تغير الوجوه والتحولات.. وذاكرة دمشق إذ تحضر!

 أورينت نت- 21 – مايو 2015

سالم الأخرس
عندما تمتلك شجاعة السير بشوارع دمشق هذه الأيام, وتعبّ من الصور والمشاهدات التي تلازمك, ستتعرّف على ما طرأ عليها من تغيّرات وتحوّلات وظواهر مستجدة, إن كان بوجوه الناس أو ردود أفعالهم, سواء اتجاه أنفسهم أو مع بعضهم البعض, وتدقّق بكيفيّة تعاملهم مع حاجاتهم اليوميّة بالمأكل والملبس, ناهيك عن ماء الشفّة التي كانت عنوان الحضارة والعذوبة بدمشق وكيف أصبحت, أو طريقة تعاطيهم مع المخافر الامنيّة التي غزت قلب المدنية وشرايينهاكافة, والمظاهر التي تخلفها تلك المخافر من حيث الشكل وتجمعات “الخفر” على أرصفة تحوّلت الى مقار تفتيش واعتقال وأيضا مرابع للاستراحة وشرب المتة وقضاء الحاجة، الارصفة ذاتها التي سعت محافظة دمشق أن ترصفها بمزاعم “جمالية”, تقوم الى جانبها أبنية وصلت اسعار الشقق فيها الى رقم مسلّح بأصفار تصاعدية، لعملة طُبعت مؤخرا بروسيا الاتحادية، تلك التي تعيش هواجس عقوبات اقتصادية, فرضها النظام الدولي الامبريالي او الشيطان الاكبر.
ولا تخطئ العين حالة “الخفر” الرثّة, وبلادة ملامحهم وتعدد بذّاتهم وتناقض مفردات هندامهم, ويعجب المرء من حدّة الشراسة التي يُظهرونها بتعاملهم مع ركّاب السيارات, أثناء التدقيق بهوياتهم الشخصيّة, دون تجاهل ما يبديه بعضهم من آداب التعامل اللائق في لحظة استرخاء عابر, وتبلغ المرارة أشدها عند سيارات محمّلة بالبضائع والخضروات إذ تخضع لنظام التدقيق والتضييق والاتاوات, عند كل مخفر رابض تحت علم الدولة الرسمي .
تلك التحولات جعلت من كتاب ” دمشق ذاكرة الوجوه والتحوّلات” لـ محمد منصور الصادر عن دار “جداول” العام الماضي , يكتسب بعنوانه, القوّة والتأثير والتحريض على قراءته. لعلّه يخفّف من الصدمات التي تواجهك بشوارع دمشق, من وجوه الخفر وتعاملهم معك كغريب أو كعدو حتى يثبت العكس, كما يمكن أن يساعدك على استيعاب التحولات المستجدة على حال الناس, جرّاء ما يصيبهم من أهوال العبث وحرب مجنونة, وتزداد الحماسة لقراءته لبدء عنوان الكتاب بـ (ذاكرة) والتي تعني من جملة ما تعني مخزون الخبرة والتجربة, في وقت بدأ البعض يستعين بخبرات أهل الشام في تعاملهم مع جيش تيمورلنك عندما دخل دمشق لهضم اعتداءات الحاضر, متعقبا طرائقهم في تسيير أمور حياتهم حينذاك.
ولكن محمد منصور يقدم شيئا آخر عن دمشق, فيكشف بعضا منها, من خلال شخصيات نهلت من روح دمشق وحفرت عميقا في الذاكرة الشامية. واللافت للنظر هو طبيعة الشخصيات التي أختارها الكاتب لمسح البصمات التي تركتها هذه الشخصيات في المدينة, فتنوعت وتعددت مشاربها الاجتماعية واختلفت مرجعيّتها الفكرية والثقافية, ما أضفى على الكتاب ثراءً ودسما جليّا, وظهرت أناقة الكاتب وحرفيّته بتوليفة ذكية لآراء هذه الشخصيات وتجربتهم العامة، كشفت عن الوشمات الشامية في تجربتهم, وشذرات المعاني التي نثروها على نهر بردى.
