محمد صبرة

نظرة سريعة في مسار انحداري


محمد صبرا

منذ بداية الثورة، كانت الطغمة الحاكمة في دمشق هي الأقدر على قراءة المشهد وتوظيف أدواتها بالشكل الجيد من أجل الحفاظ على وجودها، ولو أدى ذلك إلى إلغاء مفهوم الوطن. فقد أدركت هذه الطغمة منذ اليوم الأول أن الثورة ماضية في طريقها ولا يمكن إيقافها، لذلك عملت على تحويل مساراتها، إدراكاً منها أن هذا التحويل هو الذي يحفظ لها البقاء.

حدّدَت هذه الطغمة الأخطار الحقيقية التي تهدد بقاءها ووجودها، وتمثلت بظهور روح جماعية جديدة عند السوريين، عمل نظام البعث عبر عقود على إلغائها وتدميرها، وظنّ أنه نجح في ذلك. لقد ظهرت الروح الجماعية التي تحلّى بها السوريون في الأشهر الثلاثة الأولى كتهديدٍ جدِّي وحقيقي لهذه الطغمة، لأول مرة منذ حكم البعث، ولذلك كانت سياسة النظام تقوم على استخدام الوسائل التالية:

  • تقطيع المناطق السورية بعضها عن بعض، وحصار القرى والأحياء، ومنعها من التواصل مع القرى والأحياء الأخرى.
  • الاستخدام المكثف والعشوائي للرصاص كلما حاول المواطنون الخروج من أحيائهم ومناطقهم (على سبيل المثال: حادثة محاولة الخروج من دوما وحرستا باتجاه ساحة العباسيين _ حادثة جسر صيدا في درعا لمنع أهالي القرى من الوصول إلى درعا المدينة).
  • الاعتقال الواسع للشريحة العمرية بين العشرين والثلاثين عاماً باعتبارها القوة المحركة والأكثر فاعلية في الثورة (عدد المعتقلين من هذه الشريحة العمرية في عام 2011 يقدر بحوالي ثلاثين ألفاً).
  • عدم الاعتراف بوجود مطالب سياسية، وحصر مطالبات المواطنين في قضايا خدمية واقتصادية، وهو ما ظهر من خلال رزمة القرارات التي اتخذتها الطغمة الحاكمة في 25 آذار من عام 2011، والوعود التي أطلقت في حينه، والخاصة بموضوع الملكية في المناطق الحدودية، ومسألة الجنسية لمن يحملون بطاقة “قيد الدرس″، وموضوع حفر الآبار في المناطق الزراعية، ووعود قانون الإعلام وقانون الأحزاب.
  • عدم الاعتراف بوجود معارضة سياسية لها مطالب قديمة وثابتة تتعلق بتغيير بنية النظام السياسي في سورية.

نجحت هذه السياسة في عام 2011، وكان أحد عوامل نجاحها هو غياب حركة سياسية وطنية سورية جامعة، فالأحزاب الموجودة على الساحة كانت في أغلبيتها مجرد أقنعة حضارية لفكر طائفي أو إثني متخلف، فلم تستطع الخروج من محليتها الضيقة إلى الفضاء الوطني العام.

في عام 2012 بدأت الطغمة الحاكمة بتنفيذ المرحلة الثانية من سياستها، والتي كانت تقوم على الإبقاء على محاصرة المناطق والأحياء، مع الانتقال من سياسة القمع الأمني إلى سياسة القمع العسكري الشامل، وقد ترافق هذا الأمر مع تنفيذ انسحابات مدروسة من مجموعة من المناطق السورية، والحفاظ على التمركز في نقاط محددة من الجغرافيا السورية لا تزال، حتى اليوم، تتواجد فيها على امتداد مساحة سورية، بما فيها دير الزور المسيطر عليها من داعش.

ترافقت هذه السياسة العسكرية بخطاب إعلامي يعترف بوجود معارضة، لكنه يركز على التفريق بين معارضة داخلية تقبلها الطغمة الحاكمة، ومعارضة خارجية مرفوضة، وانساقت بعض أطراف المعارضة نحو هذا الخطاب، وبدأت تردده، بل إنها اعتبرته برنامج عمل بالنسبة لها (هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة نموذجاً).

