

شكراً لاهتمامكم بالتبرع لدعم نشاطات الحزب، حيث يقبل الحزب التبرعات المالية الغير مثقلة بأي شروط مهما كان نوعها ومستواها.
لمزيد من المعلومات ، يرجى التواصل مع رئيس المكتب المالي على البريد الالكتروني [email protected]
كما يمكنكم التواصل مع الرئيس التنفيذي للحزب على العنوان [email protected]
أطيب التحيات.
شكراً لاهتمامكم بالتبرع لدعم نشاطات الحزب، حيث يقبل الحزب التبرعات المالية الغير مثقلة بأي شروط مهما كان نوعها ومستواها.
لمزيد من المعلومات ، يرجى التواصل مع رئيس المكتب المالي على البريد الالكتروني [email protected]
كما يمكنكم التواصل مع الرئيس التنفيذي للحزب على العنوان [email protected]
أطيب التحيات.
“تاريخ سورية المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011”
المؤلف: كمال ديب
الطبعة الأولى، بيروت، 2011.
الناشر: دار النهار.
عدد الصفحات: 830 من القطع المتوسط
مراجعة: حمزة المصطفى
يُعتبر كتاب “تاريخ سورية المعاصر” للكاتب كمال ديب، الوحيد في المكتبة العربيّة حتى الآن، الذي يؤرِّخ في عملٍ بحثيٍّ واحدٍ حقبًا تاريخيّةً متعدِّدةً من تاريخ سورية، تمتدُّ من الحكم الفيصلي إلى عام 2011. هذه الميزة النسبيّة تجعل من الكتاب واحدًا من أهمّ المراجع العربيّة المتخصِّصة بحثيًّا في تأريخ التّاريخ السوري، أو ما يدعى بالإيستوريوغرافيا بشكلٍ يغطِّي ثغرةً لطالما وُجدت في المكتبة العربية، وحتّى الأجنبية، لعدم وجود مرجعٍ حديثٍ وشاملٍ عن بلدٍ مثل سورية يحظى بأهميّة جيوسياسيّة كبيرة، بما يجعله واحدًا من المحاور الأساسيّة التي تتفاعل فيها القوى الدوليّة والإقليميّة.
يقع كتاب “تاريخ سورية المعاصر” في 27 فصلًا يضعها الكاتب ضمن خمسة أجزاءٍ رئيسة، يتناول في الجزء الأول ما يسمّيه ولادة “الدّولة الوطنية”(1) بعد جلاء القوات الفرنسيّة عن سورية عام 1946، والقائمة على الحدود الجغرافيّة السياسيّة التي حدَّدتها اتفاقيّة سايكس بيكو. إذ يقدم عرضًا تاريخيًّا عن مرحلة الانتداب الفرنسي ونهج التجزئة الاستعماريّة في تقسيم سورية على أساسٍ طائفيٍّ، ويُلحق ذلك بموجزٍ توصيفيٍّ عن تاريخ الطّوائف الدينيّة في سورية (السنة، العلويون، الدروز..)، ويعرض سمات الاقتصاد السوري ومراكز الثِّقل الاقتصادي في هذه الفترة قبيل الانتقال إلى أهمّ الأحزاب السياسيّة التي كانت موجودة عند الاستقلال (حزب الشعب، الحزب الوطني، الشيوعي، القومي السوري، عصبة العمل القومي، الاشتراكي العربي..)، إذ يقدِّم أيضًا موجزًا عن نشأتها، وتبلورها، وعن الشخصيّات السياسيّة المؤسِّسة لها. كما يخصِّص الباحث كمال ديب في هذا الجزء مبحثًا يركِّز على ولادة الجيش الوطني والظروف الداخليّة والحزبيّة التي رافقت تأسيسه، ويختتم هذا الجزء بعرض الأخطار الخارجيّة العربيّة، والإقليميّة التي واجهت الدّولة الجديدة، وأبرزها نكبة فلسطين عام 1948.
يعالج الكاتب في الجزء الثّاني من الكتاب الصِّراع الإقليميّ- الدوليّ على سورية، وما رافق ذلك من انقلاباتٍ عسكريّةٍ وفوضى في الحياة السياسيّة (انقلاب حسني الزعيم، انقلاب سامي الحناوي، انقلاب أديب الشيشكلي)، ويستعرض في هذا الجزء أيضًا محاولات جيران سورية ابتلاعها وجرّها إلى صراعاتٍ وأحلافٍ إقليميّةٍ بالتنسيق مع قوى داخليّة حزبيّة وسياسيّة مثل مشروع سوريا الكبرى الأردني، ومشروع الهلال الخصيب العراقي، ومشروع الهلال الخصيب العراقي- التركي، من ثمّ نهوض المشروع القومي العربي الذي بلور أوّل وحدة عربيّة عام 1958، لكنّه جعل سورية مجرّد إقليمٍ في الجمهوريّة العربيّة المتحدة.
أما الأجزاء الثلاثة الأخرى، فهي تحقيب لمرحلة ونهايتها، الأولى عنونها الكاتب بـ ” ثورة البعث” والتي امتدَّت من عام 1963 إلى عام 1970، لتبدأ المرحلة الثانية من دولة البعث في فترة حكم الرّئيس السابق حافظ الأسد منذ عام 1970 حتى وفاته في عام 2000، وهي مرحلة صعود سورية كقوّةٍ فاعلةٍ في الإقليم تشهد استقرارًا في نظام الحكم مقارنةً بمراحل تاريخيّة سابقة. أما الجزء الخامس والأخير فيغطّي فترة حكم الرّئيس بشار الأسد منذ تسلّمه السلطة بعد وفاة والده عام 2000 إلى انطلاق الثّورة السوريّة عام 2011. ويستعرض الكاتب في هذا الجزء جميع الملفّات السياسيّة الداخليّة والاقتصاديّة والملفّات الإقليميّة ودور سورية في أحداث لبنان، والعراق، والقضيّة الفلسطينيّة، إضافةً إلى تحالفاتها وأنساق سياساتها الخارجيّة.
يُنظر إلى “التّاريخ الجديد” على أنه يمثِّل اتجاهاتٍ وليس مدرسةً، وهذه الاتجاهات تتطلّب انفتاحًا على كافة مجالات العلوم الاجتماعيّة والإنسانية: على الجغرافيا والاقتصاد، والديموغرافيا، والسوسيولوجيا وعلم النفس. والسؤال الذي يُطرح في ضوء ذلك هو: إلى أيّ حدٍ استخدم الباحث الاتجاهات الجديدة في بحثه؟
لقد استخدم الكاتب في بحثه هذه الاتجاهات إلى حدٍ كبيرٍ، إذ اعتمد على شبكةٍ منهجيّةٍ تتكامل فيها العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، فنجد تركيزه في تأريخ الحقب التّاريخيّة على تحليلٍ بنيويٍّ (مراكز القوى) لأنظمة الحكم المتعدِّدة في سورية، وتموضعها في إطار الجغرافية السياسيّة العربيّة والإقليميّة المحيطة، وطبيعة الاقتصاد السوري في هذه الحقب ومؤشِّراته الكليّة والجزئيّة. إضافةً إلى دراسة الخصائص الكاريزماتيّة للقادة والشخصيّات السياسية، عدا عن المؤشِّرات والأرقام المتعلِّقة بالبعد الديمغرافي والخصائص الإثنيّة والعرقيّة للشرائح السكانيّة في سورية وتفاعلاتها مجتمعيًّا. وبالتالي فإن بناء “الإستوريوغرافيا” الذي يلاحظ في منهج الكاتب لم يعتمد على الممارسة التّاريخيّة بمعناها الكلاسيكي بل شمل مختلف الظواهر الإجرائية. من هنا يُعتبر العرض التّاريخي الذي قدَّمه الكاتب “عرضًا كليًّا” من الناحية المنهجيّة، خاصةً عندما حاول الكاتب بالقدر الأكبر الابتعاد عن مدخل “شخصنة النظام” أو تغليب “التّحليل المذهبي” للتاريخ ولا سيما في مرحلة حكم الرّئيس السّابق حافظ الأسد مرتكزًا على المنحى البحثي الذي قدَّمه الكاتب الألماني فولكر بيرتس الذي وضع نقدًا شاملًل للمنطق الأقلّويّ في الأبحاث الغربيّة التي تناولت سورية، ليركِّز على الجانب الاقتصادي، والسوسيولوجي لوقف التهافت على اعتماد المذهبيّة فقط كأداةٍ للتحليل الأوّلي في فهم تاريخ هذا البلد (ص 26). وبالتّالي نجح الكاتب إلى حدٍ كبيرٍ في التغلّب على مشاكل جمّة حكمت نمطًا من تعاطي البعض مع التّاريخ، وكأنّه سيرة شخصيّة للملوك والرؤساء والزعماء. الأمر الذي جعله يُفرِد مساحةً واسعةً لمعالجة وتحليل البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والخلفيّات المؤسَّساتيّة من أحزابٍ، وهيئاتٍ سياسية، وجماعاتٍ منظَّمة.
وما ميَّز العمل أيضًا نجاح الكاتب في تجاوز “المفارقة التّاريخية” في عمله، والتي تُعتبر بحسب “لوسيان فيفر” الخطيئة الكبرى في الكتابة التّاريخية، وتتجلّى في إسقاط مشاعر ومفاهيم مرحلةٍ معيّنةٍ على مرحلةٍ أخرى لم تعرفها، وغالبًا ما تقع الكتابات التّاريخيّة السورية في هذا الفخ نتيجة خلطها ما بين الأيديولوجي والتوظيفي واستخدامها التّاريخ أداتيًّا لتبرير أفكار وخطط في مرحلتها.
إذًا، يمكن القول أنَّ الكتاب يعرض بشكلٍ مكثّفٍ التّاريخ السوري العام خلال الفترة الممتدّة من عام 1920 إلى عام 2011، ويتميّز بحصافة تحقيبه للمراحل الأساسيّة في هذا التّاريخ. ويتابع الكاتب هنا الإطار العام لعمليّة التّحقيب في بعض كتب التّاريخ السوري العامّة في المكتبة التّاريخيّة السورية، لكنّه يضيف المرحلة الممتدّة ما بين عام 2000-2011، وتلك من أبرز الإضافات الجديدة التي يقدِّمها العمل، لكن من دون أن يبيِّن بشكلٍ كافٍ نهاية هذه المرحلة (نهاية النموذج) واصطدامه بالتناقضات القائمة حاليًّا. إذ كان من المتوقّع في ضوء اختصاص الباحث ومهاراته المهنيّة المتعدِّدة ولا سيما في مجال الاقتصاد السياسي أن يقدِّم تبريرًا للوقفة النهائيّة باعتبارها حقبةً مكتملة الخصائص والصيرورات والنتائج.
وبرأينا فإنَّ السبب الذي أعاق إظهار خصائص هذه المرحلة بشكلها الواضح هو ميل الكاتب لتناولها في إطار “معياري إيجابي” موضوعيًّا، لكنّه بعيدٌ عن الأيديولوجيا، فمدخل الابتعاد عن الشخصنة بشكلٍ كبيرٍ لتحليل الشؤون السوريّة يجب أن لا يبعدنا عن دراسة “الشخصية”، وهذا ما أوقع الكاتب في هفواتٍ حادت به عن دراسة تأثير الخصائص السياسيّة والكاريزماتيّة للقيادة، ومدى انعكاساتها على صيرورات الحدث التّاريخي. وقد تجلّى ذلك بشكلٍ طفيفٍ في مرحلة السبعينيات، وبشكلٍ أكبر في مرحلة الرّئيس بشار الأسد، إذ نظر الكاتب ضمنيًّا لعهد إصلاحي كبير دون الأخذ في الاعتبار المستجدّات الطارئة باحتجاجاتٍ في مناطق عدّة من سورية غالبيتها تأثّرت سلبيًّا بالسياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة المتّبعة في العشريّة الأخيرة(2).
إن التركيز على هذا البعد ليس له علاقة بتموضعٍ أو توجّهٍ سياسيّ، وإنما هو جزءٌ من إطارٍ منهجيٍّ كان من المفترض تداركه بمحاولة الابتعاد عن تأريخ الدّولة باتجاه تأريخ السلطة (تفاعل القوّة). وهذا الجانب السلطوي (القوّة) أحد أهمّ مداخل تأريخ التّاريخ الجديد الذي يتبعه الكاتب منهجيًّا، إذ يرى الدكتور وجيه كوثراني في كتابه “تأريخ التّاريخ” أن “التجديد الذي أعاد إلى التّاريخ السياسي موقعًا بين اهتمامات التّاريخ الجديد يتمثّل في التّأريخ للسلطة وليس للدولة، ذلك أن التّأريخ للسلطة، بما هي علاقات قوّة المجتمع، هو تأريخٌ لطبقاتٍ، وفئاتٍ، وأيديولوجياتٍ، وأفكارٍ، وأساليبَ تحكمٍ، وسيطرةٍ، وإخضاعٍ، واستتباعٍ. وفي المقابل هو أيضًا تاريخٌ لأشكالٍ من الخضوع والتبعيّة والاستلاب، أو لأشكال من الرّفض والممانعة والمقاومة”(3).
ووفقًا لهذا المنظور يصبح التّاريخ السياسي بحسب وجيه كوثراني تاريخًا علائقيًّا للسلطة(4) في المجتمع، وليس تاريخ مؤسّساتٍ وسياساتٍ عليا للحكومات، وللأحزاب فحسب.
لقد صدر كتاب “تاريخ سورية المعاصر”في نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2011، وبرأينا فإنَّ المدّة الزمنيّة بين تاريخ صدور الكتاب، وتمظهر الثّورة السوريّة كانت كفيلةً بجعل الكاتب يراجع مقاربته الاقتصاديّة والسوسيولوجيّة بشكلٍ عميقٍ. صحيح أنَّ العرفَ المنهجيَّ في هذا الحقل المعرفي يرى أن المرحلة التّاريخيّة يتم تأريخها بوضوح نهايتها، وهذه نقطة منهجيّة تبرِّر للكاتب عدم الرغبة في الخوض تفصيليًّا في المدّة الزمنيّة التي أعقبت انطلاق الثّورة السورية، لكنّها لا تبرِّر له تجاهلها، على اعتبار أنَّ هذه الفترة لا تكتسب أهميَّتها من تفاصيل الحدث، وإنّما من كونها أنهت على الأقل معالم المرحلة الممتدّة بين عامي 2000-2011. وعلى سبيل المثال، فقد أناطت الرقعة الجغرافية، التي انتشرت فيها الاحتجاجات الشعبيّة السلمية، اللثام عن التصوّر النّمطي الخاطئ عن نجاعة السياسات الاقتصادية، الاجتماعيّة التي تم اتّباعها، وبالتالي فإنّ ضرورة تناولها من واقع التحليل الاقتصادي أمرٌ من شأنه أن يدقِّق التعميمات المستنتجة، وكان سيساعد على إنضاج الخاتمة المناسبة التي غابت عن الكتاب والتي تجسِّد تجذّر الاحتجاجات الشعبيّة المطالبة بالتغيير، والتي اقترب الكاتب في توصيفها من الخطاب الرسمي السوري. وبرأينا لو حصل ذلك لكنّا أمام مرجعٍ غنيٍّ، وعميقٍ، خاصةً وأنَّ المكتبة الاقتصاديّة السوريّة توفِّر مراجعَ علمية، وبياناتٍ إحصائيّة ودالّات اقتصاديّة تمكِّنه من ذلك.
يعتمد الباحث في معظم مراجع الكتاب على الكتب والدراسات الغربيّة ولا سيما المؤلَّفة باللغة الإنكليزيّة، أو بعض الأعمال العربيّة المترجمة باللغة الإنكليزيّة. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار الكتاب نوعًا من معالجةٍ تركيبيّةٍ لما جاء في ذلك الإنتاج باللغة الإنكليزيّة أو المترجم إليها.
ويُطرح هنا تساؤلان رئيسان، أولهما: ما درجة اعتماد الكاتب على التّراكم في حقل الكتابة التّاريخيّة السورية؟. والثاني: ما الجديد الذي يقدِّمه الكتاب على مستوى المراجع أو بناء الوثائق والمعطيات الجديدة أو على المستوى التّراكمي والنّوعي للاستغرافيا الجديدة؟
تتمثَّل ثغرة الكتاب في أنه اعتمد كما ذكرنا سابقًا على الإنتاج باللغة الإنكليزيّة أو المترجم إليها، وهو محدودٌ، وانطوى الاقتباس من بعضها على أخطاء لغويّة وفكريّة(5). وتتجلّى ثغرة الكتاب أيضًا في أنَّ الكاتب لم يبحث في مصادر ومراجع (ملقاة على الرصيف) في سورية من نوع الكم الكبير من الوثائق الأصليّة المتاحة في مركز الوثائق التّاريخيّة بدمشق، وأعداد الجريدة الرسمية، هذا إذا لم نذكر المراجع المساعدة والتي تحتاج كما الوثائق إلى النّقدين الداخلي والخارجي. والواقع أنَّ العودة إلى هذه المصادر والمراجع المتاحة، بما في ذلك كتب المذكّرات التي يتطلَّب استخدامها في حقل الكتابة التّاريخيّة بناءَ إطارٍ نظريٍّ مضبوطٍ للمذكّرات كمصدرٍ مساعدٍ فيها، بما يعطي مجمل الوقائع والصيرورات التّاريخيّة طابعًا حيويًّا هو من أكثر ما يحفل به المؤرِّخ. ويصل عدد كتب المذكّرات المنتجة وفق المسح الذي قام به الباحث جمال باروت إلى أكثر من 130 كتابًا حتى الآن. وفي المجمل لا صحة لشكوى بعض الباحثين من ندرة الوثائق في سورية، بل على العكس من ذلك فإن الباحثين والمؤرّخين لم يستخدموا حتى ما هو متاح وسهل الوصول إليه في بحوثهم، فضلًا عن الإمكانيّة المفتوحة في بناء معطيات وسلاسل جديدة في ضوء مفهوم بعض اتجاهات التّاريخ الجديد لما يسمى بالتّاريخ “السلاسلي”. ويسمح التّاريخ السلاسلي ببناء المؤشِّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعمرانيّة التي يكون من الصعب بدونها فهم العمليّات التّاريخية.
لذلك بدا العمل من الناحية الأكاديميّة يفتقد “مصدرية” الوثيقة، التي هي أقوى من المرجع المكتبي على أهميته. ولا يمكن تبرير الاعتماد منهجيًّا على اتجاهات التّاريخ الجديد للاستغناء عنها، فعلى الرغم من الضربة “القاضية” التي وجّهتها مدرسة “الحوليّات” لمفهوم “الوثيقة” التقليدية، كما رسّختها المدرسة “المنهجية” الفرنسية، فإنَّ هذا لم ينفِ قط أهميّة الوثيقة التقليديّة وأساسيتها في بناء التّاريخ. وكان نقد “الحوليات” متعلقًا بعبادة الوثيقة واعتبارها مصدرًا وحيدًا لبناء التّاريخ، بينما رأت إمكانيّة بناء الوثائق غير التقليديّة من خلال معطياتٍ لامتناهية، وهذا هو التّاريخ الاجتماعي مكان النصوص. وفي كتاب كمال ديب وجدنا افتقادًا لمصدريّة الوثيقة بالمعنين الحولياتي والمنهجي لصالح الاعتماد على دراسات وكتب وسيطة تناولت ذلك أو استندت إليه أو علّقت عليه. وفي مفهوم التراكم العلمي ليس على المؤرّخ أن يعيد اختراع العجلة، لكن في حال الاعتماد على مراجع وسيطة تشتد الحاجة إلى نقديته. كما يعتبر إهمال الكتاب للجريدة الرسميّة نقصًا فادحًا في فهم التّاريخ السوري، وهدرًا لوثائق متاحة ومتوفِّرة. ونتساءل هنا عن أيّ إمكانيّة علميّة لبناء التّاريخ من دون العودة إلى وثائق الجريدة الرسميّة التي تمثِّل بالنسبة إلى المؤرِّخ المحترف منجمًا هائلًا ليس لحياة بيروقراطيّة الدّولة فحسب بل ولتاريخ المجتمع، ففي الجريدة الرسميّة قرارات ومحاضر لجان تحقيق، وأحكام القضاء، وقرارات الوزارات، وكافة قرارات المجالس النيابية، وهذا كنز ثمين. إذ إن عدم الاعتماد مثلاً على مداولات المجالس النيابيّة المنشورة في الجريدة الرسمية، والتي تضم مداولاتٍ أساسيّةً تستخدم معلوماتٍ مسجّلةً وموثقةً، حرم العمل من الكشف عن اتجاهات ومواقف الأحداث الأساسيّة التي يكثِّفها الباحث بعين المؤرِّخ. والواقع أنَّ البرلمانيين السوريين كانوا منحدرين من خلفيّاتٍ متعدِّدةٍ تعكس بنية المجتمع، وبالتالي تكشف مداولاتهم المغلقة جانبًا كبيرًا من صورة الأحداث الأساسيّة التي يهتمّ بها المؤرِّخ. ومادامت معظم التواريخ قد أهملت الجريدة الرسميّة كمصدرٍ وثائقيٍّ أساسيٍّ في مهنة مؤرِّخ التّاريخ السوري فستبقى كافة هذه الكتابات محاطة بالقصور في منظور المؤرِّخ المحترف، لأنَّها تمثِّل حالة التفاعل “الساكن” بين الدّولة والمجتمع، ومهمّة المؤرِّخ هي نقل التّاريخ “الساكن” إلى تاريخٍ متحرِّكٍ بفهم سياقات ما نشر في تللك الجريدة ووظائفه والقوى الاجتماعيّة التي تقف خلفه، ومستوى الرصيد الاجتماعي المعلوماتي الذي تعبر عنه.
يُضاف إلى ذلك مشكلة ديب في الاعتماد على ملخّص الملخّصات في التّاريخ الاقتصادي- الاجتماعي مع توفر المصادر الأصليّة والمرجعيّة بشكلٍ وافٍ. فالتّقارير الصحفيّة والسياسيّة والتعليقات والملخّصات تنطوي كلّها على هامش الانحراف في منظور المؤرِّخ المحترف في ضوء توافر الوثيقة، ولا تصلح للاستخدام ما لم يتمّ التأكّد من صدقيّة مستنداتها. وحين يتمّ التأكّد من هذه المستندات يتمّ اعتماد تلك الملخّصات. وما غامر فيه الباحث هو تضييع مفهوم الطف Nuance في فهم الحدث التّاريخي بسبب وسائطه النصيّة في فهم التّاريخ السوري العام.
وفي الخلاصة، لا نستطيع القول إلا أن كمال ديب قدَّم جهدًا بحثيًّا متقدِّمًا يجعل من الكتاب قبلةً للمهتمّين بحثيًّا وسياسيًّا في تاريخ سورية، ولا شكّ سيكون له موقعٌ مرجعيٌّ في المكتبة العربية.
الهوامش
(1) يستخدم الكاتب مصطلح “الدّولة الوطنيّة” بمعناه ” القطري” تمييزًا عن سورية الطبيعية في الإطار الجغرافي، وعن الحكم الملكي في العهد الفيصلي 1916-1920.
(2) جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية: جدليّة الجمود والإصلاح (الدّوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، 2012).
(3) وجيه كوثراني. تأريخ التّاريخ: اتجاهات – مدارس – مناهج (الدّوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، ط1، 2012)، ص 398.
(4) طبعًا السلطة هنا بمعنى القوّة.
(5) وردت العديد من الأخطاء اللّغوية في الكتاب، والتي لا ينظر لها باعتبارها تشكِّل ثغراتٍ في البحث، وقد تكون ناجمة عن أخطاء طباعية، أو مصدرها خاطئ، خاصةً وأنَّ أغلبها يعود إلى مراجع أجنبية مثل:
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...