استشهد أحد أبرز ضيوفه وصور معظم أحياء المدينة المحررة: فيلم «اغتيال حلب»: كيف تحولت الشهباء إلى مقبرة كبيرة؟
باريس ـ «القدس العربي»: مروعة تلك اللقطة التي يفتتح بها التسجيلي السوري «اغتيال حلب» حين يعرض في مستهله لمقبرة شاسعة، لعلها الأكبر من بين ما قد يشاهده المرء.
شواهد قبور سرعان ما ستختلط مع أعمدة وبيوت المدينة، إلى أن يضيع الفارق. تغيب المقبرة أثناء الفيلم، وتعود، فتصبح هي اللازمة. نحن منذ اللحظة الأولى أمام مقبرة ومغن.
لا شك أن خراباً، وغياباً بهذا الحجم يحتاج إلى من يرثيه، ومن لذلك سوى المنشد الحلبي أحمد حبوش، يقول بصوت ولا أجمل «والله ما مال الفؤاد لغيركم، وإني على جور الزمان صبورُ».
يسجل الفيلم غياب أهل المدينة، وفراغها المروع، فيما يكتب في المقدمة «حلب أكبر مدينة سورية، بلغ تعداد سكانها عام 2011 خمسة ملايين. من أقدم المدن المأهولة في العالم، تعود إلى الألفية السادسة قبل الميلاد.
مدينتها القديمة مصنفة ضمن مواقع التراب العالمي لليونسكو»، لكن أحد ضيوف الفيلم يصف حالها اليوم «لو تعلم ما في حلب اليوم، حلب القديمة مسحت في الكامل»، ويمضي يعد أسواقها القديمة وخاناتها وجوامعها وأمكنتها التاريخية.
يتحدث عن تقصد النظام إشعال الحرائق في محالها.
لا يقدم الفيلم شخصياته وضيوفه على نحو اعتباطي، يبدو وكأنه اختارهم ليكونوا بديلاً، متحدثين بصوت مجتمع بأسره، وكما لو أننا أمام نص مسرحي يريد أن يختصر المدينة بتاجر ورجل دين وعسكري، نجد أنفسنا هنا أمام مصور (كرم المصري) يدرك أن الكاميرا هي العدو الأول للنظام، فوحدها الشاهد القادر على تسجيل فظائعه، إلى جانب العسكري محمد الغول، قائد كتيبة في الجيش الحر.
الغول، ولا شك أن الفيلم تعمد اختياره من أهالي المدينة، يأخذنا إلى أحيائها، بل إلى بيت أهله بالذات، البيت الذي ولد فيه ولا يطاوعه قلبه الدخول إليه، لكنه الآن يدخل، ويصف حال الزرع فيه، كيف يبس بعدما هجره أهله.
واضح أن الفيلم تعمد أيضاً أن يظهر المقاتل هشاً إلى هذا الحد على المستوى الإنساني.
يستعرض الفيلم مبادرات مدنية من قبيل تأسيس نقطة طبية بجهود ذاتية متواضعة، أو مركز للدفاع المدني، يتحدث اسماعيل عبدالله، فيستعيد بعض الصور والمشاهد القاسية التي واجهها أثناء محاولات الإنقاذ، كما يتحدث المسعف حذيفة محمد كيف فوجئ بالجرحى الواصلين إلى نقطته الطبية بأنهم أبناء حارته، حين يتسنى له الوصول إلى الحارة سيجد أن الضربة قد غيرت معالمها تماماً.
ثم يتحدث أستاذ مدرسة (شهاب الدين أبو بكر) عن تعليم الأطفال عبر اللعب، ونرى بالفعل مشاهد من تفاعل الأطفال في صف دراسي.
لدي حلم
تعود الكاميرا دائماً إلى «دار مار الياس للمسنين» التي تقع بحماية ورعاية المعارضة، سنرى ميشيل أبو يوسف المشرف على الدار، رجل في بداية عقده السادس، يائس وحزين، إلى حد أنه يطلب ويتمنى الموت كي لا يرى الأبشع.
«كفاها المولى»، يقول ميشيل، ونعلم أنه قضى شهيداً بعد أشهر قليلة من إنجاز الفيلم (انتهى تصوير الفيلم في كانون الثاني/ يناير 2015، وعرض في آذار/مارس الماضي).
لم يعد ذلك خبراً نافراً، لطالما حدث ذلك في سوريا، أن يقضي أبطال فيلم تسجيلي بعد أو أثناء مشاركتهم في فيلم، وأحياناً أن يقضي صناع الفيلم أنفسهم، كما حدث للسينمائي الشهيد باسل شحادة، لقد كان لميشيل ما أراد، لم يشأ أن يرى الأسوأ.
ما زال حزنه ساطعاً، يمشي نحيلاً، بكتفين محنيين، وحيداً في الأزقة الضيقة ليصل إلى دار المسنين، يتحدث بصوت خفيض، وبعينين ليس فيهما حتى طاقة النظر إلى الكاميرا، كل شيء فيه كان يقول إن شمسه غربت، ولا بد من الرحيل.
يعتمد الفيلم تسليط الضوء على عودة بعض الشخصيات إلى البيوت التي عاشت فيها، هكذا يجري تصوير الباحث محمد محمود وهو يعود إلى بيته المدمر، ليصف ما حل بشجرة النارنج، ويتفحص أوراقاً مدرسية.
كما يصور المغني حبوش وهو يجول في بيته، ويطعم الحمام، ويغني لها، لكن أغنيته تتداخل مع «حمام» النظام الذي يغط باتجاه المدينة المكتظة ليلقي براميله المتفجرة، فتنطفئ الأغنية، ويشتعل الصراخ. أما على الضفاف الأخرى فكان ثمة أمل. كان هناك مسار للأطفال، في أراجيحهم، وفي عيدهم، ومدارسهم. وكان لهم خطابهم للكاميرا كي يجيبوا عن سؤال بماذا تحلم.
طفل يحلم بأن يعود أصحاب المدرسة، وجيرانه، وبأن يصبح طبيباً. طفلة قالت إنها تحلم بأن يعود أبوها الميت! وأخرى قالت بأنها لا تحلم بشيء. مسار يذكرني بفيلم للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي قام كله على سؤال أطفال المخيمات «بماذا تحلم». ليس مهماً ما سيكون عليه جواب الأطفال، المهم أن لديهم حلماً ما. ويبدو بالفعل أن لأطفال الفيلم أحلامهم، لقد ظهر طفلان وهما يبنيان جداراً كما يفعل الكبار في مهنة البناء، نعني بناء جدار حقيقي. كما ظهر المدرس وهو يرقص أطفاله ويغني معهم أغنية حلب الشهيرة «حر، حر، حرية». قبل أن نرى أسواق حلب ودبيب الحياة فيها. ليختم الفيلم على إيقاع تلك الأغنية.
أثناء ذلك ستتوقف الكاميرا عند جدار يحمل رسماً لولد وبنت، أمام شمس ورسم لجدار ملون، يرتديان علم الثورة، والتوقيع «بستان القصر».
مع عبارة كتبت تحت الصورة «أميركم تحت أقدامنا».
العبارة كأنها جاءت تعويضاً عن جزء منقوص في الفيلم، كأنها جاءت تذكر بالقوى المتطرفة، ولكن عبر الاعتراض عليها، بأقصى ما يكون الاعتراض.
أما الجدار الأخير الذي سيختم به الفيلم «كأن الجدران شخصيات من لحم ودم، تقول، فيُسمع صوتُها واضحاً» فقد حمل عبارة أكثر أملاً وإصراراً، كان جداراً مدمراً، فوق بيت مدمر، كتب عليه «ماضون بثورتنا رغم كل هذا الدمار».
كتبت العبارة بشكل لصيق لعبارة أخرى تقول «رجاء تحب بديع». ثلاث كلمات تخفي (أو تعلن) وتلخص قصة حب. كل الأمل أن يكون بديع قد حظي بحب رجاء، فمن المؤكد أنه هو من كتب العبارة، لا رجاء. وكل الأمل أيضاً أن تتكلل قصتا الحب (الحب والثورة) بخاتمة سعيدة.
يذكر أن العمل لم يحمل اسم المخرج، فقط ورد اسمه المعدّين وائل عادل وضرار خطاب وفريق التصوير فايق الحلبي، بيان حسن، محمد زيدان، بكري كعكة، أبو محمد الحلبي، وبإشراف فريق برنامج «تحت المجهر» في قناة «الجزيرة».
استشهد أحد أبرز ضيوفه وصور معظم أحياء المدينة المحررة: فيلم «اغتيال حلب»: كيف تحولت الشهباء إلى مقبرة كبيرة؟
هل ترغب بالتعليق على هذا الموضوع ؟
تسعدنا مشاركتك ...