سوريا: الثورة اليتيمة
بدر الدين عردوكي: مجلة الدوحة
عشرات الكتب حول الثورة السورية، أو للدقة، حول ما يحدث في سورية منذ منتصف شهر آذار 2011 وحتى اليوم. وكذلك مئات المقالات والدراسات. “ما يحدث في سورية”، لأن كثرة ممن يتناولون الموضوع السوري لا يجمعون على توصيف ما يحدث فيها بالثورة، بل إن بعضهم لا يتردد تحت لافتات الموضوعية استخدام وتكرار مفردات ومفاهيم النظام السوري نفسه في توصيف الحدث السوري من خلال مفردات مثل: المؤامرة، الإرهاب، التكفيريون..
لكن كتاب زياد ماجد الصادر أخيراً “الثورة اليتيمة” يضع النقاط على الحروف ومنذ العنوان، كما نرى، مرّتيْن: فما يحدث في سورية ثورة، وهذهالثورة يتيمة. ذلك لا يعبر عن موقف فكري أو سياسي فحسب، بل يصدر عن توصيف موضوعي، بعيد عن الأيديولوجيات والتفكير الرغبي. يفعل زياد ماجد ذلك لأنه وقف منذ انطلاق الثورة السورية قبل ثلاث سنوات إلى جانب الذين خرجوا في أرجاء سورية كلها ينادون بالحرية وبالكرامة. ولأن هذا الموقف تجسّد في متابعة يومية، بل ساعة فساعة، لكل ما يحدث على الساحة السورية، ولكل آثار وأصداء الحدث السوري إقليمياً ودولياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً. تشهد مقالاته الأسبوعية وأحياناً نصف الأسبوعية على ذلك. تشهد كذلك صلاته بكل السوريين الذين رفعت الثورة السورية عنهم الحجب وأخرجتهم إلى النور من مفكرين سياسيين ومثقفين وثوريين وكتاب وفنانين تشكيليين وسينمائيين ممن يتواجدون على الأرض وممن هاجروا أو أجبروا على الهجرة في أرجاء الأرض. تشهد على ذلك مداخلاته في كل ناد أو ندوة، على الأثير صوتاً وصورة، أو على مدونته الغنية، أو على صفحاته في الفيسبوك وتويتر خصوصاً حيث يتألق بنظرات ثاقبة وملاحظات ذكية وتعليقات يتناقلها الكثرة ممن صارت سورية همَّهم والسوريون عذابهم.
تتضح هذه الألفة والمتابعة الحثيثة في هذا الكتاب الذي قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه لا يأتي بجديد بالنسبة إلى ما ينشر كل يوم أو يذاع من تحليل ومن تأويل، والتي لولاها لاتخذ تصميم الكتاب فضلاً عن صياغته مساراً آخر تماماً. لكن القراءة المتأنية ستكتشف الجديد، لا في المعلومة، وهي متاحة للجميع، بل في الرؤية، وهي، كما يبدو، باتت عسيرة حتى على الرؤية!
ذلك أن أيّ تناول لما جرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة في سورية يرمي الفهمَ بمعزل عن الأفكار المسبقة والصيغ المكرورة، لابدَّ له من أن يعود بقارئه إلى الجنين الأول الذي ولد قبل نيف ونصف قرن ونما وترعرع وشبَّ خلال هذه السنوات (1963 ـ 2011) ليتجسد أخيراً في هذه الخلاصة الراهنة التي يطلَق عليها مجازاً “النظام الأسدي”. وهذا على وجه الدقة ما يفعله زياد ماجد حين يعود بقارئه إلى بداية الشر أو إلى تكوينه إن جاز التعبير.
يقرأ زياد ماجد في استعادة علم الاستقلال الليبي في ليبيا وعلم الاستقلال السوري في سورية استعادة للزمن السياسي. الزمن السياسي الذي عمل النظام الأسدي منذ 1970 على وضع سورية كلها خارجه لتعيش زمنه هو. وإذا كانت الثورة السورية كما يقول هي ” الأكبر” بين الثورات العربية الأخرى فلأنها “الأكثر جذرية نظراً لطبيعة النظام الذي تواجه وخصائصه السياسية والاجتماعية والأمنية”، وهي “الأكبر” أيضاً لأنها اتسعت على امتداد الأرض السورية، و”الأكبر” أيضاً بالجهد الإعلامي الهائل الذي قام ويقوم به شبابها لتعويض غياب الصحافة العالمية التي حال النظام دون تواجدها على الساحة منذ اليوم الأول وكذلك بالعنف الذي أدت إليه بعد أن ساد خيار الحلّ الأمني الأعنف، تكراراً لما جرى بحماه عام 1982، ولكن هذه المرة على مدن سورية وقراها كافة وبلا استثناء.
ولا تفسير لطبيعة هذا العنف غير المسبوق في المنطقة العربية إلا إذا استعيدت السنوات الأربعون التي شيد خلالها الأسد الأب نظام حكم استبدادي ذي بنية لا شبيه لها بين بنى نظم الاستبداد جميعاً في عالمنا العربي المعاصر. ذلك ما قام به زياد ماجد في الفصل الأول من كتابه مشيراً بوضوح إلى العناصر الأساس في استراتيجية التشييد هذه: الاعتماد على ركائز طائفية وعسكرية وحزبية مع توحيد مراكز النفوذ فيها؛ عبادة الشخصية من خلال حضورها الرمزي تأميناً “للطاعة المدنية المطلوبة” أو “الطاعة القسرية”؛ السيطرة على كافة الأحزاب السياسية وتطويعها في الجبهة الوطنية التقدمية وتفتيت سواها عن طريق الزج بعناصرها في السجون أو تشريدها فضلاً عن الإمساك بكافة البنى النقابية للعمال والفلاحين والطلبة والشبيبة، إلخ؛ تعزيز للجانب الأمني من خلال تنظيم متعدد الفروع ممتد في مختلف عناصر النسيج الاجتماعي؛ والعنصر الأهم بما أنه يستطيع أن يفسر اليوم الكثير من تماسك النظام الأسدي، تطبيقه ومنذ بداية هيمنته على السلطة المقولة الماكيافيلية الداعية إلى اللجوء إلى احتلال المدن وتملكها بدلاً من خنقها.
ذلك كله أدى إلى “محو كامل للداخل” سياسياً وفكرياً واجتماعياً، لصالح حضور خارجي مجلجل من خلال ما أطلق عليه سياسة الممانعة والمقاومة وعبر التحالفات الإقليمية وضروب إعادة التأهيل التي كان يسعى إليها كلما قبض عليه بالجرم المشهود هنا أو هناك. لم يكن هذا المحو للداخل مرئياً إلا لقلة من المراقبين أو الباحثين. ولن يتغير هذا البناء بعد وفاة مؤسسه. إذ أنه سيستمر خلال السنوات العشر الأولى التي تلت وصول الإبن إلى الحكم وريثاً بعد إجهاضِه في أول سنة من حكمه ربيعَ دمشق عام 2001 ثم تكميمه أفواه الموقعين على “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي” بعد خمس سنوات من ذلك.
لن يحول هذا البناء دون انطلاق ثورة بدأت بكسر جدران الخوف جميعها حين خرج الناس يتظاهرون وحين واجهوا خلال مظاهراتهم السلمية الرصاص الحي منذ اليوم الأول. ستنطلق الثورة من درعا ومن دمشق، وستعمّ بسرعة محافظات سورية كلها خلال الأشهر التالية. ازداد عدد المظاهرات بازدياد وتضاعف عدد المتظاهرين، وكان ديدن النظام الأسدي أن يحول دون اجتماعهم خصوصاً في أي ساحة من ساحات مدينتي دمشق وحلب بعد أن شهدت حماه وحمص ودير الزور مثل هذه التجمعات التي جمعت مائتي ألف هنا وثلاثمائة ألف هناك. لم يترك النظام وسيلة للحيلولة دون المظاهرات إلا وارتكبها: الرصاص الحي، واحتلال المدن بالدبابات وخصوصاً مدينتي دير الزور وحماه ، وتعذيب وقتل من يعتقلهم من الناشطين والإعلاميين ولا سيما منهم “أصحاب الخطاب الوطني” الجامع واللاعنفي (غياث مطر ومعن العودات ومشعل تمو)..
سيؤدي عنف النظام المتصاعد إلى ما يسميه زياد ماجد “التحول العنفي” الذي بدأ في شهر رمضان/آب عام 2011. وستبدأ مظاهر العسكرة على الطرف الآخر بالظهور، مع تتالي الانشقاقات عن الجيش النظامي وتشكيل مجموعات عسكرية تعلن عن نفسها باسم “الجيش السوري الحر” الذي انضم إليه مدنيون متطوعون للدفاع عن التجمعات الشعبية والمظاهرات في مواجهة الشبيحة ومخابرات النظام. وستكون ذروة هذا التحول معركتا دمشق وحلب (تموز/يوليو 2012) اللتين ستبدلان في الخارطة السورية. يسجل زياد ماجد أنه في هذه الفترة بالذات سيبرز العنصر الدولي على الساحة السورية من خلال الدعم غير المحدود الذي تقدمه إيران وخصوصاً روسيا والصين باستخدامهما الفيتو لتعطيل أي قرار في مجلس الأمن يؤدي إلى إدانة النظام أو إضعافه فضلاً عن الدعم الروسي من خلال مواصلة إرسال الأسلحة الثقيلة والذخائر وقطع الغيار دون توقف. وبالتوازي ستتقدم المشهد القتالي القوى الإسلامية ثم الجهادية لتسيطر في منتصف عام 2013 على معظم مساحات هذا المشهد. لن يتوقف الأمر عند ذلك. إذ أن لجوء النظام بمساعدة إيرانية حثيثة إلى تشكيل مجموعات أطلق عليها “جيش الدفاع الوطني” وقوامه “شبان علويون وشيعة دربتهم إيران لمساعدة جيش النظام المنهك” وقيام هذا الجيش بمذابح رهيبة في العديد من المناطق السورية من ناحية، ولجوء النظام إلى تجنيد الشبان من القرى والبلدات ذات الأغلبية العلوية لاستحالة التجنيد في معظم المناطق التي فقد السيطرة عليها من ناحية أخرى، أدى إلى بروز “القضية الطائفية بوصفها واحدة من أكثر القضايا حضوراً في سورية”. ضاعف من وطأة هذه الأخيرة دخول مقاتلي حزب الله من ناحية والمقاتلين العراقيين من أحزاب شيعية تديرها طهران في المعارك والعمليات التي يقوم بها جيش النظام من دمشق إلى حلب من ناحية أخرى.
سيتوج هذا العنف باستخدام السلاح الكيمياوي ليلة 12 آب/أغسطس 2013 والذي سيؤدي كما نعلم إلى إعادة تأهيل النظام على الصعيد الدولي بعد قبوله تسليم مخزونه من الأسلحة الكيماوية.
وراء كل ذلك وعلى الرغم منه، كانت سورية الداخل المُغيّبة تبرز إلى السطح بقوة وعلى كل صعيد. وهي ظاهرة يختصها زياد ماجد بفصل كامل حمل عنوان “ملامح لسوريا الداخل” مسجلاً أهم هذه الملامح التي كانت مخفية خلال أربعين عاماً، وأهمها استعادة اللغة في كل تجلياتها: الرواية والمذكرات الشخصية والشعر والصحافة الساخرة أو الصحافة المرتجلة، بالإضافة إلى تفجر الطاقات الإبداعية في مجال الفن التشكيلي والسينما التسجيلية؛ الاكتشاف والدهشة: اكتشاف الناس وأصواتهم والدهشة أمام مواهب خارقة سخرية وذكاء سياسياً تجلت خصوصاً في الهتافات والشعارات خلال المظاهرات؛ تكسير التماثيل والصور؛ صور العزاء استكمالاً للمقاومة؛ هذا فضلاً عن بروز دور النساء القيادي والطليعي وفي كل ميادين الثورة ومجالاتها.
قامت الثورة في وجه نظام استبدادي، لكنها لم تلبث أن وجدت نفسها تواجه لا حكام البلد وحدهم بل حلفاءه جميعاً، لاسيما وأنهم عملوا طوال أربعين سنة على أن يجعلوا من موقف البلد الاستراتيجي محدداً وحيداً لعلاقة العالم به كما يسجل زياد ماجد الذي ميّز على نحو واضح بين حلفاء النظام (روسيا وإيران والصين) من ناحية و”حلفاء” الثورة (دول الخليج وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي بوجه خاص) بوضعه هؤلاء الأخيرين بين قوسين لبيان مدى الفروق بين هؤلاء وهؤلاء سواء على مستوى الدعم أو نوعيته أو فعاليته.
كان على هذه الثورة أيضاً أن تكشف عن كثير من الزيف والتزوير في المواقف. فالذين خرجوا بقوة يؤيدون ثوار تونس وليبيا ومصر واليمن صمتوا فجأة أمام ثوار سورية ثم ما لبثوا أن بدأوا حملات التشكيك والاتهامامات. لم يقتصر ذلك على فئات القوميين واليساريين في العالم العربي فحسب، بل شمل كذلك “المعادين للإمبريالية” في الغرب، يهجس بعضهم “بالمكائد والألغاز والاستهدافات الاستعمارية لنظام مقاوم” أو يكتفي البعض الآخر “عن خبث أو بلاهة أو رغبة إثارة بتشويه معنى الثورة ونزع الآدمية عن السوريين”.
لن يحول ذلك دون أن تكون الثورة السورية جذرية، لا “في اللغة والشعارات وتفجر الطاقات الإبداعية كلها فحسب بل كلك في عملية الهدم (…) لكل المنظومات التي سحقتها لعقود وللشعارات التي بررت (رياءً) هذا السحق”.. ولن يحول ذلك دون هذه الثورة رغم “اليتم والآلام العظيمة” أن تكون الثورة المستمرة..
“الثورة اليتيمة” كتاب يقول “الحدث السوري” بامتياز.
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...