ذلك الإنسان في أعماق كل منّا
الرغبة المستمرة في الصراخ وتبني شعارات الإنكار وعدم القدرة على الإقرار بالهزيمة والوقوف لمراجعة الذات لما آلت إليه أوضاع السوريين وانتفاضتهم وخصوصا لدى النخب السياسية قد يكون مرده إلى إحساس عميق دفين بالضعف والعجز يرافقه شعور الضحية، وجذور ذلك لا تعود فقط إلى الإرهاب الأسدي الذي مارسه النظام على السوريون لعقود بل تعزى كذلك إلى الإرهاب الاستعماري والمجتمعي. وذلك الإرهاب هو جزء من التاريخ السوري يضاف إلى التاريخ العائد إلى اكثر من ثلاثة آلاف عام خلت و الذي ما زلنا نفخر به، و الذي ما فتئ البعض من النخب التالفة يستحثه ويستعين به للتدليل على مدنية السوري واعتداله.
التاريخ لا يصلح كدليل عمل للمستقبل وإذا لم تسهم اللغة والتاريخ السوريين في إغناء المراجع التي ينهل منها السوريون لرسم ملامح الجدة لمستقبل الأرض السورية أو لابناها في دول الشتات واللجوء فلا قيمة لهما ..
تبقى سورية الميتافيزيقيا والإيمان أو سورية المدنية العائدة إلى ٣٠٠٠ عام مجرد ثرثرة نبيلة عابرة لا تغني عن الجوع الحقيقي اليوم لكلمات ولغة تتجاوزان هذيان الشعارات. لقد صرخنا بما فيه الكفاية و الآن حان الوقت لنبتسم ونقف مجددا. لا يوجد تجربة بدون قيمة وسوريوا الشتات اليوم عليهم أن يبدوا بتأمل ومراجعة الذات والنخب المثقوبة عليها أن تعلن التوبة. جميعا نحمل إثم الدم المراق في سورية. لكن لم نعد نملك نحن معشر السوريون سوى التركيز على المستقبل … و علينا الإقرار بالهزيمة والبدء مجددا ولا بد لجيل الشتات هذا أن يشعر بالفخر والكرامة وتقدير الذات من جديد…
يالها من طبيعة خادعة لسورية تلك التي كنا نعايش سواء مع النظام أو بدونه في زمنه، مقارنة بكثافة وواقعية الانحطاط في زمن ما بعد خنق الثورة. وحدهم أناس أحرار حتى من اثقال ما يسمى “ثورة” ستعود اليهم أحقيتهم بأنفسهم وسيعطيهم ذلك الشعور الثقة ليكملوا حياتهم من اجلهم ومن اجل الآخرين.
لقد جررنا ببراءة للعنف الثوري ثم تسمرنا ذاهلين من هول الدمار والناس المستسلمين للقدر. كل تلك السلمية ومظاهراتها الآن غدت طيفا بعيدا، الأطفال الذين حلمنا لهم بمستقبل في ظل الحرية أصبحوا يطلقون النار على رؤوس الأسرى. لنتنكر لكل ذلك العنف, فمظهرنا بعد أربع سنوات لا يمكن وصفه سوى بالتدهور و الانحطاط, وهنا تبدأ بدايات الحقيقة القاضية بالعودة إلى إنسانيتنا الحقة. ألا نستطيع القول بان ذلك المقاتل الممول بسلاح العقيدة لم يكن سوى وهم ولم تعد الحرية شعاره ؟ وبأن تاريخه الإنساني بدأ فقط عندنا امتطى قوارب اللجوء؟ وبأن تلك المرأة التي ودعت زوجها للثورة احتضنه إحدى الكتائب, وأن تاريخ مأساتها الإنسانية بدأ عندما رُجِمت بحجارة الجهل؟. لكن الدوائر ستدور وسيدرك القاتل بأنه ليس منيعًا ولا يتمتع بالحصانة وبأن تاريخه الإنساني يبدأ فقط عندنا ينتهي بالطريقة التي يجب أن ينتهي بها.
لقد هزمنا… لكن الإنسانية فينا لم تهزم, لاجئين أو هاربين أو جياع ولدنا من رحم حقيقة الانحطاط, البشر لا يتغيرون لكنهم يعودون عن مبادئهم إلى إنسانيتهم. والإنسان في مرحلة ما مقدر له أن ينحدر و ويتدهور و من المستحيل إيقاف تلك العملية أو إنقاذه عن طريق إيقاف انحداره. الإنسان يعيش وينحدر … لا خلاص لنا سوى بخلاص ذلك الإنسان القابع في أعماق كل ًّمنا.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...