idlib- syria- hai abdulla- rozana

الثورة التي ما زالت قادرة على الغناء غير قابلة للانمحاء


فادي عزام

وأعرف أني أملك فشلاً ذريعاً بالعزف، وأني لم استخدم صوتي سوى للشكوى والإدانات. والمرات التي حاولت فيها الغناء نام من نام وهرب من هرب.

لذلك كنت أعتقد أن يوم الاحتفال بالموسيقى بالشوارع لن يعنيني أبداً إلا ما من باب البطر والتسلية، حتى عشته بصدفة بحتة في باريس قبل الثورة.

يومها همت بالشوارع حتى الصباح ربما بقيت المستيقظ الوحيد في المدينة التي لم تنم من هول الموسيقى. مئات الفرق، في الشوارع بأعلى ما لديها وبكل ما لديها. لا جيران ليعترضوا على الهوب والراب والبلوز والجاز والدبكة والأوبرا، والفادو.. حتى أولائك المكونة عقولهم من الحجارة التي لا تحب الموسيقى لا يستطيعون الاتصال بالشرطة ليقولوا: تعالوا لإيقاف هؤلاء المجانين.

سمعت حتى مطلع الفجر وانطفاء آخر موسيقي على مدرج السلم وعلاماته السبع ممن فتحوا أبواب المخ للتنزه بمفتاح الصول العنيد ونثروا في فضاء المدينة مئات المقاطع، من دول وأجناس وثقافات أجهلها.

لكنها الموسيقى وقدراتها الفذة، تمارس الحنو على الوجع البرازيلي والسنغالي والكوري والإكوادوري والهندي والأمريكي. تفتح أبواب العقل على مقامات الدهشة، تخلد الأسئلة الموجعة، تطفو حين يغرق الإنسان وتتحول إلى طوق نجاة وتكسر الجليد مع الآخر.

تمسهم بروحها الحارة تختفي طبقات الثلج عنهم ويصبحون أصدقاء لمجرد أن يهزوا رؤوسهم ويغمضوا أعينهم ويستمعوا لتلك اللغة المقطوعة من برزخ المقاومة، أقصد مقاومة الحواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان.

حين تغني أو ترقص، الآخر سيجد ما يربطه بك، يطمئن لك ويصغي لما تقوله دواخلك.

خلال سنتين كانت الثورة السورية بلا موسيقى، وهي التي تعج بعائلات المقامات فتراجع فهم العالم لما تقوله لدرجة محزنة.

وهنا أتذكر صديقي الحلبي، أخبرني أن السكرة في حلب كانت حتى صلاة الفجر، يتوقف السكارى عن الشرب لينصتوا إلى الأذان وهو ينغم على مقامات العجم والرست والسيكا والبيات ويبدأون بحزر صوت كل إمام وكيف يرفع الأذان بروح المقام، لقد نمت ليلتين في حلب لن أنسى أبداً الكثير من الأشياء خلال هذه الزيارة ولكن ما هو محفور في ذاكرتي، تلك الموسيقى المنبعثة من كل شيء، وفي لحظات التجلي حيث يتعانق الجليل بالمستحيل تتحول المآذن في حلب إلى نايات تطرب لها السماء السابعة.

الاحتفال بالموسيقى يتم يومياً خمس مرات كل يوم على عدد فروض الصلاة. بينما بعض لقطاء الدين يعتبرون تلاوة عبد الباسط عبد الصمد غير مجازة شرعاً، ويصرون على جعل المقرئ والمؤذن من أقبح ما خلق الله من أصوات، أو يدخلون برايتهم السوداء المقززة ليشهروا البنادق في وجه الأغاني. وبالطبع بعض مشتقات الأرواح الجلفة تنكر الموسيقى وتنكر أن الرسول نفسه استقبله أهل المدينة في يوم الهجرة الشهير بكل ما كان لديهم من آلات موسيقية في ذلك العصر. يعني لو كانوا يعرفون ما نعرف اليوم بكل تأكيد لخرجوا له بالكونترباص والكمنجات ولنصبوا أوركسترا ضخمة وصفّوا أطفالهم كما فعل أطفال كندا لاستقبال اللاجئين السوريين وغنوا له طلع البدر علينا من ثنيات الوداع. لكانوا أشهروا المرحبا كسلام أصيل من تنوعات لطافتهم حين قالوها علنا مرحبا يا خير داع.

يعني من تلقي عليه المرحبا ويرد عليك بـ “عليكم السلام”، ليس أتقى من أهل المدينة!

لغة العالم الروحاني النبيل والقراءات السبع هي مقامات لروح الكلام الفائض بالرفعة. أما ادعاء العفاف والتحريم فهو نقيض الوجود نفسه والرسالة المحمدية هي من جوهر الوجود وموسيقاه.

لن يفلح قوم يهربون من الموسيقى. لن تفلح أمة لا تعرف كيف تسمع الجمال وتطرب له فهذا لا يلهيك عن معرفة الله بل يقربك إليه.

كان يكفي أن تتوقف معزوفات الطائرات الحاقدة عن القصف لبضعة أيام كي تعود الموسيقى من بين الأنقاض والدمار، كان يكفي بضعة أيام لا غير من لجم قذائف الحقد على المناطق المدمرة لتخرج من روحها المعمرة تلك الأناشيد الأولى، ترانيم الجراح المقدسة، أنين الأجساد المتعطشة لعناق الغيوم، رفيف الحناجر وهي تعيد دوزنة الوجود على إيقاع ذلك السيل الهادر من البشر الذي حلم يوماً بأعلى ما يمكنه من الموسيقى. جنة جنة جنة يا وطنا، ياوطن يا حبيّب، يا بو تراب الطيب حتى بنارك جنّة.

الثورة السورية في جوهرها لحن وغناء، قبس من الجنة المحلوم بها حيث الملائكة تستحي من الكلام مع الله فتخاطبه رقصاً.

شعب خرج ليموت راقصاً، غنى فجاوبته زخات الرصاص، دفنوا قتلاهم وعادوا للغناء والرصاص يعزف على المقلب الآخر نوتات جوقة الحرب، جعير التهديد، ضوضاء الموت وظلوا يرقصون ويموتون. غطى البارود الصوت وتكفلت الحثالات السود بخنق ما تبقى حتى ظن الجميع أنهم لن يسمعوا بعد اليوم صوت أغنية وأن ما حدث كان فورة وانتهت، فتعالوا لنقرع طبول ونستمع إلى صليل الصوارم وصريخ السوخوي.

عم الصخب والنحاسيات والفضائيات والبوقيات تزعق في سماء الحرب. شنت إبادة على أغنية لا غير، أغنية بسيطة لا تؤذي أحدا غير أنها تُنزل الناس للساحات لتقول سوريا بدها.. فترد روح الأرض.. حرية. تخرج الأشباح من يريد ساحات الجهاد هيّا إلى الجبهات ومن يريد ساحات المدن فليبرقع أغنيته.

لم يعرف عن حرب استخدم فيها كل هذا القتل لكتم صوت أغنية انطلقت من صميمية الحياة نفسها، تحولت لمعزوفة على شرفات السماء. أغنية أذلت الطاغية وخمشت ملكوت هيبته وسكبت زيت اللحن لإشعال براكين الأهازيج. كانت الموسيقى والأغاني واحدة من أجلِّ ما قالته الثورة.

يعيّرون الثورة أنها لم تعد صالحة للغناء، لكنهم ببساطة كانوا لا يتقنون الإصغاء. فقط حين لجمت المدافع والبراميل وتواضع العدميون السود قليلاً تسللت الموسيقى من داريا والغوطة وحوران وحلب وإدلب. الموسيقى التي عمل الطاغية على مدار خمس سنوات مستعيناً بثلاثة جيوش وأربعين مليشيا مرتزقة لإخمادها، تنسل في هدأة الليل الملجوم بالهدنة لتشاكل الغناء مع تلك الأرواح التي استشهدت وهي تغني، تخرج من الأنقاض، من شواهد القبور الفقيرة، من التراب المعجون بالدم، من البيوت المشتاقة للراحلين، من الخيام، من قلب الظلام، من كل شيء أرادوا له الموت فقاومهم بالموسيقى.

أما من يقتحمون إذاعة هنا، وأهزوجة هناك، ويحرمون الموسيقى. فخير من يرد عليهم، هو إمامهم نفسه حجتهم المعرفية الأولى بحر عرفانهم أبا حامد الغزالي.

حين قال: من لم يهزه العود وأوتاره والربيع وأزهاره والروض وأطياره فهو مريض المزاج يحتاج إلى علاج.

الثورة السورية تعالج المرضى والسفاحين بالموسيقى والغناء، وثورة مازالت قادرة على الغناء غير قابلة للانمحاء.

كما العدوى تكفي صرخة واحدة لتقول كل الرعب، وضحكة واحدة لتقول كل الفرح وأغنية واحدة أن تقول حقيقة صادمة نعم ما زالت ثورة.. مازالت تغني.

المصدر: روزنة

8 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *