها أداة لغسل قذاراته. أما داعش فليست سورية، داعش قوة احتلال همجية، شأنها شأن ميليشيا حزب الله، والميليشيات الأخرى التي جاءت من العراق ولبنان، وهذه كلها لا تتقن إلا القتل وفقاً لترهات التاريخ.

ربما قدر تدمر أن يمر عليها كل الهمج عبر التاريخ وتقاتلهم وتطردهم. من أجل ألا تسبى زنوبيا مرة رابعة، بعد الرومان والطاغية وداعش، ثمة عمل كبير ينتظر السوريين، أقله  نبذ الطرفين، الطاغية وداعش، والتوحد ضدهما، فهذا هو ما يضمن عودة سورية لنا، وعودتنا إليها.

2,190 مشاهدة
1 عدد الردود
  1. انس
    انس says:

    من لم يتوحيد في البداية لدحر الاسد له يد في تأسيس داعش و لو عن غير قصد
    كان من الواجب أن نقف كتلة واحدة بوجه هذا الغبي
    لو فعلنا لما نشأت داعش و لا وصلنا إلا ما نحن فيه
    الآن أصبح هناك صعوبة لكن بالطبع ممكن

    رد

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *