الانشقاق عن الطوائف كسلوك «هرطوقي» واجب


منير الخطيب

تتأتى أهمية إعلان الكاتب حازم صاغيّة «انشقاقه» عن «طائفته» الدينية والسجال الذي رافقه على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة عامة، وأشير هنا خاصة إلى مقالة الكاتب ياسين الحاج صالح في صحيفة «الحياة» («في وجوب مفارقة الجماعة وشق عصا الطاعة»)، من طابعه «الهرطوقي»، ومعارضته منظومات «العقل السليم».

ففيما تبرر منظومات «العقل السليم» السائدة في مجتمعاتنا كل الانهيارات القيميّة والسياسية والروحية والإنسانية، تصير «الهرطقة» هي الإنزيم المضاد لحالة انحدار تاريخي سحيق ولوضعية استبداد «الرأي العام» الذي يرضع من ثديي أيديولوجيا «عقله السليم». فكوبرنيك كان «هرطوقياً» عندما قال بمركزية الشمس، في وقت كان فيه «العقل السليم» يفرض تصوره عن مركزية الأرض على «الرأي العام». كذلك، ذهب فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وكانط وجميع فلاسفة التنوير مذهباً معارضاً لحالة «الاستنقاع» الأيديولوجية والاجتماعية، التي كانت تحرسها الكنيسة بوصفها مصدر «العقل السليم» لذلك العصر.

وأيضاً، تنحاز دعوة الانشقاق الراهنة إلى مجال الحرية في مواجهة السياسات «الهوويّة». فلقد آن الأوان، بعد كل هذا الخراب، أن تصبح الحرية القضية المركزية لشعوب المنطقة. ويمكن القول في ضوء النتائج التي أفصحت عنها ثورات «الربيع العربي» حتى الآن إن رجحان عناصر «الهويّة» الضاربة في أعماق البنى الاجتماعية والثقافية للبلدان العربية، على حساب النزوع الشبابي نحو الحرية، يقبع في خلفية انقلاب ثورات الحرية والكرامة إلى حروب أهلية.

لذا، فالدعوة للانشقاق عن الطوائف تمثل شكلاً من أشكال الحرية، بوصفها تمرداً على القيود «الهوويّة» من جهة، وأحد المداخل الممكنة لتأسيس فضاءات وطنية في البلدان العربية من جهة ثانية. فقد أثبتت التجربة اللبنانية القائمة على التشارك الطائفي، والتجربتان العراقية والسورية خلال فترة البعث وبعدها والقائمتان على مبدأ الغلبة الطائفية، أن «الحوار» بين الهويّات غير ممكن، وأن الهوية لا تناقض مفهوم الحرية وحسب، بل تناقض مفاهيم الوطن والقانون والدولة، وعلى الأخص مفهوم الإنسان، وأن الحوار الذي يؤسس لعقد اجتماعي يتم بين كائنات حرة مستقلة وعاقلة. ومَن غير هؤلاء «الهراطقة» المنشقين عن طوائفهم، يمكنهم تشكيل معابر وجسور بين الهويّات المغلقة؟

الانشقاق، كفعل حرية، يشكل، أيضاً، رداً إبستمياً وثقافياً وأخلاقياً وسياسياً على تجارب القوميين واليساريين و «العلمانيين»، تلك التجارب التي لم تنجز انشقاقاً سياسياً وثقافياً وإبستمياً عن الموروث المملوكي – العثماني، فتحولت أشكالها الحزبية والمؤسساتية «الحديثة» إلى قشور سطحية تخفي مضامينها الهوويّة. فها هي شعوب المنطقة حالياً، تكتوي بنيران نتائج تلك التجارب المتصالحة مع حالة التأخر. ألم تنجرّ أحزاب قومية ويسارية لبنانية وكذلك فصائل منظمة التحرير الفلسطينية إلى أتون الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات تحت شعارات يسارية وتحررية؟ ألم يتحول حزب البعث في كل من سورية والعراق إلى غطاء شكلي هزيل للنوى المذهبية؟ ألم تحدث انشقاقات في أحزاب شيوعية عريقة على أسس إثنية وطائفية؟

وستظل الحداثة بصفتها «مشروعاً لم يكتمل بعد» على حد تعبير الفيلسوف الألماني هابرماس، على جدول أعمال «الشعوب» المتأخرة، لأنها الإطار التاريخي المتاح لها والممكن حتى الآن، لتجاوز استلاباتها الهوويّة وحروبها الأهلية، والانتقال بالأفراد من حالة الاستغراق في صفاتهم الأهلية إلى صفتهم الإنسانية، وتجاوز أفق الملة إلى مفهوم الأمة، ومفهوم «الدولة السلطانية» إلى فضاء الدولة الوطنية، وعتبة الدخول إلى الحداثة هي إنجاز قطيعة شاملة وجذرية مع التقليد. وهل من مسمى لتلك القطيعة غير الانشقاق عن الانتماء الهوويّ؟

 

المصدر: الحياة

13 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *