

شكراً لاهتمامكم بالتبرع لدعم نشاطات الحزب، حيث يقبل الحزب التبرعات المالية الغير مثقلة بأي شروط مهما كان نوعها ومستواها.
لمزيد من المعلومات ، يرجى التواصل مع رئيس المكتب المالي على البريد الالكتروني [email protected]
كما يمكنكم التواصل مع الرئيس التنفيذي للحزب على العنوان [email protected]
أطيب التحيات.
شكراً لاهتمامكم بالتبرع لدعم نشاطات الحزب، حيث يقبل الحزب التبرعات المالية الغير مثقلة بأي شروط مهما كان نوعها ومستواها.
لمزيد من المعلومات ، يرجى التواصل مع رئيس المكتب المالي على البريد الالكتروني [email protected]
كما يمكنكم التواصل مع الرئيس التنفيذي للحزب على العنوان [email protected]
أطيب التحيات.
“من شهد المقتلة ليس كمن عاشها “.. بعد أربع سنوات من الضياع والتسكع في فمّ الموت، وعلى الرغم من كلّ الجرائم التي شهدها الشعب السوري، وصلت إلى حدّ القصف بالسلاح الكيماوي، تبقى تجربة الاعتقال في سجون الأسد موضوعاً استثنائياً وسريالياً في آن، لا يمكن التخلص من آثاره ولو بعد سنين.
ليست صدفة أني خبرتُ هذه التجربة، ليس مرة واحدة بل ثلاثة مرات، فالكثير من السوريين، وخاصة الذين انخرطوا بالثورة إلى أعمق حدّ، قد اختبروا الاعتقال، والمتكرر منه، في أقسى الظروف وأسوأ السجون سمعة على الإطلاق.
تجربة الاعتقال بقدر قسوتها وشدتها في الفترة التي يمضيها المعتقل داخل السجن، إلاّ أن الأقسى منها والأشد وقعاً وإلحاحاً وقسرية، هي تلك الرؤى والرضوض النفسية التي تحفر عميقاً في ذكراة المعتقل في الفترة التي تلي خروجه، والتي قد تستمر لأشهر وسنوات، وقد يكون من المفيد للمعتقل أن يتعامل مع هذه الذكرى بالكثير من العقلانية والنضوج، إلا أن حجم الأذى والمرض النفسي الذي يحدث، يجعل منها مسماراً لا تكف الليالي والكوابيس عن طرقه عميقاً في الذاكرة.
مدفوعاً بحاجة ذاتية بالدرجة الأولى، وحاجة أن يتحدث جميع السوريين، معتقلين منهم أو غير معتقلين بالدرجة الثانية، فإني سأكتب هنا عن تجربتي في معتقلات دولة الأسد، آملاً أن أتمكن من إخراج هذا المسمار، الذي يحفر في العمق في رأسي، وفي رؤوس كل السوريين.
فروع الجوية … نوعية
اعتقلت أول مرة بتاريخ 16 تشرين الأول 2011 في مدينة حمص، كنت قبلها قد انخرطت بعمقٍ في نشاطات الثورة، من تظاهر واعتصام و تشكيل تنسيقيات. يوم اعتقالي لم أكن أشعر بأي هاجسٍ أو خوفٍ من عناصر الأمن والشبيحة، كان فرط القوة الذي يتملكني من المشاركة بالثورة، يجعلني غير مكترثٍ لعواقب الأمور، هكذا وبسبب التسرع والتهور، توقفت سيارة بالقرب مني، وكنت ذاهباً لأتخفى في منزل أحد الأصدقاء، قطعت علي الطريق، وبدأت رحلة من العذاب والحرمان والانتظار.
كان هنالك عنصران من الشبيحة الملحقين بالمخابرات الجوية، سريعاً، أدخلوني السيارة وبدأت اللكمات والصفعات والإهانات دون هوادة، لم يكن الألم الجسدي ذلك الذي حفر عميقاً في الذاكرة، فكله ينسى لحظة الخدران الذي يعتريك بعد برهة من كثرته، إلاً أن ما آلمَ في النفس كثيراً كان الإذلال والتحقير أمام الذات أولاً وأمام الناس.
اقتادني عناصر الشبيحة، إلى أحد أحياء الطائفة العلوية، وهناك جمعوا كلّ من استطاعوا الوصول إليه من شبيحة وشبيحات، للمشاركة في أخذ القصاص من هذا “العلوي الخائن” (هكذا أشاروا إلي). كانت امرأة خمسينية، علمت لاحقاً أنها أمُّ لأحد الشبيحة الذين قتلوا يوم أمس في حي باب السباع. تولت المهمة الأكبر، وأشبعت ثكلها، حين تمكَّنت من تحطيم عصا خشبية، كانت تستخدمها لهش الغبار في منزلها، والآن هشتني بها.
في تلك اللحظات لم أكن أكترث لفحوى ما يجري، ما اكترثت له هو الخلاص والوصول إلى الفرع، كم رغبت أن تاتي مهمة اعتقال أخرى لهؤلاء الشبيحة، علّهم يعجلون في تسليمي للفرع، ويلتفتون لغبارٍ آخر يهشونه.
فروع المخابرات السورية تتشابه إلى أقسى الدرجات، وإن اختلفت في بعض التفاصيل الصغيرة، فالجوية تستخدم “العصا الكهربائية والأخضر الإبراهيمي1” لحفلة الاستقبال. في حين أن المخابرات العسكرية لا تكتفي بذلك، بل تتوج الحفلة بضرباتٍ قاسمة للظهر بواسطة “خشبة المعلم 2″، و هذا ما سأعرفه عند دخولي لفرع فلسطين في 2014، إذْ مضت حفلة الاستقبال في فرع المخابرات الجوية لمدة طويلة، أو هكذا شعرت بها.
كانت صعقات الكهرباء تنفض من كل صوب، تأتيك من الخلف على الكتف، أو من أسفل الظهر على المقعد، أو في أحيانٍ أخر على ما بين الفخذين من اتصال، نصف ساعة، ساعة، أو ساعتين.. ذلك لا يهمّ. سيملؤك الخدر و الانتشاء بالألم، بعد “الدولاب 3” الثاني أو الثالث على أكبر تقدير، بعدها تدخل إلى حيث ستقضي جلّ فترتك في الفرع. يسبق إدخالك تصويرك من الجهات الثلاث، كي يتم حفظ ألمك وجروحك في ذاكرة السجن، وأضابيره التي تؤرخ عدد الكدمات والقروح المحفورة في أجساد السوريين.
لأفرع المخابرات الجوية صيتُ سيء مقارنة بباقي أجهزة الأمن، ويبدو أن ذلك مرده إلى حجم التعذيب الذي يتلقاه المعتقلون في أقبيتها، لكن هناك مزايا جيدة لفرع المخابرات الجوية (وهذا أمرٌ ساخر فعلاً)، تعود إلى حجم المكان الذي خصص للسجين، ونوع وكمية الطعام المقدم إليه.
الجوية نوعية، أجل هذا هو التوصيف، فالمعتقلون الذين يدخلونها لا يخرجون، إلا وحياة أخرى قد كُتبَت لهم. على الرغم من شدة التعذيب وقسوته هناك، فإن العدد داخل كل “جماعية” هو أربعة أشخاص، وهذا بالمقارنة مع الأفرع الأخرى يُعدُّ قليلاً، لذلك فالحصول على بلاطة تريّح عليها مقعدتك في فرع فلسطين يعتبر ضرباً من الخيال، بينما بلاطتان هما ما يمكن لك الحصول عليه في الجوية، وأحياناً أخرى أكثر من ذلك.
وإن كان الطعام المقدم لك في فرع الأمن السياسي، لا يتجاوز رغيف ونصف في اليوم الكامل، فإنك في الجوية تحصل على ثلاث أرغفة من الخبز “الطازج” يومياً، و يا لها من “نعمة و بهجة”، لكن من ناحية أخرى، ليس هناك أي مجال للمقارنة بين ما تختبره في التحقيق داخل الجوية، و بين أي سجن أخر.
لم يكن قد مضى على وجودي داخل الجماعية رقم واحد في مطار المزة العسكري التابع لفرع تحقيق المخابرات الجوية، سوى أسبوع واحد حين تم طلبي إلى جلسة التحقيق الأولى، و يا له من امتحان، أخذ قلبي يخفق بسرعة بدون أي انتظام، أرجلي لم تعد تقوى على حملي، لم أعرف كيف تمكن “الشاويش 5” من إعطائي البدلة الزرقاء المخصصة للتحقيق، ووضع “الطميشة 6″، وقذف بي إلى خارج الباب الحديدي.
ضوء شفيفٌ لا يقاوم، أخذ يتسرب من بين مسامات العصبة التي غطت عيني، رافقته رائحة نديّة لهواءٍ جديد، كان العفن داخل الجماعية يمنعنا من استنشاقه، لم أتمكن من مقاومة سحره، شعور لا يوصف مختلط ومعقد إلى أبعد حدّ، ذلك الذي اعتراني، قلق، خوف، توجس من ما سيأتي وسيحدث، رافقه شعورُ مرتبك بتلمس تفاصيل العالم الخارجي ودقائقه، لقد كانت إعادة لاختبار الضوء و الهواء من جديد.
و للحديث بقية …
هوامش
1- الأخضر الابراهيمي: عبارة عن أنبوب أخضر اللون يستخدم عادة لتمديدات المياه والصرف الصحي، لكن لدى المخابرات السورية، يعتبر أداة تعذيب ناجعة لاستخلاص المعلومات والتحقيق، وسمي نسبة إلى الأخضر الابراهيمي مبعوث الأمم المتحدة في سوريا سابقاً.
2- خشبة المعلم: أداة تعذيب شاهدتها فقط في فرع فلسطين، عبارة عن خشبة يستخدمها عمال البناء لتشكيل القوالب الإسمنتية، وملفوف عليها شريط لاصق أسود، مدعم بعدد كبير من الدبابيس المعدنية في ذروتها.
3- الدولاب: وسيلة تعذيب مشهورة جداً في سوريا، يتم فيها وضع السجين داخل الإطار الخارجي لدولاب سيارة كبير، ومن ثم يقلب المعتقل على ظهره، بحيث تصبح قدماه للأعلى، و يتم ضربه بواسطة عصا الأخضر الإبراهيمي عليهما.
4- جماعية: المهجع الذي يجتمع فيه عدد كبير من المعتقلين، وهي أكبر من الزنازين “المنفردات”، وشروطها أفضل منها من حيث المكان والحمام والمرحاض.
5- الشاويش: لكل جماعية رئيس يسمى الشاويش، وعادة يكون معتقل قديم يعينه السجانة، ليمارس دورهم من تنكيل وإذلال بالسجناء داخل الجماعية.
6- الطميشة: عصبة يتم وضعها حول عيني المعتقل خلال تنقيله داخل أقبية الفرع وأثناء التحقيق.
المصدر/ راديو أنا
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...