كانت الطغمة الحاكمة تهدف من وراء ذلك إلى منع ظهور إطار وطني جامع للسوريين يحمل شعارات سياسية واضحة تتعلق ببناء الدولة، وكذلك عدم السماح بإطار عسكري له هدف وطني، فالجنود والضباط الذين انشقوا على النظام في هذه الفترة كان دافعهم هو رفض إطلاق النار على المدنيين، وكان هدفهم هو حماية المدنيين، وليس إسقاط النظام باستخدام القوة العسكرية، ما أبقى المجموعات العسكرية المنشقة في المناطق المحاصرة باعتبارهم حماة لهذه المناطق. وظهر في كل منطقة كتيبة ولواء محلي لا يربطه بالكتائب الأخرى في المناطق الثانية أي رابط أو تنسيق لعدم وجود القدرة على التواصل الجغرافي بسبب تقطيع أوصال هذه المناطق من قبل الطغمة الحاكمة من ناحية، غياب الإطار الوطني الجامع الذي يؤطر العمل العسكري من ناحية ثانية، وهذا مردّه تقصير المعارضة، وخضوعها الكامل لرغبات الدول الداعمة في تشتيت بنية العمل العسكري.

ترافق ذلك أيضاً مع تطور خطر، وهو ظهور مجاميع عسكرية كبيرة تحمل شعارات إسقاط النظام بأهداف إسلاموية، وقد سهّلت الطغمة الحاكمة ذلك عبر إفراجها عن قيادات أساسية من قادة الجهاد الذين خاضوا هذه التجربة في العراق وأفغانستان، ما سهل لهذه المجاميع أن تسيطر على مساحات واسعة من الجغرافيا في سورية في ظل مساعدات كبيرة حصلت عليها من قوى إقليمية راهنت على قدرتها على التخلص من نظام بشار بوقت قصير.

وفي ظل تشتّت القوى العسكرية المنشقة على النظام، وبقائها عند شعارها الأول، أي حماية المدنيين في الأحياء والمدن المختلفة، وفي حالة غياب كامل لقوة سياسية حقيقية مؤطرة للثورة ومعبّرة عن هدفها الحقيقي، ظهرت القوى الإسلامية وكأنها الوحيدة على الساحة السورية، ويعود هذا التضخم في قوتها إلى سبب بسيط هو أنها كانت القوى الوحيدة التي تعمل وفق منظومة عامة تتجاوز الأحياء والمناطق، علماً أنه لو أجرينا حساباً عددياً بسيطاً لمجموع القوى العسكرية الأخرى (التي لا تحمل الشعارات الإسلامية في عام 2012) لوجدناها هي الأكثر عدداً، لكن تشتيتها وتشرذمها، وعدم وجود قوة عسكرية تعمل على مساحة الجغرافيا السورية، أعطى إيحاء بأن القوى الإسلامية هي الوحيدة الموجودة في الساحة. وقد ساهم في تعزيز هذا الإيحاء سياسة إعلامية مكثفة من جانب وسائل الإعلام العربي والدولي، وكذلك الكم الهائل من الأخطاء التي وقع فيها المجلس الوطني، وسيطرة بعض التيارات السياسية ذات الطابع الإسلامي عليه.

في عام 2013 ازدادت الأمور سوءاً، خصوصاً في ظل تعزيز الطغمة الحاكمة لسياسة الحصار وعزل المناطق، الأمر الذي أدى إلى ظهور أمراء حرب محليين يُحكمون سيطرتهم على المناطق المحاصرة، ويتحكمون بجميع مفاصل الحياة فيها ولا سيما الاقتصاد. ففي ظل تراجع الدعم المالي لهذه المجموعات، لم يبق أمامها سوى المناطق التي تتحكم بها للحصول على مواردها، وهنا تحولت هذه المجموعات من مجموعات هدفها حماية هذه المناطق إلى مجموعات تمارس الحصار أيضاً، وتمنع أي حراك شعبي ضدها، فوقع المواطن بين حصارين، حصار النظام وحصار المجموعات للمناطق السورية المختلفة.

وقد تميّز عام 2013 بظهور أمراض المعارضة السورية التقليدية، وعجزها البنيوي عن مواكبة الحوادث والمتغيرات، وتجذرت أكثر مقولة معارضة الخارج والداخل، وساهمت هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة في تكريس هذا المفهوم بشكل نهائي، وهو ما رأيناه في رفض هيئة التنسيق لحضور مؤتمر جنيف إذا لم يكن نصف الوفد المفاوض باسم المعارضة مشكّلاً منها، تحت ذريعة الشراكة بين المعارضة الخارجية والداخلية.

كانت استراتيجية النظام في أثناء مفاوضات جنيف تقوم على فكرة أساسية هي أن الوفد المفاوض لا يمثل المعارضة، وأنه جزء صغير من المعارضة، وأنه لن يتفاوض إلا مع وفد يمثل كل المعارضة ولاسيما الداخلية. هذه الاستراتيجية نجحت بل أصبحت نوعاً من المسلّمات التي أقر بها الائتلاف الوطني الذي يفترض أنه يمثل الشعب السوري بحسب قرارات الجامعة العربية والجمعية العامة للأمم المتحدة، فالعقم السياسي الذي يعاني منه الائتلاف، وغياب استراتيجية واضحة لديه، أدى بالنتيجة إلى نزوله عند سياسة النظام، وتثبيت مقولة المعارضتين الداخلية والخارجية، وهو ما رأيناه في اتفاق القاهرة بين جزء من الائتلاف وهيئة التنسيق.

بعد هذه المرحلة، جاءت المرحلة الأخيرة التي تتلخص ببساطة في تمييع مفهوم المعارضة ذاته بحيث تصبح هذه الكلمة بلا أي معنى حقيقي لها، بحيث يصبح أقرب المدافعين عن النظام والمتماهين مع سياساته القمعية معارضين له (بعض الكائنات الهلامية التي حضرت لقاء موسكو). هذه الاستراتيجية التي اتبعها النظام نجحت بفضل ضعف الإدراك السياسي لقيادة الائتلاف الوطني، والأداء الضيق الأفق الذي لا يخلو من بعض الانتهازية لهيئة التنسيق التي تجاوبت بشكل مباشر أو غير مباشر مع لعبة النظام في تقسيم المعارضة إلى داخلية وخارجية.

كان النظام يهدف من وراء ذلك إلغاء الحل السياسي بمعناه الحقيقي وفق ما نصت عليه وثيقة جنيف لعام 2012، وإلغاء مفهوم المعارضة السياسية أيضاً، فقد تضافر جهد الطغمة الحاكمة مع العقم السياسي للمعارضة بكل أطيافها، لخلق هذا الجو العام الذي يلغي السياسة لصالح مكونات ماقبل سياسية، أقوامية أو طائفية. بالتالي، يمكن القول إن تحوّل المشهد السوري باتجاه تطييف الحياة السياسية تقع مسؤوليته على النظام والمعارضة معاً، فالسياسات الطائفية التي استخدمها النظام تكاملت مع خطاب طائفي من جانب بعض أطراف المعارضة يكرّس بشار الأسد باعتباره ممثلاً لطائفة، وليس ديكتاتوراً مستبداً، وعملت أطراف أخرى على تكريس مفهوم مظلومية السنّة، لتحتكر تمثيلهم في وقت لاحق، دون أن تنتبه أن تكريس هذا المفاهيم سيقابله بالضرورة تكريس مفهوم الطوائف الأخرى كمكونات أساسية في الحياة السياسية السورية، وهو الأمر الذي يمنع أي طائفة من تحديد مصير زعماء الطوائف الأخرى، وهو ما نراه بشكل فاقع في لبنان.

إن مواجهة هذه السياسة تقتضي من الجميع التنبه أن الحل في سورية لا يمكن أن يكون إلا وطنياً، وهذا الأمر ليس مجرد أمنية، بل تمليه الحقائق الموضوعية باعتبار التنوع السوري المجتمعي لا يمكن ضبطه إلا في إطار وطني جامع، يساهم في خلق هوية وطنية متعالية على التمايزات الإثنية والدينية واللغوية. بالتالي يتأسس مفهوم الوطنية السورية على التعريف السياسي للشعب السوري باعتباره يمثل مجموع من يرتبطون برابطة قانونية بالإقليم، أي رابطة الجنسية. ومنطقياً، هذه الرابطة القانونية لا تقبل أي وصف أو إضافة أو شرط، لأن طبيعتها تقوم على العمومية والتجريد، بينما التمايزات مكانها في الوسط المجتمعي وليس السياسي. وعلى هذا الأساس لا يوجد في التعريف السياسي والقانوني للشعب شيء اسمه أغلبية أو أقلية، سوى الأغلبية والأقلية بالفهم السياسي الانتخابي، أما المفاهيم الأخرى فهي مفاهيم مجتمعية ما قبل سياسية أو ما قبل وطنية.

97 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>