ولعل الجمع بين تجربة ونمنمات هذه الشخصيات و مدينة دمشق, أستدعى بسلاسة عرض جوانب من تاريخ المدينة الاجتماعي والحياتي, الذي قلّما يتم تداوله خارج الحكايات الشفويّة, عرضٌ تميّز بتجهير الكثير من معاني الحياة بدمشق, تلك التي تسعى “الثقافة” الاستهلاكية الى طمستها.
غطّى الكتاب الدمشقي حقبة زمنية زادت عن قرن مضى, جرى فيه حفر أبار ارتوازية فكرية وثقافية لسقاية الحدائق المجاورة لعمارة مؤسسات المجتمع والدولة الحديثة, سردٌ فيه معاني أحداث, كم تحتاجها دمشق الآن.
فيوسف العظمة حسب الكتاب أمثولة بطولة لا تموت, وفارس الخوري (لا أقليات في زمن الكبار) وصباح قباني(أصالة التقاليد المهنية ترسم فرادة المدينة) وسامي الجندي (مدينة الانتظار والتاريخ) وعلي الطنطاوي(هويّة اسلامية ترفض التيارات الوافدة) وفلسطينيو سوريا ( بيت لا يضيق بالأشقاء) ونزار قباني وياسمين دمشق.
جاء الخط الناظم للكتاب إضاءة للنهر الخالد الذي قامت دمشق عليه, نهر المعاني الراسخة التي تُشكل ملاط العيش الاجتماعي والحضور الانساني، والتي تضرب بأرض الشام جذورا تصل لطبقاته السبع, وترتوي بماء بردى, فعرض الكتاب علامات لمعاني سبع, تتوافق مع أيام الاسبوع الدمشقي. ففي دمشق الملجأ –البطولة – زمن الكبار –الاسلام – التاريخ – التقاليد – الياسمين . وأهم ما فيها وشائج التكامل في بيئة لا يعرفها إلا الكبار, وأوضح صورها حالة التنوع التي تشبه مزروعات الغوطة. هذه النقطة تفّسر حالة الغضب المقدّس والعميق الذي يسري بين سطور الكتاب, نتيجة التلوّث الذي أصاب دمشق المتنوعة التي لا تستطيع التنفس والعيش مع منهج اللون الواحد والرأي الواحد والطراز اليتيم. كما لا تستطيع أن تتعرّف على نفسها وتُعرّف حالها بحلّة تصلح للحداد فقط. وهنا أيضاً نتلمّس تميّز كتاب (دمشق .. ذاكرة الوجوه والتحولات), فالمنهج الذي قام عليه, دمشقي الطابع, من زاوية فكرة التنوع, وملامح الشخصيات التي انداحت بين دفّتيه وشهاداتهم وأراءهم وأفكارهم التي انضجتها دمشق, تشكّل وثيقة لصيقة بفضاء المدينة, تتضّح تأثيراتها بشخصيات قَدِمتها كملجأ وملاذ وحصن من عاديات الزمن. فأصبحت من نخبها كعبد القادر الجزائري وعشيرته الذين قصدوا دمشق بعد ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي عام 1848، فعرفوا الشام وتعرفت اليهم وغدا عبد القادر من اصحاب الحل والعقد وذاع صيته حتى علا صوته الدمشقي في مواجهة أحداث عام 1860 التي اشعلها رعاع الدروز والاكراد بتحريض من بعض رجالات الدين والتجّار الدمشقيين المحافظين بمذابح ضد المسيحيين بباب توما, وبقيت دمشق تذكر لعبد القادر الجزائري الدور الذي لعبه حين ذاك. كما يتوقف الكتاب عند نكبة فلسطين 1948 ونزوح الآلاف من أبناءها الى دمشق ليغدوا من أبناءها النجباء مع غيرهم ممن وفدوها، فقدم مثقفوهم شهادات وذكريات عن طفولتهم وشبابهم في دمشق وأثرها فيهم.
يمكن القول أن كتاب (دمشق ذاكرة الوجوه والتحولات) لمحمد منصور عن تغير الوجوه وشدة التحولات في أقدم مدنية ثبتت في قاطنها وثبت فيها.

30 مشاهدة
0 ردود

هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟

تسعدنا مشاركتك ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *